في تأريخ الفكر العراقي الحديث، يبرز أسم عبدالحسين شعبان، كأحد المفكرين والباحثين البارزين الذين تركوا بصمة مميزة، ليس فقط في مجال الدراسات الفكرية والسياسية، بل في النضال من أجل العدالة وحقوق الإنسان، والالتزام العميق بقضايا الشعوب العادلة، وفي مقدمتها قضايا التحرر، والدولة المدنية، والقضية الفلسطينية، والقضية الكردية. ينتمي شعبان الى الجيل الذي تفتح وعيه في خضم التحولات السياسية والاجتماعية العميقة في العراق والمنطقة، فآنخرط مبكراً في الحركة اليسارية، حاملاً هموم الناس وتطلعاتهم، ومدافعاً عن الكادحين والمهمشين، عبر فكر نقدي تحليلي، وسلوك عملي ملتزم. ولم يكن آنخراطه في الفكر اليساري مجرد موقف أيديولوجي، بل كان تعبيراً عن رؤية إنسانية ترى في الحرية والكرامة والمساواة قيماً غير قابلة للمساومة.
مسيرة علمية وفكرية ثرية
يحمل المفكر والاكاديمي عبدالحسين شعبان شهادة الدكتوراه في القانون الدولي، وقد شغل مواقع أكاديمية وفكرية مرموقة، وكان حاضراً دائماً في المحافل الثقافية والندوات الحقوقية، صوتاً حراً ومدافعاً شرساً عن الحقوق المدنية والسياسية. تتوزع كتاباته بين القانون، والفكر السياسي، وحقوق الإنسان، والدين والمجتمع، وموضوعات الدولة والمواطنة، وقدّم من خلالها إسهامات نوعية أثرت النقاشات الفكرية داخل العراق وخارجه. يمتاز أسلوبه بالرصانة، والقدرة على الربط بين التحليل الأكاديمي العميق والسياقات الواقعية، مما يجعل قراءته ممتعة وذات قيمة علمية في آنٍ معاً. كما عُرف بتنوع مقالاته وأبحاثه، التي تتناول قضايا الساعة برؤية نقدية وإستشرافية، دون أن يفقد البوصلة الإنسانية التي تحكم مشروعه الفكري.
مناضل في الميدان الحقوقي
الى جانب مسيرته الفكرية، عُرف عبدالحسين شعبان كأحد الأصوات البارزة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وكان ناشطاً في عدد من المبادرات والهيئات الدولية التي تهتم بالحريات، وسيادة القانون، ومناهضة العنف والطائفية. تبنى مبكراً خطاباً يقوم على العيش المشترك، والمواطنة، ونبذ الإقصاء والتهميش، داعياً الى دولة مدنية ديمقراطية تتسع لجميع مكوناتها. لقد كان لقلمه دور مهم في التوعية بخطورة الإستقطابات الطائفية والقومية، وفي فضح آليات الإستبداد، سواء أتت من أنظمة سلطوية أو من تيارات متطرفة. وفي كل ذلك، ظل وفيّاً لمبادئه، ولم يسعَ الى مكسب شخصي أو منصب سياسي، بل بقي ملتزماً بالموقف الأخلاقي الذي يُلزم المفكر الحقيقي بأن يكون في صف الضعفاء والمظلومين.
القضية الكردية والقضية الفلسطينية
يتبنى المفكر والإكاديمي عبدالحسين شعبان مواقف إنسانية وعقلانية وقانونية تجاه القضيتين الكردية والفلسطينية، تنطلق من مبادئ حقوق الإنسان والعدالة. فمن ناحية القضية الكردية، يدعو شعبان الى الإعتراف بحقوق الكرد المشروعة، بما في ذلك حقهم في تقرير المصير ضمن إطار يحترم التعددية ووحدة الدولة. كما أنه يؤكدعلى أهمية الحوار بين العرب والكرد، ويدين السياسات التمييزية والإقصائية التي تعرض لها الكرد تأريخياً في العراق وغيره عبرتأريخهم النضالي الطويل.
أما من ناحية القضية الفلسطينية، فهو من المدافعين الثابتين عن حقوق الشعب الفلسطيني، ويعتبر القضية الفلسطينية قضية عادلةومركزية في الضمير العربي والإنساني. ويرفض الإحتلال الإسرائيلي ويؤمن بحل عادل يضمن للفلسطينيين حقوقهم الوطنية، وعلى رأسها حق العودة وتقرير المصير، مع إدانة كافة أشكال العنف التي تمارسها سلطات الإحتلال. إن مواقفه، تتسم بالإعتدال والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعوب، مع التركيز على الحلول السلمية والقانونية. يعدّ عبدالحسين شعبان من الأسماء القليلة التي قاربت القضية الفلسطينية والقضية الكردية من منطلق إنساني وحقوقي بعيداً عن الشعارات الجوفاء. فهو لم يتعامل مع القضايا بوصفها أوراقاً سياسية، بل كمعاناة حقيقية تستدعي تضامناًأصيلاً ودائماً، يقوم على الإعتراف بالحق، ورفض الاضطهاد، والتأكيد على كرامة الإنسان.
صديق وفيّ وصوت لا يُشترى
بعيداً عن منابره الفكرية، فإن شعبان هو إنسان بكل ما تعنيه الكلمة، وصديق وفيّ، يعرفه كل من آقترب منه بتواضعه ودفئ مشاعره، وحرصه على الكلمة الطيبة والنقاش الهادئ. وهو ممن يجمع بين العقلانية والروح الحرة، لا يعرف المساومة على القيم، ولا يُشترى صوته بمغريات السلطة أو المال. كثيرون يعرفون عبدالحسين شعبان بوصفه مفكراً، باحثاً، وأكاديمياً مرموقاً. لكن من يعرفه عن قرب، يعرف شيئاً أعظم من كل ذلك؛ إنسان بقدر كبير من النُبل، لا تغيره المواقع ولا يغريه البريق، صديق يُعتمد عليه في اللحظة الحرجة، وصوت عقل نحتاجه حين تكثر الضوضاء. فعلى مدى سنوات صداقتي المتواضعة معه، لم أره إلا كما هو في كتاباته؛ نزيه الفكر، رفيق الضمير، وفيّ لمبادئه ولأصدقائه. يتابعك بتواضع، يُصغي إليك بآحترام، ويمنحك من معرفته دون منّة. في كل لقاء معه، كنت أشعر أنني أجلس الى رجل يحمل همّ الوطن والإنسان على كتفيه، لكنه لا ينسى أن يبتسم، أن يضحك، أن يروي الحكايات المتنوعة، في عالم السياسة أو الأدب أو الدولة، أو يسترجع ذكرى من زمن الأمل. هو ليس مجرد صديق، بل هو مدرسة في الوفاء، وفي الأستقامة، وفي الإيمان بأن الكلمة الشريفة لا تموت.
يتجسد الفكر في إنسان
في زمن يعجُّ بالضجيج والإدّعاء، يبقى عبدالحسين شعبان صوتاً نقياً لا يتلوث، وقلماً لا ينحني، وضميراً حياً لا ينام. هو شاهد على حقبة عراقية متقلبة، لكنه لم يكن يوماً شاهد زور، قاوم التهميش بالكلمة، وحارب الطغيان بالفكر، وبقي واقفاً، حراً، شريفاً، ومن حق الأجيال القادمة أن تقرأ له، وتتعلم منه، وتستلهم من مواقفه وشجاعته طريقاً لفهم هذا العالم، وتحويله الى مكان أكثر عدلاً وإنسانية. لا يمكن الإحاطة بتجربة عبدالحسين شعبان دون المرور على بعض من كلماته التي تحولت الى بوصلة فكرية وأخلاقية لمن يؤمن بحرية الإنسان وكرامته. فالرجل لا يكتب من أجل الكتابة، بل يكتب لطرح أسئلة، ويهز الساكن، ويوقظ الوعي.
ومن أبرزما قال:
(الحرية لا تُعطى، بل تُنتزع، ولا تُفهم كهدية، بل كحق لا يقبل المساومة).
(الفكر النقدي ليس ترفاً، بل ضرورة في مجتمعات تعاني من الإستبداد السياسي والتكلس الفكري).
(حين تُختطف العدالة بأسم الطائفة أو القومية، يصبح الصمت خيانة).
(الديمقراطية ليست صناديق إقتراع فحسب، بل وعي ومسؤولية ومؤسسات تحمي التعدد والتنوع).
إن كلماته لا تسكن في النص فقط، بل تعيش في ضمير كل من قرأ له أو سمعه أو حاوره. ولعل هذا ما يجعل من كتاباته مرجعية لكل من يسعى لبناء خطاب عقلاني وإنساني في زمن الإنقسام والتخندق.
أثره في جيل المثقفين الشباب
رغم أن عبدالحسين شعبان ينتمي الى جيل الأوائل من المثقفين، إلا أن حضوره وسط الشباب والمثقفين الجدد كان ولا يزال قوياً ومؤثراً. لقد أستطاع أن يبني جسراً بين الأجيال، لا من خلال الوعظ أو التنظير، بل من خلال الحوارالمفتوح، والدعم الحقيقي للمبادرات الشبابية، والمساهمة في تأسيس فضاءات فكرية حرة.
لقد ظهر أثرهُ في مراكز الدراسات الشبابية التي تبنت كتاباته كمصدر للفكرالنقدي والدولة المدنية، كما ظهرت في النقاشات الطلابية في الجامعات العراقية والعربية، حيث يتم تدريس بعض أعماله في قضايا السلم الأهلي ومناهضة العنف الطائفي. فضلاً عن، حظوره المميز في وسائل الإعلام بأنتظام ليتحدث بلغة مبسطة عميقة تصل لكل فئات المجتمع.
لقد أصبح مرجعاً أخلاقياً للكثير من الشباب الذين وجدوا فيه قدوة فكرية تُزاوج بين الثقافة والموقف، بين الحرف والمبدأ، بين القانون والضمير. إن الحديث عن عبدالحسين شعبان ليس مجرد إستذكار لسيرة مفكر وأكاديمي، بل هو إستحضار لقيمة معرفية وإنسانية وسياسية فريدة، تمثل ضميراً حيّاً في زمن تتشظى فيه الحقائق وتضيع البوصلة. هو من الأصوات القليلة التي لا زالت تؤمن بأن الكلمة يمكن ان تكون مقاومة، وأن الفكر الحر يمكن أن يكون بوصلة خلاص.
لعبدالحسين شعبان، الأستاذ، والصديق، وأيقونة العقل العراقي الحر، شكراً لأنك ما زلت تكتب، وتحلم، وتُضيء الطريق.