23 ديسمبر، 2024 5:18 ص

عامل على الطريق السريع

عامل على الطريق السريع

لم أتصور يوماً ما أن عملاً بسيطاً جداً يجعل أحد ألأشخاص في هذا البلد المنهك يصرخ بأعلى صوته وسط الشارع العام – أقصد الطريق السريع – ” أنت أفضل من كل البرلمان ” . تبدأ الحكاية البسيطة على الشكل التالي .

إعتدتُ كل يوم وفي أوقات مختلفة أن أخرج على دراجتي الهوائية المتواضعة وأجوب الشوارع والطرقات المتباينة من أجل التمتع بهواية ركوب الدراجات الهوائية دون أن أسبب لأي أحد أي ضرر. وجدتُ في هذه الهواية متنفساً رائع للخلاص من ساعات الجلوس الطويلة أمام الحاسبة وكذلك لأستنشاق الهواء بالأضافة الى سماع كتاب كامل صوتي من خلال النت – حيث أشترك بصورة دائمة على الشريحة – الحق يُقال وجدتُ في هذه الطريقة أجمل أنواع السعادة والمتعة التي يحلم بها شخص على شاكلتي . في هذه المرة خرجتُ في الساعة الواحدة ظهراً وكانت الشمس حارة نوعاً ما. إعتدت في كل مرة أن أصطحب معي – شدة كاملة من الماء البارد – حيث أتمتع بشرب الماء وأنا على الدراجة حينما أشعر بالعطش الشديد. كان طريقي هذه المرة يبدأ من الجسر السريع القريب من السيدية الى نهاية الطريق السريع عند معسكر الرشيد والعودة دون توقف. حينما وصلتُ الى جسر المشاة القريب من حلويات – جدو – بالقرب من شارع ستين شاهدتُ شباباً في عمر الزهور يرتدون بدلة صفراء ويكنسون الجانب الأيمن من الطريق. الحقيقة كنتُ أشاهدهم كل يوم منذ زمن طويل ولاأعرف هل أنهم يعملون في البلدية براتب زهيد أم أنهم جنود أمن يتظاهرون بهذا العمل ومراقبة الطريق ..في كلتا الحالتين هم أبطال بكل معنى الكلمة . لماذا ؟ لأنهم يعملون من الصباح حتى نهاية الدوام الرسمي كأنهم خلية نحل لاتكل ولاتمل. شاهدتُ أحدهم يجلس تحت الشجرة القريبة من الطريق ويمسح وجهه بقطعة من القماش ليزيل آثار العرق المتجمع على جبهته. دون وعي إمتدت يدي اليمنى وسحبت قنينة من الماء وصرخت بأعلى صوتي – خذ هذا ماء بارد- تلقفها بيديه بسعادة دون أن ينبس ببنت شفة . لم أتوقف أبداً .

بدأت ألقي القناني البلاستيكية لكل واحد من أؤلئك الأبطال دون أن أنظر الى وجهه وكان كل واحد يصرخ بأعلى صوته – ألف شكر- . كانوا متوزعين حتى نهاية الجسر القريب من معسكر الرشيد وكل واحد منهم متخصص في بقعة معينة لايتعداها.

حينما وصلت فوق الجسر القريب من محطة الكهرباء قرب معسكر الرشيد وأنا أرمي آخر قنينة من قناني الماء لأحد الشباب صاح بأعلى صوته ” ..أنت أفضل من كل البرلمان ” ..سحرتني تلك العبارة وضحكتُ في سريرة ذاتي. ساورني فضول كبير لتلك العبارة الساحرة. رجعت الى الوراء وسألته ” ..لماذا تقول هذه العبارة ؟ لم أقدم لك أي شيء سوى هذه القنينة من الماء وهي لاتساوي شيئاً؟” . نظر في وجهي وهو يزفر زفرة طويلة ويقول ” نعم أنت أفضل من كل البرلمان . طوال فترة عملي البسيط هذا لم يرم لي فرد من أفراد هذا الوطن أي شيء ..ولم ينظر لي أي شخص وكأنني نكرة . بدأت أكره نفسي .

مضى زمن طويل على وجود البرلمان لم أشاهد يوما أي عضو من اعضاء البرلمان ماعدا حينما يظهرون على التلفزيون . إذن أنت قدمت لي شيئاً بسيطاً ولكنه كبير في نظري . هل تصدق بأنني كنتُ عطشاناً جدا ..لقد جاءت قنينتك هذه في الوقت المناسب ..الله يبارك بيك” . دون أن أستمر في الحديث معه إنطلقت على الدراجة بأقصى سرعة كأنني أهرب من شيء مخيف. على طول طريق العودة من الجهة الآخرى – أي من معسكر الرشيد الى السيدية – لم أستطع التخلص من كل كلمة قالها ذلك الشاب الذي هو بعمر ولدي. كانت كلماته تعصر قلبي عصراً .

شعرتُ أن العراق يسير نحو الهاوية بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى . كل هذه الأموال العملاقة التي يتمتع بها أفراد الحكومة وكل من كان لديه منصب مرموق في هذا البلد وأبناء العراق يمارسون هذه المهنة البسيطة .

لو كان المسؤولون عن العراق قد إستخدموا كل المال المتدفق من أجل الشعب لكان أبناء هذا الوطن يعيشون عيشة الأمراء ..لكان بأمكان الدولة أن تستورد ملايين العمال من الدول الآخرى للقيام بأعمال التنظيف وغير ذلك.

نعم العمل هو العمل مهما صغر أو كبر ولكن كان بأمكان الدولة أن توظف هؤلاء في وظائف أخرى. هناك مساحة واسعة جدا للحديث عن هذا المفهوم لكن الفكرة واضحة جدا.

من خلال الأعلام سمعت وشاهدت وقرأت أن أحد أعضاء الحكومة يملك 60 مليار دولار وآخر يملك 40 مليار وآخر ثلاثين مليار والقائمة طويلة يستطيع أي شخص أن يجدها على النت…يا إلهي هذه المليارات لو أستخدمت في بناء العراق وتطوير الصناعة والزراعة لتحول العراق الى دولة من الدول المتقدمة الأولى وليس دولة ليس لها وجود عدا الأشياء الكثيرة البائسة التي نشاهدها كل يوم في مختلف وسائل الأعلام . عاش العراق وعاش كل شريف نزيه يتمنى أن يبني العراق.