قلتُ في آخر مقال(1)؛ بأنّ (ألدِّين) ألمُؤدلج ألذي إنتشر بين الناس بعد وفاة الرّسل و ألأنبياء كالرّسول محمد (ص) من قبل آلحُكّام و الأحزاب و مراجعهم لأغراض الحكم والتسلط هو أكثر ألنُّظم الأجتماعية تحقيقاً لتلك المعادلة المؤلمة – أيّ (قتل ومحاصرة الفلاسفة) الذين يتحملون قيادة البشر .. و قتل الفلاسفة يعني قتل العقل في المجتمع .. والمشكلة أن تلك (الأدلجة) والأنحراف ألأخطر صارت ذريعة للمغرضين لحذف الدِّين الذي تشوّه و إنفصل عن واقع الحياة الأنسانية تماماً حتى لم يبق منه اليوم إلّا بعض الشكليات والمناسبات الموسمية و ألأحكام العبادية الشخصية, ذلك الفصل المجحف للأخلاق و القيم العليا عن النظم السياسة و الأقتصادية و الأجتماعية و القانونية, هي التي سبّبت تقويض الروح و بآلتالي سهولة تحقيق مصالح المستكبرين و مقاصدهم في مقابل تسفيه عقول البشر!
بينما القرآن و الكتب السماوية الأخرى كلّها تُمَجّد ألعقل والتفكير المنطقي والتأمل والتدبر في كل شيئ حتى جذور الأحداث و قضايا الوجود لمعرفة الغاية و الأسباب و تفاصيل المجهولات التي بمعرفتها يُمكننا آلتأثير عليها إيجابياً وآلتعامل معها بشكل أفضل لخدمة البلاد و العباد!
و قلت أيضاً: و لكُثر ما أهمل المتصدين لقضايا الأقتصاد و المال و الثقافة و الأعلام والسياسة و التربية و غيرها للعقل و حصره في بودقة الأنتاج الأحادي الجانب؛ فقد توجّه الناس للمادة و الشهوة حتى قُتل الوجدان و الرّوح وسُلبت الكرامة الأنسانية بشكلٍ طبيعيّ, و لذا حين نُدقّق في تأريخ (سقراط) و تلامذته ومصير كلّ مفكر و فيلسوف حقيقيّ كغاليلو و كوبرنيكوس و شوبنهاور و كانتْ و توفيق الحكيم و شريعتي والصدر و مطهري و أمثالهم نبكي و نتألم كثيراً لمقتلهم جميعاً إمّا بضربة سكّين أو بسمّ زعافٍ أو بحبلٍ أو طلقٍ ناري أو نتيجة الجّوع وآلحصار و آلغربة ليخلو الجو أمام الحُكّام و بآلمقابل إكرام كُتّاب المقالات و القصص و الأفلام وآلغناء والرّوايات التى ليست فقط لم تُسعف أوضاع الناس ولم تخدم الحقيقة و لم تُرسّخ العدالة و لا القيم الممنوعة أصلاً؛ بل وعمّقَتْ وإزدادت الفواصل الطبقيّة والفساد والتيه و التمويه و التّسطح الفكريّ, و بآلتالي مسخت الأمم و الشعوب و جعلتها بتلك الثقافة متذبذبين خاضعين و مؤيدين للحكام على قتلها للمفكرين الحقيقيين وآلفلاسفة ألذين يمثلون روح الأمة و فكرها.
و إليكم مقدمة هامّة كمفتاح للدخول إلى عالم العقل و مداهُ ألذي به يشقى المرء أو يُسعد؛ يُثاب به أو يُعاقب .. بحسب تعريف الفلسفة الكونية:
منذ بدايات التفكير الفلسفيّ عند اليونان قبل الميلاد، وخلال تاريخها الطويل تناولت المواضيع العقلية المختلفة مثل؛ موضوعات الفلسفة السياسيّة، والأخلاقيّة، وعلم الوجود, و علم الأحياء، والرياضيات, والبلاغة, و المنطق, و معرفة الأنسان, و القيم، رافقتها تحوّلات فكريّة نتجتْ ظهور عدد من النظريات والمذاهب والاتجاهات الفكريّة ألأرضيّة, جنباً إلى جنب الرّسالات السّماويّة قبل الأديان الثلاثة المعروفة و هي تؤكّد و تُبشّر بـ(العقل) كأوّل وأعظم مخلوق خلقه الله تعالى(2).
و يُعتبر تعريف (أوغسطين) أوّل تعريف فلسفيّ للعقل إعتماداً على تقريرات حكماء اليونان ألسّبعة خلال القرن ألسّادس قبل الميلاد بقوله: [ألعقل وحدهُ وسيلة للمعرفة وسبيل للأيمان, لذا إعقل كي تُؤمن و آمن كي تعقِل].
منذ ذلك الحين لم يطرأ تغيير كبير أو مختلف على ذلك التعريف حتى ظهور الفلاسفة الأوربيين في القرون الوسطى و الحديثة حيث أضافوا لمحاتٍ جديدة عن العقل و التفكير من قبل بعضهم ككانت و شوبنهاور ولا أتعمَّق في عرض تقريراتهم لأنّ فلسفتهم آراءٌ وتأملات مبنيَّة على رؤيتهم العقليّة للوجود والحياة بجانب تأثيرات الأنظمة الكنسية التي كانت سائدة، وقد تصل لبعض الحقيقة وقد لا تصل، ولكن حتى أبيّن للقارئ الكريم صورةً عن أسلوب تفكيرهم العقلي ونتائجه التي قد تلتقي مع الفلسفة الأسلاميّة أو قد لا تلتقي و تكون ضدَّه كما تمثَّل ذلك في الفلسفة المادية الإلحادية عند هيكل و ماركس فيلسوف الشيوعيّة، وسارتر فيلسوف الوجودية؛ أكتفي بعرض التعاريف المقتضبة و الأشارات على أمل عرض حقيقة العقل من خلال الفلسفة الكونية كآخر و أشمل تعريف عرفه العقل نفسه.
وأياً كانت حقيقة التعاريف الفلسفيّة خلال المراحل الفلسفيّة السّتة حتى ظهور فلسفتنا خلال المرحلة الفلسفية السابعة ؛ فإنّ تعريفنا الكوني للعقل ومعياره وجوهره ومكانته و عظمته .. يختلف عن المعايير الفلسفيّة الأخرى التي ظهرت قديماً و حديثاً مع كل مقايس المناهج العقلية المعرفية, حيث تعتمد على آليات متقدّمة و عقل محيط لبيان حقائق الكون و أسرار الوجود.
و هذه الصّفة من أهم الملامح الفلسفية التي تُميّز فلسفتنا وفي أهمّ جانب كمنهج لقانون فلسفي يُحدّد الهدف من آلخلق و الوجود من خلال تفعيل العلوم الطبيعية و الأجتماعية لإسعاد و تحقيق رسالة الأنسان, هذا الهدف و الغاية العظمى الذي فشل في بيانها ثمّ تحقيقها العقل الظاهر المعروف الذي عرّفهُ و قدّمهُ الفلاسفة السابقين لنيل السعادة التي ترتكز على المحبّة و المعرفة و الكرامة الأنسانيّة و نبذ الطبقيّة التي أصبحت واقعاً بل و مسلكاً و وسيلةً لسيطرة وإثراء الأغنياء ألذين شكّلوا (المنظمة الأقتصادية العالمية) للهيمنة على الجميع, و بآلتالي صارت سُنّة يُنظّم و يتنافس من خلالها الناس بكلّ وسيلة مشروعة و غير مشروعة للسيطرة عبر الحروب و الخداع و القتل و الظلم من دون وجود معارضة حقيقية عالمية .. كل هذا لمسخ اخلاق الناس و ضمور القيم و إنقلابها رأسا على عقب .. على العكس من(الفطرة) و مراد الخالق الذي حذّر من ذلك؛ (لِكَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) و هكذا صار النّفاق مسلكاً ضرورياً للناس خصوصاً ألسياسيين و الأحزاب للأثراء وكما نشهده في مُمارسات المتسلطين على حكومات العالم.
ولو بدأنا بآلفلاسفة القدماء كآلفيلسوف و المعلم اليوناني الأول (أرسطو) الذي تأثر بفلسفتهِ كلّ فقهاء وفلاسفة الغرب المعروفين و حتى الشرق؛ كآلملا صدرا وإبن عربي و ابن سينا، والكندي، والفارابي و حتى مراجع الدِّين الذين للآن يعتمدون على منهجه و منطقه في البحث والأصول و الأستدالال الفقهي في حوزة النجف وغيرها, حيث حدّد أرسطو معنى العقل بكونه: [جوهر قائم بذاته]
و ينقسم إلى:
العقل الكليّ؛ وهو عين الله الناظرة.
العقل الهيولاني؛ هو العقل بالقوة، وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات.
لا يخفى على المهتمين بقضايا الفكر و الفلسفة, بكون التعريف الأرسطوي أعلاه يمثل حقيقة مقبولة لديهم, لكنه لا يمثل كل الحقيقة, لكونه يختصر العقل فيما عرفه و عرضه أعلاه, و لعل هذا الأمر هو الذي قوّض أو حدّد نظريات المعرفة لدى جميع الفلاسفة خصوصا فلاسفة النهضة ككانت و ديكارت و بيكون و هناك مسألة أخرى إعتمد الفلاسفة في إستنباطها من أرسطو أيضا كإبن عربي و ابن رشد، الذين صنّفوا العقول لثلاثة أنواع:
الأول: العقول البرهانية القادرة على متابعة دليل يقيني محكم توصله لنتائج بيِّنة ضرورية وربطُها والأدلة هو الذي يُكوِّن الفلسفة، ولكن هذا لا يتسنَّى إلا لقلة من العقول الموهوبة بالقدر الذي يجعلها تكرِّس نفسها لها.
الثاني: عقول منطقية تكتفي بالبراهين الجدلية.
الثالث: العقول التي تستجيب للوعظ والأدلة الخطابية، وهذه غير مهيأة لاتِّباع الاستدلال المنظم, و نجدها عند الناس العاديين، وهم السواد الأعظم، الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة فحسب, بحسب ما أورده (شاخت وبوزرورث) في كتابه تراث الإسلام.
أما تعريف العاقل: فهو من يُفكر، ويحكم، ويعمل، وفقاً لطبيعته الإنسانية التي قوامها الحرية؛ فيعرف ويفهم ويعقل، (ويعلِّم ويتعلِّم، فما من شخص إلا ويُعلِّم غيره ويتعلَّم من غيره بصورة أو بأخرى)، بصرف النظر عن الصواب والصدق ومقاصد الحق والخير، فهذه ممّا يضفي على العقل طابعاً معيارياً يقيّد العقل بقيود المطلق الأخلاقي، ويشدّه إليه .. فيكف عن كونه عقل العالم وعقل الكون، وتكف إنسانية الفرد وحريته عن كونهما أساس العقل وأساس الأخلاق.
فليس للإنسانية من أساس يجعلها ما هي سوى الحرية، وليس للعقل من أساس يجعله ما هو سوى الحرية.
فإذا كان العقل فطرة أو قوة أو قدرة أو ملكة أو استعداداً أو جوهراً .. أو ما شئتم؛ فإن هذا كله لا يعني شيئاً من دون إضافته إلى العاقل أولاً ومن دون علاقته بموضوع العقل ثانياً ومن دون أساسه الأولي، أيّ اللاعقل ثالثاً، فالعقل باعتقادنا، لا يتعرف إلا بهذه الحدود وطابع العلاقات الجدلية فيما بينها، وهذه الحدود “كلية عينية” أو وحدة تناقضية، بتعبير هيغل؛ هي “وحدة الذات والموضوع”، الذي يمثُل اللاعقل في كل من حدّيها على أنه تناقضه الداخلي، فلا يعودان حدّين بسيطين أو مبدأين بسيطين، لأن المبدأ البسيط لا ينتج شيئاً ولا ينتج منه شيء، كالله المفترض مبدءأً بسيطاً، أو جوهراً بسيطاًً، أي حقاً مطلقاً وخيراً مطلقاً وجمالاً مطلقاً وعقلاً مطلقاً (كلياً) وما شئت من المطلقات, والمطلق هو المجرد من كلّ حدّ ومن كلّ نسبة ومن كل ّإضافة ومن كلّ وصف ومن كلّ حال، والمجرد من الزمان والمكان والحركة والسكون ومن كل إمكان، كإمكان التغير والتبدل والتحول، والعدم والوجود والحياة والموت وهو الواجب الوجود لا الممكن الوجود .. وهذا ما يؤكد طابعه المثالي الخالص والوجوبي الخالص، والوجوبي ذاتي بالضرورة. (النسبي ليس مقابل المطلق ونقيضه دوماً، فالنسبية مبدأ ارتباط ومقارنة وقياس).
لا أريد هنا تكرار تدوين حتى لمحاتٍ عن العقل عند بعض فلاسفة القرون الوسطى والحديثة لأنها يُفترض أن تكون معروفة عند المهتمين, كما لا أتعمَّق في حدوسهم لأُبيّن أن فلسفتهم؛ آراءٌ وتأمّلات مبنيَّة أو مستنبطة على رؤيتهم العقليّة للوجود والحياة، وقد تصل لبعض الحقيقة وقد لا تصل، ولكن حتى أعطي القارئ المثقف الكريم صورةً عن أسلوب تفكيرهم ونتائج ذلك التفكير التي قد تلتقي مع الفكر الكوني أو لا تلتقي، بل قد تكون ضدَّه كما تمثَّل ذلك في الفلسفة المادية الإلحادية عند كلٍّ من ماركس فيلسوف الشيوعية، وسارتر فيلسوف الوجودية, لكن أستطيع أن أختصر نظرة الفلاسفة للعقل بكلام وجيز و معبّر للغاية و هو:
الحواسُّ قد تخدع .. والعقل الظاهر قد يعجز .. لهذا فالإنسان قد يعجز عن بلوغ الحقيقة كاملةً و مفاهيم العدالة تامّة بآلاعتماد على هذا العقل الظاهر و كما مثّلناه بمقدار (ألجليد القليل الظاهر على سطح الماء من حجم كتلة جليديّة كبيرة جدّاً غاطسة مخفية في المحيط المنجمد الشمالي و التي مثّلنها بآلعقل الباطن, لذا لا بُدّ من البحث عن العقل الحقيقي المخفي وهو الأعظم الذي بإمكانه نجاتنا من هذه المحنة العظيمة التي بدون حلّها ستستمر البشرية في المآسي و الهبوط نحو الهاوية حتى الهلاك التام على جميع الصعد.
فما هو ذلك العقل الجبار الناجيّ؟
إنه العقل (الباطن) الذي يعتمد على عدّة قوى تفوق قوة العقل المجرد (الظاهر) الذي لا سند له سوى الحواس الخمسة المحدودةّ عند البشر, و سنتحدث عن ذلك العقل العملاق في فلسفتنا خلال الحلقة القادمة مع كيفيّة تفعيله في الحلقة الثالثة بإذن الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
https://www.sotaliraq.com/2018/11/07/%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7%D9%82%D9%84%D8%AA%D9%8F-%D9%84%D9%80-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-
%D8%AD%D8%B3%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%87%D9%8A%D9%83%D9%84%D8%9F/
(2) ورد في القرآن الكريم نصّاً محكماً واضحاً يُبيّن عظمة العقل بقوله: [(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف:40]. و معناها الحقيقي بعكس تفسير المفسرين الذين فسروا كلّ شيئ على أساس الشهوة والحور العين في الجنة هو؛ كما ورد عن سعيد بن جبير: إشارة لإمكانية دخول جميع مكونات الوجود الكبير الذي عبّر عنها بـ (الجمل) بإعتبار حجمه كبير .. في العقل الذي حجمه صغير جداً بآلنسبة للجمل, لأن العرب لم يكونوا يفهموا و يدركوا سوى تلك المقايس في اللغة والحسابات البدوية.
كما أشار الأمام عليّ(ع) في حكمة له إلى عظمة عقل الأنسان الذي فيه الداء لو أسيئ إستخدامه و الدواء لو حسن إستخدامه و تفعيله, قوله:
داؤك منك ومــــا تبصر.. دواؤك فيك وما تشـــــــعر
أتحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر
كما ورد نصُّ قُدسيّ بشأن العقل بقوله تعالى: [أوّل ما خلق الله العقل, فقال له أدبر فأدبر, ثم قال له؛ أقبل فأقبل, فقال تعالى: و عزّتي و جلالي لم أخلق مخلوقاً أعظم منك, بك أثيب و بك أُعاقب].