23 ديسمبر، 2024 2:56 م

   حينما اندلعت الحرب الاهلية في لبنان عام 1975 قال المنظر السياسي الاميركي زبغينيو بريجنسكي ان ما حصل امر طبيعي لان لبنان من الدول التي خرجت من الانتداب قبل ان تنضج .

كان ذلك قبل ثمانية وثلاثين عاما حيث انهت اغلب دول العالم الثالث معركتها مع ما كان يسمى بالاستعمار وصنعت كيانات خاصة وادعت الاستقلال والتحرر .

والقصة تبدأ ما بعد سقوط بغداد سنة 1258 حينما انهار العالم وعمت الفوضى واندفعت تجمعات بشرية في اقاصي الارض نحو تأسيس البدائل وتكوين مراكز القوة .

وحتى مطلع القرن الخامس عشر , كان العالم وشعوب الارض تحكمها خمس ممالك , حيث لم تكن الشعوب في وارد التفكير باطرها الطائفية والدينية والعرقية والوطنية , وقد تصالحت لقرون طويلة مع الانظمة الامبراطورية ولم تكن تهتم انها محتلة او واقعة تحت نير الهيمنة .

في العالم العربي الذي كان يخضع للامبراطورية العثمانية , كان الاقطاع وزعماء القبائل هم علية القوم وهم من يضمنون بقاء الشعوب خامدة مقابل امتيازات يحصل عليها القادة المحليون من الباب العالي في اسطنبول .

والشعوب بدورها لم تكلف نفسها جهدا لاستعارة افكار ثورية للتمرد , ففي العراق مثلا , لم يذكر التاريخ ان حركة تمرد شعبية او انتفاضة او ثورة مسلحة اندلعت ضد الاحتلال العثماني, وهكذا الحال في بقية المناطق , الى ان ظهر الحلف الاستعماري العسكري الصناعي الاوروبي الذي قرر اسقاط الامبراطورية العثمانية تمهيدا لاحتلال ممتلكها .

الاوروبيون صنعوا رجالات لهم وكسبوا اخرين من رحم العثمانيين امثال علي بن الحسين في الحجاز فاشعلوا التمرد في ربوع العرب ضد العثمانيين .

اغلب الذين حكموا البقاع العربية منذ عام 1920 وحتى عام 1960 جاؤا من المؤسسة العثمانية ونقلوا ولاءهم الى البريطانيين والفرنسيين والايطاليين والاسبان .

وهؤلاء امثال نوري السعيد وياسين الهاشمي وعلي بن الحسين , والخديوي والسنوسي ومحمد الخامس , استبدلوا العثمنة بالهيمنة الغربية , وبمعنى اخر , ان كل هؤلاء كانوا يكذبون حينما كانوا يقسمون بالولاء للباب العالي ويروجون لقداسة الخلافة العثمانية ويخدعون شعوبهم بها .

نفس الدرجة من الاخلاص للباب العالي العثماني قدمها هؤلاء للقوى الاوروبية , وهذا يعني انه لم يكن هناك شيئ مقدس وبالتالي يمكن القول ان خمسة قرون من الحكم العثماني لم تكن هناك مفاهيم ولاء وقداسة تقتدي بها الشعوب وعلى اساسها تموت وتضحي وتناضل .

والى عقد الاربعينيات من القرن العشرين ورغم تشكل الدول والممالك , الا ان الحدود لم تكن مقدسة بين تلك الدول , فلم تكن هناك اتفاقيات حدود بين فلسطين وكل من سورية ولبنان والاردن , مثلما لم تكن هناك حدود واضحة بين امارات وقبائل شبه الجزيرة العربية ..

في حقبة الخمسينيات اندلعت الثورات التي كما ذكرنا انها كانت وليدة افكار سرعان ما تحولت الى مفاهيم واحزاب وحركات وموجات صدامية عنفية هدفها وضع حدود واطر لكيانات وطنية .

جميع الاحزاب  والتيارات الفكرية لم تصل الى السلطة وانما بقيت ظلا للعسكر الذي امتلك القوة واستولى على السلطة , لان تلك الاحزاب ليس لديها جمهور وقاعدة جماهيرية , وذلك لانها لم تنتج فكرا مقنعا يرفع من مستوى الشعوب ويحشدها خلف عقيدة وعقد اجتماعي يؤسس لمنظومة الدولة .

وبديلا عن الفشل , ابتدعت النخب الوليدة انذاك , مصطلح الشرعية الثورية لكي تمنح القداسة للجنرالات الذين قاموا باعمال مسلحة عنفية واخضاع الشعوب لاراداتهم . 

ووسط فراغ وجدب فكري وسياسي , تحول العقيد الانقلابي جمال عبد الناصر في مصر الى منهج سياسي سمي بالناصرية , دانت له شعوب هي الاخرى تعاني من الجدب والعطش والفراغ الفكري والسياسي , وعلى هذا الاساس قامت احداث عنف دموية مات خلالها عشرات الالاف من البشر في العراق واليمن وسورية وليبيا وباسم الناصرية  .

الناصرية كانت نتاج لخواء لان تلك الكيانات البشرية المسماة سياسيا بالشعوب لم تكن قادرة على الانتاج , فالاخوان المسلمون استعاروا فكرهم من بدعة الخلافة العثمانية اي استعارة انتاج تركي .

الحزب الشيوعي العراقي ونُسَخَهُ  في بقية البلدان , تقمصت  بالكامل الشيوعية التي انتجها اشخاص من روسيا  ومن مواطن بروسي يدعى كارل ماركس .

البعث العربي تشكل في مقهى ببيروت ومن قبل اشخاص مسيحيين وثقافتهم فرنسية بالكامل وهكذا بقية الاحزاب والحركات بما فيها الاحزاب التي تسمى بالوطنية التي استوردت افكار الزعيم  الالماني النازي ادولف هتلر .

في عام 1999 اطلعت على الوثائق البريطانية المتعلقة بالفترة ما بين تموز –يوليو 1969 وكانون الثاني يناير عام 1971 والتي تحدثت عن الحراك الديبلوماسي البريطاني تمهيدا لانسحاب النفوذ الانكليزي من منطقة الخليج وتسليمه الى الولايات المتحدة ..

الذي يهمنا في هذه الوثائق هي انها تقدم الدليل على سخرية تشكيل الدول والكيانات الجيوسياسية وتحديد الاطر الديموغرافية , فالوثائق تذكر بالاسماء اشخاص بدرجة معاون سكرتير في الخارجية البريطانية او موظفة شابة تعمل في ادارة الخليج بالخارجية البريطانية او مسؤولة الطابعة في السفارة البريطانية في بغداد .. هؤلاء هم من منح القبائل في الخليج دول وامارات , فاصبحت المنطقة المحصورة من تلال المطلاع والى مدخل الخفجي تسمى بدولة الكويت وتلك البقعة سميت دولة قطر ومنحت لبيت ال ثاني وبضعة جزر سميت البحرين ومنحت لال خليفة رغم ان ال خليفة هم سكان قطر الاصليين .  

خلاصة هذا العرض هو ان الكيانات البشرية وقبل خمسة قرون كانت تحت رعاية خمس ممالك وتدين بدينها , وفي النصف الاول من القرن العشرين خضعت الشعوب الى الاستعمار الاوروبي الذي قسمها الى كيانات تدين بالولاء للكولنيالية , وفي النصف الثاني من القرن ظهرت دولة الديكتاتور اي الحاكم الرمز القوي ,  فتأسست انظمة العسكر بموجب الشرعية الثورية والتي استمرت لنصف قرن واكثر فأنتجت مفاهيم جديدة حددت شكليا اطر الكيانات الوطنية من دون ان يتبلور مفهوم حقيقي للوطنية  بقدر ما كانت تلك الكيانات مطبوعة بأسماء الزعماء مثل : مصر الناصرية , عراق صدام حسين , سورية الاسد و ليبيا القذافي ..وللتدليل على ان هذه الدول والكيانات لم تنضج كدول مستقلة عقديا وعقيديا , اورث حافظ الاسد ولده بشار السلطة وسعى حسني مبارك توريث ولده جمال وهكذا حاول صدام حسين توريث الحكم لعدي والقذافي لسيف الاسلام ,لان هؤلاء يدركون جيدا بان الكيانات البشرية في بلدانهم لم تنتج بدائل ولم تنتج منظومة وطنية تزيح سلطته القائمة على مبدا القوة والزعامة الفردية .

نوع اخر من الدول تشكل بطريقة عبثية ولا يستند الى اية شرعية حقيقية , وضعت بموجبها الحدود على اساس  مديات سلطة القبيلة والولاء فيها لزعيم القبيلة والحاكم الاول , فمثلا في دولة الامارات , يعتقد سكان غالبية تلك الكيانات  بان الشيخ زايد هو ابو الجميع وانه هو من علمهم كيف يأكلون وكيف يزرعون وكيف يتزاوجون وذلك ضمن عقيدة ( زايد الامارات) , لان التجمعات البشرية في تلك الامارات لم تنتج حضارة عقلية تصنع عقدا بديلا عن عقد المؤسس .  

ان هذا الصراع البشري الباحث عن التشكل وتأطير الوجود, استمر الى القرن الحادي والعشرين , وما يحدث الان من تحولات في سياق ما يسمى بالربيع العربي , فهو في حقيقته , محاولة جديدة للبحث عن الذات ومسعى اخر لا يجاد عقد او اطار مفاهيمي يجمع ثلاثية الارض والشعب والسلطة في بودقة الكيان الجيو سياسي المسمى بالوطن . 

كل الدول التي شهدت التغيير بما فيها العراق , فشلت في انتاج عقد جديد , ولذلك نرى هذه الكيانات تموج بالاحداث والاضطربات لانها تعيش في مرحلة فراغ كامل حتى ان البعض من هذه الشعوب يفكر بالعودة الى عقد الزعامة والقوة وذلك على غرار تركيا التي لديها عقد اتاتورك الذي يمكن ان تعود اليه متى ما انهار النظام الديمقراطي الشكلي الحالي .

ان الاصطدام بالفراغ لدى شعوب الشرق الاوسط وتحديدا العربية , احدث ارتدادات رجعية الى جزئيات الذات المتمثلة بالتعاقدات الثانوية الدينية والمذهبية والقبلية .

ووفقا لهذه الارتدادات بدات تطرح مشاريع طائفية واثنية , فالاكراد العراقيين اصطدموا بفراغ بغداد وبدأوا التفكير بالدولة العرقية , سكان شرق ليبيا اصطدموا بفراغ طرابلس وخوائها وبدأوا يفكرون بدولة برقة وبنغازي وهكذا اهل الغرب الليبي وجنوبه , ثم جنوب اليمن وفوضى صنعاء وليس اخرا تفكير السلفية التونسية بدولة الجنوب ودولة الاقباط في شمال مصر وسنة حلب ودولة الدروز في جنوب غرب سورية والجولان ..

[email protected]