18 ديسمبر، 2024 4:06 م

يمر العالم العربي بأزمات انسانية و اقتصادية و سياسية  منذ اكثر من عامين تجاوزت مأساة الصراع العربي الاسرائيلي على مدى اكثر من نصف قرن من الزمان.  يتميز الصراع العربي العربي اليوم بانه اكثر دموية من أي صراع اقليمي و دولي   يُستباح  فيه قتل الابرياء و تصوير الضحايا و انتهاك الحرمات.  كل هذا حدث مع تطلع الشعوب العربية  الى الدخول لما يسميه الغرب العالم الحر و هذا بالفعل ما صرح يه اكثر من زعيم غربي هاتفاً مرحباً الى العالم الحر 1. و لكن هل هناك حقاً عالم حر ؟.
تفاعلت عوامل عدة في ولادة ما يسمى بالربيع العربي. دخلت هذه الكلمة قواميس الصحافة في مختلف اللغات و شاع استعمالها بين الناس لأكثر من عام على اقل تقدير، و لكنها اليوم اصبحت كلمة قليلة الاستعمال لمحتواها السلبي و الدموي. يتساءل الكثير في الصحافة و  جميع وسائل الأعلام عن اسباب هذا الدمار الذي حل بالعالم العربي في محاولة دخوله الى العالم الحر ؟.
لعبت الظروف الاقتصادية القاهرة الدور القيادي في قيام الربيع العربي بالرغم من الاطار و الهتاف الرومانسي الذي لا يزال العديد من الكتاب العرب و القنوات العربية يلجئون اليه بين الحين و الاخر 2. لكن هذا الصراع العربي _  العربي تحول الان من صراع بين طغاة و شعوب مستضعفة الى صراع ديني طائفي بحت. هناك مقولة لرئيس وزراء عراقي في العهد الملكي الاستاذ الراحل توفيق السويدي اشار فيه الى وجود حزبين عراقيين فقط و هما الحزب السني و الحزب الشيعي 3. رغم ان هذه المقولة واضحة للغاية في العراق هذه الأيام و لكن يبدوا بان مقولة السويدي رحمه الله امتدت الى العالم العربي. الحرب الاهلية السورية الان هي حرب بين الشيعة و السنة لا غير و الاعلام العربي يؤيد هذا الفريق او ذاك اعتماداً على هويته. تم جر حزب الله، الفريق المضاد الوحيد لإسرائيل في المنطقة،  الى حلبة الصراع السورية و الغرب يسهل وصول جميع الاسلاميين من جنسيات اوربية، و ما يسمى بالقاعدة و فروعها أصبحت تتقن فن التصوير اضافة الى سفك الدماء.
الحروب و الجهاد و القتل تحتاج الى سلاح و تمويل مادي. لا يقتل البشر غيره من البشر الا بثمن و لا يقدم على ارتكاب الجريمة الا بعد تقاضيه اجره كاملاً. اما الكلام عن  الجهاد في سبيل الله و مواعيد في السماء فهو مجرد كلمات لا صلة لها بواقع الحياة و للاستهلاك المحلي فقط.  الدمار الذي حل بالعراق و الان في سوريا يحتاج الى تمويل هائل و الجهات الممولة لا تهدر بمصادرها المادية من اجل الدين كما يتصور السذج من الناس. بعبارة اخرى من يستثمر في الحرب الان في سوريا و العراق يتوقع ان يسترجع ما استثمره بأرباح اقتصادية. هذه المعادلة الاقتصادية لعبت دورها في جميع حروب البشرية منذ عشرات الالاف من السنين و حتى يومنا هذا.
لا يزال العراق فاشلاً في دفع عجلة النمو الاقتصادي في بلد لا وجود فيها لبنية تحتية إدارية و امنية و  اقتصادية، رغم جلوسه على احتياطي نفطي هائل. توقع الكثير قبل عشرة سنوات بان العراق سيكون منافساً اقتصاديا في منطقة الشرق الاوسط بسبب العامل الجغرافي و السكاني رغم جميع التوقعات العلمية بجفاف مياه الرافدين في منتصف القرن الحالي. الذي حدث بان مصادره المائية و النفطية و البشرية اصبحت معتلة و لا امل بشفائه قريباً و ربما سيحتاج الى عملية جراحية تضمن بتر اراضيه الى ثلاثة اجزاء. لا احد يعرف من سيقوم بإجراء هذه العملية الجراحية و ان كانت العوامل الاقتصادية الاقليمية و الدولية ترجح التدخل الجراحي. لا بد من تقييم المخاطر في العملية الجراحية، و الذي يقرر هذه التقييم هو السوق الحر الاقليمي و العالمي و لا دخل للعالم الحر الدولي او الاقليمي(الذي لا وجود له اصلاً) في اتخاذ القرار.
قد يكون الوضع في سوريا مختلفاً  لو تنحى طبيب العيون الجالس على مقعد الرئاسة في دمشق قبل عامين، و سارت الاحداث في سوريا كما هو الحال في مصر و انتهت الفوضى بانقلاب عسكري. لكن سوريا غير مصر و الأقليات العرقية و الدينية متعددة و تشكل نسبة لا يستهان بها. تلاحظ الاعلام الغربي اليميني  في غاية الانحياز تجاه المعارضة السورية عكس اعلام الوسط و اليسار 4. لا يزال الاستثمار المادي في اعمال القتل من الطرفين مستمراً، و تم عرض 15 بليون دولار على روسيا لوقف مساندة الحكومة السورية 5. انتهت الصفقة السعودية الروسية بالسماح للجنة تحقيقية من الامم المتحدة بالدخول الى دمشق و ما هي الا ايام و اذا بالسلاح الكيمائي يستعمل في منطقة تبعد 15 دقيقة من مقر البعثة. استجاب كاميرون و اوباما لنداء الانسانية و عدم الاكتراث بما يسمى بالشرعية الدولية للتحضير لهجوم “محدود” على سوريا. وضع البعض علامات استفهام حول من و لماذا يستعمل النظام السوري  مثل هذا السلاح الان. جاء الجواب من اعلام روبرت مردوخ بان هذا الفعل كان بسبب تهور ماهر الاسد لمقتل احد رجال حماية العائلة 6 . قصة اشبه بقصص المسلسلات التلفزيونية.  ان أي هجوم عسكري غربي ستكون تكاليفه بمئات الملايين من الدولارات و لا بد من جهة تضمن هذا التمويل، و لا بد من ارباح للطرف المستثمر و الطرف المنفذ. اما ضحايا مثل هذا التدخل فنصيبهم في الاخرة فقد اثبت التاريخ بان ضحايا الحروب فائضين عن الحاجة في الحياة الدنيا. أما العملية الجراحية التي تنتظر سوريا فلا تختلف كثيراً عن العراق.
يعلق المحرر الصحفي لصحيفة الانديبندنت البريطانية بان قرب تدخل الغرب في الحرب السورية يشهد اول تحالف بين امريكا و القاعدة. هل يتم  ذلك لان القاعدة اصبحت جزءاً لا يتجزأ  من العالم الحر؟.  لا شك بان الجواب على هذا السؤال هو النفي   لان القاعدة و من يمولها لا يؤمن بحرية البشر و المستضعفين منه في الحياة الدنيا و لكنه يضمنها لهم في الاخرة. لكن هناك حقيقة لا تقبل النقاش بان القاعدة و غريها من عصابات المافيا الاسلامية جزء لا يتجزأ من السوق الحر . قد يتغير محتوى عصابات السوق عبر مرور الأيام و لكن الإطار هو نفس الإطار.
تذكر دوماً بان سعر برميل النفط لم يتغير و الاستثمارات الاجنبية و العربية في العالم اكثر نشاطاً هذه الايام.
قد يظن البعض ان هناك  عالم حر و لكن اليقين هو وجود سوق حر , بأجماع الآراء.
 
المصادر:
1 استعمل هذا المصطلح اوباما و كاميرون و وزير الخارجية البريطاني اكثر من مرة: Welcome to the Free World.
2 تم التطرق الى النظريات في تفسير الربيع العربي في مقالة نظريات في الربيع العربي و مقولة ابن خلدون في موقع معارج و الاخبار و مجانين و عدة مواقع اخرى في عام 2011 و 2013.
3 هذه المقولة للأستاذ الراحل توفيق السويدي كثيرة التداول في المصادر الاجنبية منذ عشرات السنين. رغم انها مقولة سياسية و لكنها لا تخلوا ايضاً من بعض الظرافة في الطرح للمرحوم المتميز بسلاسة  الكتابة و الطرح.
4 تلاحظ الاعلام الغربي اليمني في التايمس و التلغراف في غاية الانحياز للمعارضة السورية  منادياً بتدخل عسكري منذ عدة شهور.
5 نشرت التايمس و الصنداي التايمس هذ الخير في الاسبوع الاول من شهر اب 2013.
6 مقالة في التايمس اللندنية يوم 28 أب 2013.
7 مقالة لروبرت فسك في الانديبندنت يوم 27 اب 2013.