18 ديسمبر، 2024 11:00 م

عاشوراء الحسين بين الأسلام السياسي وسيكولوجيا جلد الذات

عاشوراء الحسين بين الأسلام السياسي وسيكولوجيا جلد الذات

عاشوراء مناسبة دينية اسلامية, تحل سنويا في اليوم العاشر من محرم ” الشهر الأول في السنة الهجرية ” ويختلف التعاطي معها بين المسلمين من السنة والشيعة, ففي الوقت الذي يخصها السنة يومها بالصيام احتفالا بنجاة النبي موسى واصحابه من الطغيان والغرق, فأن الشيعة يحيي فيها استشهاد الأمام الحسين بن علي أبن ابي طالب في ” موقعة كربلاء” في معركة الطف سنة 61 هجرية ( 680م ) مع جيش يزيد بن معاوية.

ورغم اختلاف القراءة لواقعة كربلاء, سواء من منطلقات دينية او سياسية او انسانية, والتي تراوحت هذه القراءة بين تهويل وتضخيم الحدث وحرفه عن مسار الأحداث الطبيعية الممكنة الحدوث وادخال الحدث في عالم الغيبيات المعرقلة للعقل, وبين دراسة واقعية تجري الاستفادة من الحدث وعناصره الأيجابية في تشخيص الحاضر وتداعياته ورسم ملامح المستقبل من خلال القوة الايجابية الكامنة في الحدث, ظل من المسلم به استحضار سلوكيات المحبة والاحترام وشعائر الاستذكار للأحداث, ليست فقط لدى الشيعة, بل لدى كل الطوائف الإسلامية, والديانات السماوية الأخرى وحتى غير السماوية, و ليست في العراق فقط بل في بقاع مختلفة من العالم العربي والاسلامي, فقد ذكر المفكر والمستشرق الانكليزي ادوارد دبروان: ” وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن حين يسمع حديثا عن كربلاء؟ وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار وطهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها “. كما تحتفل قوى وطنية وسياسية كثيرة في العراق وخارجه بكل صدق وإخلاص بذكرى استشهاد الحسين تيمنا وأيمانا بقيم الحق والعدل والمساواة.

وفي الطرف الآخر حيث تقوم أحزاب الإسلام السياسي والمتأسلمين بتجيش مشاعر محبي الحسين وتعبئة الناس لزجهم في آتون الكراهية والاستفزاز الطائفي والديني وتعطيل مؤسسات الدولة وحرف نضالات الجماهير المطلبية من اجل تحسين ظروف العيش.
وفي الوقت الذي يكرسون فيه صناعة البطالة والكسل و الفقر وانتشاره باعتباره قدر إلهي لا بد منه, ينغمسون من رأسهم حتى أخمص قدميهم في مباهج الحياة الدنيا, يرفلون في نعيمها وخيراتها ويجرون ملهوفين وراء متاعها وملذاتها ويستحوذون على ارفع المناصب والوظائف, ويعيثون فسادا في الدولة, متناسين قول الحسين ” أن الكسل يضر بالدين والدنيا “, وأن العمل النزيه بمنزلة العبادة كما أريد له في الدين, و تقوم هذه القوى بتكريس العداء للآخر المسالم الذي قد يختلف معنا في التفكير, ولكن قد لا نشك في محبته للحسين باختلاف مظاهر التعبير عنها, فكما نعرف جميعا أن حب الحسين والاحتفاء به ليست حكرا على طائفة بعينها أو بحزب سياسي لذاته, فقضية الحسين ابعد بكثير من ارتهانها طائفيا أو حزبيا, انطلاقا من أبعادها العالمية التي تتجاوز حدود الدين والطائفة والحزب والجغرافيا التي جرت فيها الأحداث. يقول الكاتب المسيحي كرم قنصل: ” أن سيرة الحسين مبادئ ومثل وثورة أعظم من حصرها ضمن الأطر التي حصرت بها, وعلى الفكر الإنساني عامة أن يعيد تمثلها واستنباط رموزها من جديد لأنها سر السعادة البشرية وسر سؤددها وسر حريتها وأعظم ما عليها امتلاكه “. لن نسمع في أوساطنا المسيحية والصابئية والسنية أو غيرها أن يذكر الحسين بغير ذكراه الايجابية المناضلة .

واليوم إذ يختلط فيه الديني بالسياسي بعنف, وخاصة في ظروف العراق الحالية التي تأسس فيها نظام الحكم بعد سقوط الدكتاتورية 2003, على أسس من المحاصصات الطائفية والعرقية, حيث ساعد على استنفار الورقة الطائفية واستخدامها من قبل الإسلام السياسي الطائفي, ويجري التعمد في خلط المشاعر بين حب الحسين ابن علي و ممارسة طقوس الاعتزاز به كما في عاشوراء, و بين ثقافة تعبئة الحشود التي تلجأ إليها هذه القوى في محاولة منها لاستنزاف القوى العقلية والفكرية للجماهير المليونية والمحبة حقا للحسين, وتحويلها إلى كتلة بشرية صماء غير قادرة على تعقل أحداث عاشوراء والطف واستلهام الدروس منها في المحبة والإخاء والعدل والمساواة والكرامة واحترام قيم العمل والتعايش السلمي, بل يجري العزف المكثف على الانفعالات المصاحبة لهذه الذكرى الجليلة لحرفها وإضفاء الصفة السلبية عليها وحصرها في حدود أهداف سياسية أنانية وتعبوية ضيقة, عندها يسهل الترويج للإسلام السياسي الطائفي بغطاء عاطفي ومنفعل ليصب مزيدا من الزيت على نار الصراعات والاحتقانات المتقدة بين أبناء الطائفة الواحدة وبين الطوائف الأخرى, وخاصة عندما تجري هذه الصراعات في بيئة الفقر والحرمان والذي بلغت مداه بحدود 70% في مناطق الوسط وجنوب العراق.

كيف استطاع الإسلام السياسي والطائفي منه بشكل خاص, ذو الخطاب المهيج للانفعالات قبل العقل أن يخترق الوسط الشيعي وأن يؤسس لكانتونات سياسية شديدة التركيز في العدة والمال والسلاح, تلك هي قصة سيكولوجية تراكمت أسسها وتجذرت في اللاوعي الجمعي للوسط الشيعي وفي وجدانه وسلوكياته, ارتبطت جذور شدتها في استشهاد الحسين, وان كانت تمتد بجذورها إلى عدم تولي الإمام علي ابن ابي طالب للخلافة بعد وفاة النبي محمد, وأن آثارها بقيت في أذهان الشيعة وخاصة العوام منهم, حيث أن النخب الشيعية أو الخواص ورموزهم استطاعت أن تجد لها وطأة قدم وتؤسس سلطاتها الدينية المؤثرة وتضفي على نفسها هالة من القداسة مستفيدة من زخم الأحداث وشدة تكثيفها وإيحائها ورمزيتها الشديدة, وفي أحيان كثيرة كانت موازية للنظم السياسية المقيمة فيها, مدعمة بالمال السخي الذي يمنح لها في السر والعلانية من الهبات والتبرعات والخمس القادمة من الأوساط الشيعية الواسعة والفقيرة أصلا, إلى جانب نسب من العوائد المالية القادمة من زيارة المراقد المقدسة للأئمة من قبل الزوار من داخل الحدود وخارجه.

وقد بقى وقع استشهاد الحسين وآثاره النفسية المتراكمة شديدا على عوام الشيعة, والذي شكل بدوره أرضا خصبة لتسلل وانتعاش الإسلام السياسي الطائفي وقوى التطرف الديني عبر خطابات ذرف الدموع واستحضار مكنونات اللاشعور الفردي والجمعي لدى الوسط الشيعي, وهذا لا يعني أن عوام الشيعة كانوا معتكفين في منازلهم ” عملا بمبدأ التقية الشهير لديهم ” ولم يمارسون السياسة بمختلف مظاهرها وألونها وكانوا ينتظرون قدوم الإسلام السياسي والطائفي لإنقاذهم, فتلك مجافاة للحقيقة التي يدركها الجميع, فقد انصهروا في الكثير من الأحزاب اليسارية واليمينية والقومية والرجعية طواعية وبدون ضغوط عليهم ” عدا بعض محطات الإكراه في الانتماء ” والذي شمل الجميع كما هو الحال في التبعيث سيئ الصيت, وكانوا في أحيان كثيرة من مؤسسي هذه الأحزاب وقيادتها, كما شكلوا جمهورا واسعا للكثير من الأحزاب بما فيها الحاكمة وأجهزتها الأمنية والمخابراتية والقمعية, واعتقد أن تجربة العراق عبر تاريخه غنية بهذا الجانب وشاهد على ما نقول, فجماهير أحزاب الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي لم تكن مستقلة بالأمس عن السياسة, فالكثير منهم له جذور انتماءات قومية وعروبية وبعثية وغيرها.

المهم في ذلك مجددا هو كيف استطاع الإسلام السياسي الطائفي وفي فترة قصيرة جدا لا تتجاوز العقد والنصف من الزمن, وفي ظل غياب مشروعه التنموي والحضاري الشامل, أن يستقطب الشارع الشيعي ويعبئ الناس بطريقة ” مشجعي فريق كرة قدم خاسر “, بعيدا عن الإعداد والتربية الفكرية والتنظيمية كما هو متعارف عليه في تقاليد عمل الأحزاب في المجتمعات المتمدنة التي تتداول فيها السلطات سلميا, وكذلك بالنسبة للأحزاب التي تمارس العمل السري في أوطانها نتيجة لظروف القهر والاستبداد وكما كان معمول به في العراق في عهد النظام الدكتاتوري. لقد استطاع الإسلام السياسي الطائفي ورموزه المتطرفة أن تعيد صياغة ذهن المواطن الشيعي من خلال قراءة وجدانية معكوسة لثورة الحسين ولأهدافها الإنسانية الكبرى, قوامها الانفعالات السلبية الضارة المغلفة بمشاعر الإحساس بالدونية والمتلبسة بجريمة قتل الحسين وكأنها تقول القاتل” أنا ” دوما ومن هذه الأرض, فيجب أن ادفع الثمن غاليا ويجب أن تتوقف الحياة على مدار السنة والساعة تبريرا وعزاء وعقوبة لذاتنا لما قمنا به من جريمة نكراء, وتصل هذه المشاعر إلى حد التأصيل في عقدة مضخمة تتضح ملامحها في الأبعاد النفسية الآتية:

ـ تشديد قبضة الشعور المستمر بالذنب تجاه الحسين ابن علي من خلال تكريس المشاعر التي تعكس بأننا استمرار لهؤلاء الذين تركوا الحسين بمفرده من دون نصرة بيد الظالمين, ونحن الذين تركناه لوحده مع خيرة آل البيت يواجهون الموت في الصحراء عطشا وجوعا على يد جيش يزيد الظالم, وهو شعور ناتج من قراءة تقطع الصلة بالزمان الذي جرت فيها الاحداث حيث طبيعة الناس آنذاك تختلف وكذلك خصوصية الصراع الذي حصل.

ـ تكريس الحزن والكرب والمعاناة في حياة الناس اليومية وممارسة سلوكيات التكفير عبر التعزيز المستمر لطقوس مؤلمة وحزينة تجلد الذات جلدا مبرحا أكثر مما تيسر حياة الناس وتبعث فيهم الفرح والبهجة بمشروع الحسين الكبير, كتطبير الرأس والضرب بالزناجيل على الظهر واللطم على الوجه والصدر والجبين, وما يصاحبها من مشاعر المزيد من الإحساس بعقدة الذنب والاضطهاد والعدوانية الموجهة إلى الذات والى الآخرين.

ـ الإحساس العميق بالظلم والغدر والشعور بالمرارة تجاه ما حدث والرغبة في الثأر ممن فعلوا ذلك أو تواطئوا فيه أو سكتوا عنه, وهي آلية تزرع العدوان اتجاه الذات وتهدد التوازن النفسي للإنسان وتسهل الإقدام على مختلف الأعمال المذلة والمدمرة للكيان الشخصي والذاتي وتبخسه وتحط منه, عبر الإحساس الذاتي بعدم جدارتنا في الحياة, ولن يصدر عنا أي فعل خير, ولا يحق لنا أي اعتبار أو تقدير, وهو ميكانزم أساسي في سيكولوجيا الإنسان المقهور وخاصة في بيئة الفقر والتخلف الاجتماعي وانتشار الأمية, إلى جانب توجيه هذه العدوانية تجاه الآخرين المغايرين وخاصة عندما نضعهم بصفة مرتكبي جريمة قتل الحسين اليوم بغض النظر عن الزمان والمكان الذي جرت فيه الاحداث الحقيقية.

ـ زرع الخوف من الآخر والتشكيك فيه واعتباره قابلا للغدر في أي لحظة ما, وهي حالات تصل إلى حد بارانويا الاضطهاد, وتكريس سلوك اخذ الحيطة والحذر, ويترتب على ذلك الكثير من الدوافع في امتلاك السلاح وحيازته على نطاق واسع وبعشوائية استجابة لمشاعر الإحساس بالظلم والاضطهاد والعزلة لحماية الذات من العدو بعيدا عن دور الدولة في هذا المضمار, يقابله في الطرف الآخر الصراع المكثف للانتساب إلى أجهزة الشرطة والجيش والمخابرات وامتلاك ناصية القوة في الوزارات ذات العلاقة استجابة لعدو وهمي قد يهجم في لحظة ما ” وهذا لا يعني التقليل من قدرة الآخر وعدوانيته في الغدر إن كان حاقدا متطرفا داعشيا أو وهابيا “, إلا أن السلاح يجب أن يكون حصرا بيد الدولة الديمقراطية, وقد تفسر ظاهرة التسلح العشوائي في بعض جوانبها استجابة معاكسة وردة فعل لما كان يمتلكه النظام الساقط من سطوة وقوة وأجهزة قمعية, وتتحول بفعل ذلك عملية التسلح إلى كارثة على الطائفة نفسها بسبب من يدعي تمثليها من مختلف الأحزاب الإسلامية والجميع مدجج بالسلاح.

ـ لقد عمل الإسلام السياسي والقوى المتطرفة بتكريس فكرة أن حدث الحسين واستشهاده هو حدث خاص بالطائفة الشيعية ولوحدها فقط , وما تبقى من طوائف ومذاهب خارج البيت الشيعي فأن صلتها ثانوية بالحدث من حيث الاحتفاء والإجلال به والاستفادة من دروسه الايجابية, إن لم تكن مساهمة في مأساوية الأحداث, وهذا التصور الشائع أضفى على الوسط الشيعي مسحة انفعالية سالبة معززة للتشدد ومساهمة في انعزال المجتمع الشيعي عن الوسط المحيط به من طوائف ومذاهب, رغم وجود مشتركات كبيرة بينها في طقوس العبادة والشعائر الدينية, وخاصة مع الطائفة السنية, حيث يشتركون كلا الطرفين في الإيمان بالله وبرسله وبخاتم الرسل والأنبياء محمد وتأدية مناسك العمرة والحج, وهذا ليست من باب ألقاء اللوم على الشيعة في تضييق فرص الحوار مع السنة, ولكن أيضا ومن تجارب الحوار بين الطائفتين أن للسنة بعض من شروطهم التعجيزية في قضايا مفصلية بالنسبة للشيعة كالتقية والعصمة والمرجعية والفهم المغاير للكثير من نصوص القرآن وتفسيره وقضايا فقهية كثيرة, إلا إن الطريقة التي تفهم بها طبيعة أحداث كربلاء وشهادة الحسين, لها ما لها من آثار مسبقة في تضييق فرص الحوار ملقية بضلالها السلبية في التقارب المذهبي, وخاصة عندما يزج الدين في السياسة وتتداخل المصالح الأنانية, فلم يرى كلا الطرفين غير اللون الأسود.

ـ أن تأصيل الشعور بالذنب لدى الوسط الشيعي اتجاه الحسين بسبب من عدم نصرته في معركته العادلة مع يزيد, يقابله في الطرف الآخر الإعجاب الشديد ببطولته وتحديه لسلطة يزيد بدء من مقولته الشهير: ” لا بيعة ليزيد, شارب الخمور, وقاتل النفس المحرمة “, وعلى الرغم من الكثير من النصائح والتحذيرات التي قدمت للحسين بعدم الدخول في هذه المعركة بسبب عدم تكافئ الجيشين وتوقعات باستشهاده, إلا انه ترك ارض الحجاز متوجها إلى العراق قائلا: ” لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد “, وكان يعي تماما حاجة الأمة الإسلامية لمثل هذا الموقف الشجاع ” بغض النظر عن التفاصيل “, وخاصة على اثر بيعة الحسن لمعاوية والتي أثارت الكثير من الالتباسات لدى المؤمنين آنذاك, أن هذا التداخل في المشاعر اتجاه الحسين والتي هي خليط من مشاعر الحسرة والندم لعدم نصرته, إلى جانب الإعجاب بصموده وبطولته أدى إلى حالة من التقديس والتعظيم للحسين, فهو بقدر ما يستحقها بعقلانية الإيمان, إلا أنها تركت لدى أوساط الشيعة استقطابا وجدانيا شديدا, وتحول هذا الاعتزاز والحب إلى موضوع خلاف وكراهية اتجاه الرموز الأخرى في الإسلام, أو كما يقال في الدارج من زاد على حده انقلب إلى ضده, خاصة عندما توظف هذه المحبة في غير مكانها ولتغذية الصراعات المذهبية.

ـ لقد استغل الفراغ الكبير الذي تركه استشهاد الحسين بتكريس السلوك التعويضي بمظهره السلبي, والذي يضعف من قدرة الإنسان العقلية والفكرية على تجاوز مأساوية الأحداث وأتحاذ زمام المبادرة وتأسيس العقل الناقد, مما سهل لاحقا تسليم الأمور ومصائر الناس بيد سلطات دينية مطلقة تمثلت في المرجعيات الدينية وإضفاء عليها صفات القداسة والطاعة والعصمة على نسق ما يضفى على الأمة ألاثني عشر, مما عبر عن حاجاتهم النفسية المستمرة على نسق الحاجات الطفولية إلى شخص راشد يتولى زمام أمورهم ويسلمون لهم قيادتهم, مما أدى بدوره إلى تضخم دور المرجعيات ليتجاوز حدود تأثيرها المجال الديني ليمتد إلى الجانب السياسي والاجتماعي, والتجربة العراقية اليوم دليل على هذا التأثير المتعاظم للمرجعيات على الأحداث السياسية الكبرى كالانتخابات والدستور وتوزيع المناصب الحكومية’ حتى لتبدو وكأنها المصدر المطلق لكل السلطات, مما يحقق لها سيطرة سيكولوجية كاملة تتشكل داخل المنظومة النفسية للإنسان وتمنعه من الاختلاف معها أو عدم الخضوع التام لها, والمشكلة ليست بوجود مرجعيات, فالمسيحية لها مرجعية يجسدها البابا, واليهودية كذلك لها الحاخام , ولكن المشكلة تكمن بشمولية واتساع نطاق صلاحياتها الذي يتجاوز الديني.

أن الاستفادة من أسباب ودروس ثورة الحسين في مكافحة الظلم ونشر العدل, واستتاب الأمن, والوقوف ضد الحاكم الظالم كائن من كان ومن أي حزب وملة وطائفة, وضد فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومحاربة الفساد بألوانه, ومقارعة الذل والمساومة, وأيقاظ الضمير وتحريك العواطف الإنسانية, وإصلاح حال الوطن وضد تشويه القيم الإنسانية النبيلة, وفي احترام العهود والمواثيق, نحن اليوم بأمس الحاجة لها لإشاعة مجتمع العدل والقانون والحرية والديمقراطية, بعيدا عن قراءة ثورة الحسين بأطر سياسية ومصلحيه ضيقة وتوظيفها لمآرب تجلب الضرر لنا جميعا وتعدم الاستقرار في حياة الناس, أما التعاطف مع مأساة قصة الحسين فأكتفي بقول المؤرخ الانجليزي جيبون بقوله: ” إن مأساة الحسين المروعة بالرغم من تقادم عهدها وتباين موطنها لا بد أن تثير العطف والحنان في نفس أقل القراء إحساسا وأقساهم قلبا “. اليوم نحن في العراق وبعد تجربة اكثر من عقد ونصف من الزمن زج فيها الدين في السياسة بأكثر الاشكال تعسفا وعرقلة للشأن العام, نبقى بأمس الحاجة الى اعادة قراءة واقعة كربلاء وتوظيف طاقتها الايجابية في خدمة الوطن والمواطنة وبناء النسيج المجتمعي الصالح والمترفع فوق الانتماءات الفرعية وفي مسارات تعزز من فكرة ” أن الدين لله والوطن للجميع “.