لكي نتعرف على مايجري في عالمنا الظاهري والسبب وراء التمسك بسبل الحياة الفارهة بدلآ من اتباع القيم الإنسانية والدينية , لابد من سبر اغوار بعض الحقائق الموجودة على الارض بما تتضمنه من صراعات وتبادل الاتهامات بين الحكومات والأفراد على مختلف مشاربهم واسباب تعاسة الحياة التي تمر بها الشعوب ,
واول حقيقة دينية التي اتخذت من الدين الإسلامي كقاعدة لإتباع الحق كضرورة تنقل البشرية من الظلم الى العدل ومن الاستعمار الى الاستقلال والحرية , والتراجع عن ذلك يعني الجبن والتخلف عن اتباع قواعد اي دين واي مذهب , هي حقيقة معركة الطف التي انتهت في العاشر من شهر محرم الحرام سنة 61 للهجرة بإستشهاد سبط النبي الكريم الإمام الحسين .
وهؤلاء المتخلفون الذين صنعوا لهم في هذا العالم زاوية محددة بأنواع واصناف جديدة سواء بالدين او المذهب أو الأيديولوجيات , كما صنعوا الآن زاوية التطبيع بالسياسة مع العدو , فتأوّلوا بهذا التراجع والتخلف الى الجبن ليس لأنهم جبناء فعلآ , بل لكي يتبوأوا سلطة القرار ويمتلكون به كل شيء ,
لذلك تستروا بأقنعة الاديان والمذاهب بتلك الزوايا برؤى مزيفة , من اجل ان توازي القيم الحقيقية الموجودة في كتب التأريخ لتبرير تمسكهم بالسلطة السياسية , ومن هذه الرؤى ثقافة الإنهزامية والتطرف وممارسات العنف بأسم تلك الاديان والمذاهب والأيديولوجيات ,
التي وجهتهم اليها قوى الاستعمار الغاشمة ذات المشاريع التي تجهز على الاديان والمذاهب من اجل ان تطرح البدائل المضللة التي تجعل من الإتسان بلا قيمة إنسانية او شهامة , وفي عالم من الذل والتمييز وبشروط الصراع بين الغنى والفقر فحسب , لينتهي هذا العالم الى عالم معادي يرفض البقاء والتمسك بضرورة الحق الذي تتوازن به شروط الحياة الحرة والكريمة , مما يتسبب في انتحار البعض واغتراب البعض الآخر , وتحول فئات اخرى الى عناصر براغماتية كالمتخلفين المذكورين آنفآ لبسط سلطتهم .
والنتيجة هي عندما نقرأ مواقف القادة والحكام المتخلفين في كل زوايا التأريخ نجدهم في اي موقف هم ليسوا بالجبناء , بل اختاروا اهون القتال المرتبط بحدود رسمتها لهم تلك القوى الغاشمة , ليظهروا انهم شجعان , وعندما نستذكر البعض من هذه المواقف وخاصة في حرب غزة , نجد ان اولئك القادة عمدوا الى القاء المواد الغذائية الى شعب غزة المحاصر وهو يخوض حرب ابادة تقودها تلك القوى الغاشمة ,
وتلك هي الحدود التي سمحت بها القوى لبقائهم في مناصبهم بدلآ من تقديم الإستقالة امام شعوبهم او الظهور بمظهر الشجعان الحقيقيين بالثبات على المباديء والمشاركة بالحرب تاركين زاوية التطبيع مع العدو التي لاتمت بصلة بدينهم او بمذاهبهم , لأنها صنعت بأيدي القوى التي نصبتهم حكامآ على الشعوب المستضعفة ,
وهكذا هم مع القيم والمباديء الدينية التي يتبنوها , فهم يعرفون انهم يخالفونها , ولكن بحكم الوظيفة التي جذبتها لهم تلك القوى كحكام لشعوبهم , فقد صنعوا لهم الرأي الموازي وليس المطابق لها وعن عمد ليختلفوا مع رأي المتمسكين بالحق للبقاء على الحكم والتمتع بالحياة الفارهة ,
كذريعة ليسهل بها وبشروطهم قتل المعارضين وخضوع الآخرين الى سلطة المعيّن بالمنصب , رغم انهم يعلمون انهم غير مقتنعين عندما يقارنون رأيهم مع ما درسوا من آراء في كتب التأريخ , ولكن ليبرروا وجودهم بالسلطة فحسب .
لقد جسدت ثورة عاشوراء هذا المفهوم بدقة متناهية على لسان الإمام الحسين الثائر الملتزم عندما قال وهو يمتنع عن مبايعة يزيد بن معاوية : ان مثلي لايبايع مثلة , وهو بهذا القول يجسد انه في مواجهة مع الباطل بالكلمة والموقف وإن كلفه ذلك حياته .
وفي هذا الصدد تجسد موقف عُبّاد المنصب على لسان عمر بن سعد عندما صرح قائلآ وهو بين امرين اولهما الألتزام بعهد عبيد الله بن زياد الذي قال له : إن لم تقتل الحسين عزلتك عن عملك وهدمت دارك , اي انه كان بين خيار الحياة الفارهة وبين قتل الإمام عليه السلام , فقال بابيات من الشعر موضحآ موقفه الإنهزامي عن الدين والمبدأ الذي يعرفه بشكل لاغبار عليه :
فوالله ما ادري واني لحائر افكر في امري على خطرين
أأترك ملك الري والري منيتي أم ارجع مأثومآ بقتل حسين
حسين ابن عمي والحوادث جمّة لعمري ولي في الريِّ قرة عين
بهذه الأبيات الدالة على الحق الذي يعرفه ويقظة الوعي الديني المقموع لدية , انه سيرجع مأثومآ بقتل الحسين بسبب اطماعه , وهذا يرجح ان الذين وقفوا مع يزيد واتباعه جميعهم يعرفون كذلك انهم سيشقون عصا الأمة الى قسمين , بل وسيشجعون بالمستقبل الى خلق مبررات ستؤدي بالنهاية الى انواع من التعصب والكراهية , وكل هذا بفضل اطماعهم وعبوديتهم للمنصب , تلك العبودية التي حطمت شهامتهم ورجولتهم ليكونوا جبناء , لأنهم مازالوا والى الآن يتولون المناصب التي توفر لهم تلك الحياة الفارهة والهيمنة على الفقراء بما كسبوا من سياسة الحكام الأولى والضالة على مرّ العصور ,
وعلى اية حال , فإن ثورة عاشوراء برزت كثورة ابدية على الباطل والفساد وتولي المناصب على حساب القيم والأخلاق , وقد اناطت بالشعوب الحالية اجمع مهمة الوقوف مع الحق في دعم مبادئها و رفض سياسات التسوية والتوافقات والمحاصصة في اتخاذ القرارات , بما فيها المبتكرة حديثآ لتبرير وجودها في مصادرة ماتشاء من حقوق على حساب مصالح تلك الشعوب وخاصة المغلوبة على امرها من دون ان ينتقدها احد من اصوات المعارضة او اي مقال سياسي في صحيفة يومية .
ان مفهوم ثورة عاشوراء الذي تضطلع به مدرسة اهل البيت هو ليس مفهومآ ايديولوجيآ او براغماتيآ بحيث تجد فيه العديد من المنقسمين , مع ان هناك قوى مضادة جاهلة لهذه المدرسة تحاول تقسيمه بعدة سمات وذلك ببث المفاهيم الخارجة عن ثقافتها المترسخة بالفلسفة الدالة على إنسانية الإنسان والمنظمة للدوال التي تنظم حياة الأسرة والمجتمع وقد تجلت في خطابات رموزها التأريخية الشريفة ,
ولكن مفهوم ثورة عاشوراء هو ان لايندفع الإنسان قهرآ الى الإنحراف بالخروج عن المبادي قيد انملة , ولاينتهي بنهاية معركة او حرب والحصول على غنائم وامتيازات دنوية وينتهي الأمر , انما هو مفهوم وضع اسسه الإمام الحسين بمقولته ” هيهات منّا الذلة ” اي لايمكن ان تتجلى عند الإنسان الحر الرغبات التي تذلّ عيشه لما تنطوي عليه من الباطل في اي جانب من جوانبها ,
لذلك فإن ثورة عاشوراء بوجه عام هي حالة ايجابية وتجسيد ثوري ومثالي للإنسان الثائر ضد تلك الرغبات على مر العصور , وهي تصدق بالتطبيق في كل زمان ومكان يموج به الزيف والقسوة والعنف والإرهاب والفساد الذي تحركة القوى الغاشمة لإسقاط مسارات الحياة الحرة الكريمة مهما تصل بتلك النوائب الى الذروة التي وصلت اليها وحاربها الإمام بفاجعة كربلاء ,
ولكن يجب ان يتم ذلك بسياق الإمام التأريخي نفسه وتحت شعار ” ياحسين ” منعآ من الإنحراف والدخول في آفاق فقهية وزوايا سياسية جديدة ومزيفة كما فعل المنتسبين الذين صنعتهم القوى الغاشمة وصنعت لهم تلك الآفاق وربطتهم بهوية وميراث عائلي وزبانية ومطبلين للتسلط على شعوبهم منذ عهد بعيد من اجل البقاء بالمنصب فحسب .