23 ديسمبر، 2024 7:26 م

عازف الناي…

عازف الناي…

مَلَكَ السواد بعبائته الداكنة حصرا عنده، هبط بجناحين راقت له أن تكون مثل أجنحة غربان، هي رسالة الله الى البشر، حيث البقعة التي رام ان يتخذها وطنا شاسعة موحشة، بداية مقفرة بكل المعايير، لكن ما أن اعتادالأمر حتى باتت له فسحة لراحة داخلية، يجلس وحيدا لاأحد يحيط به سوى تلكما الغرابان اللذان يقفان على كتفيه، يخرج من بطن ردائه عظمة أزلية، عهد في صنعها اول الأمر نايا يعزف فيه ألحان مختلفة، ثم بعدها يخرج صحنا يضعه أمامه.. يستجدي المارة في عراء مبهم، يعلق مفتاحا متدليا على صدره، يمسك الناي ثم يهمس بفيه فيه معاتبا مكونات إنسانية شاردة بين أحضان دنيا عائقة، تارة تعرض أثدائها لترضعهم حليبها المحرم، فيموجون بخيلائهم عُصاة كماردي الجان… يحملون ألسنة لاذعة تسحق المعنى الآدمي للحياة، وتارة تظهر أردافها فيلعقها من باحت له نفسه ان يكون لاعق مخلفات بسفالة، هكذا كان في كل لحظة يخرج نوتته، يختار ابجدية السلم الموسيقي للعزف برتم حزين سقيم، يؤلم من يسمعه، إنه لا يعزف إلا لمن يريد هو أن يُسمِعهُ العزف، هكذا قُدر له، صاحب سطوة  وسلطة، وريقات تسقط في حضنه ما أن يقرئها حتى يعزف لها الرتم الخاص بها… فترى سامعها تموج الدنيا فيه، تلك  التي سيقت نحوه بعرض وطلب… لا تكترث له ولا لأمثاله، إنها بائعة هوى على قارعة طريق طويل معتم، تختلس سرقة من لا يعي مبدأ القيمة الانسانية وإرثها في الحياة الدنيوية، فتراه يسدل على افعاله ستائر من مبررات عقيمة لا يمكنها ان تلد له في يوم من الايام رضيعا يمكن ان ينمو ليحقق إنسانيته أو يرث منه معنى الوجود.
في تلك اللحظة سقطت في حضنه ورقة استغرب حين قرأ الاسم الذي فيها… تردد عن امتصاص ناي لعزف جنائزي… يدرك ان صاحب الاسم نسيا منسيا، لكن قد فار التنور ولا بد ان على صاحب الاسم الدوائر تدور.. أما صاحب الاسم فقد مالت فرائصه الى النيل منه ارتجافا، لا خوفا بل عوزا وفقر، هاهو ينزوي خلف تلك الكومة من بقايا صناديق علب كارتون أو مقوى، يدلف بنفسه الى داخلها كاشفا نصف جسمة الى العراء، يتلحف بما يمكنه ان يجمعه من بقايا ألبسة وأغطية رثة، سحقته الايام حتى عصت على الدهر ان تعطيه رمقا من نيل أمنية، لم يكن يتذمر أبدا، لقد وصل الى قناعة أن هذا هو قدره، فلا بد ان يستسيغه بكل براثن النوائب ومخالب النيل من عمره سحقا وتشريدا.. مع عصف برد وصفير بوم مندس ينتظر على قارعة الطريق خطوات من حملوا أنفسهم تحت عباءات سوداء، استدار برأسه نحو مكانه، وقفوا يتطلعون الى عنوان من بُلغوا بجلبه، أنه يومه الاخير على سطح هذه الأرض، شم هو رائحة الموت الدفين بين ايديهم، رمى بغطائه خرج قائلا: مرحا يا نائحي الحياة الابدية… لقد استبطيت قدومكم هيا قودوا الطريق…
كان الاستغراب قد بدا على تلك الوجوه التي بهتت بأي شكل يمكنها ان تريه نفسها… صدمهم بترحيبه، كأنه ينتظرهم على شغف، كان يسير وهو يقول: ما أسعدني بلقائكم، لقد عضضت النواجذ كثيرا على الاتيان الى دنيا حرم الله علي فيها ان أكون شيئا، ربما أنا مخطيء بظني هذا… ولكن كثيرا ما جلست ابحث عن سبب قهري وذلي في دنيا الحرام فيها مستباح، تماما مثل الخمر، أنه حرام لكنه مستباح حتى في جنة الله التي تجري فيها الانهار خمورا مختلفة معتقة ربما… لا أدري!؟ هكذا سمعت من الكثير الذين رصفوا جملهم بتورية، لعلكم تريدون الخلاص مني بسرعة دون سماع كلامي هذا، أني أقسم لكم لست ملحدا بل صادقا.. ربما صدق قولي هو سبب نزوحي الى مستنقعات التهميش التي رُميت بها رغما عني، أو خوفا!! مع العلم أني لا أخاف بسهولة، لقد كنت احمل فكرا تحرريا مغلفا بالايمان، فكل ما خلقه الله حلال ضمن مقاييس التي يسمح بها دون الخروج عن إطار الفساد، هذا ما حاولت ان أبينه وأطرحه على الكثير من البدلاء الذي رفدوا الى ناصيات الشوارع يبيعون أطفال حرام خدج مغلفون بورق توت لا يخفي سوى عورة واحدة، مع علمهم بأن عواراتهم مكشوفة للجميع، لكنهم استخدموا الإلهاء لترويج عورات حلال وعورات حرام، فلسفة جديدة ابتدعت لتضمن التجريد الواقع على جذوع شجر عمره الأزلي يوحي ان الدنيا داعرة في كل زمان ومكان، وأما قواديها فهم من يزنون في أزقتها ويرمون على نواصي الشوارع بلقطائهم، هكذا هم بالنسبة لها قوادي فرص ومستبيحات، أضافوا قبلها كلمة الفتوى لتواري العار الذي يكن بداخلها… وحتى تكتمل الصورة زادوها بذقون طويلة واغطية رؤوس باقنعة نسائية تخفي ورائها كل التداعيات التي أنزلها الله على البشر، نظر إلى مرافقيه فوجدهم قد بدا عليهم الصمت لونا قاتما… فأردف… أرى أنكم فوجئتم بما أقول؟! لا ضير فهكذا كان من قبلكم الانسان الذي عملت معه، فبعد ان أردت أن أصحح المسار المعوج وجدته يطرق أذني بنشاز الاوتار والنوايا العفنة، بعيدا عن الخطوط البيضاء التي كنا قد علمنا أنها الحق، ثم عاد وخطها بلون خفي ليظهر السواد في داخله برؤية جديدة، يعتاش عليها ومن دفع به الى زاويته الحمراء تلك، لا أدري كيف ومتى تمكن له ذلك؟! بعد أن شمر عن ساعدية الموشومة بعبارات أني على خطأ، فوجب تصحيح مساري وإلا بأصبع كبيرة وطويلة احسست أنه نال من مؤخرتي كقضيب مسنن، علمت أن الحياة بعيدة عن هكذا بيئة أسلم لعفتي، لذا تركت المكان خلسة، حملت معي كل المتغيرات التي رأيت ان تكون جديدة، تغسل دنس من زرعوا النتانة شعارات وطنية دينية، ثم انتظرت على قارعة الطريق آملا أن يقلني من يُسعَد بأفكاري… لكن المدة طالت، بل منعت كل المركبات عن الطريق الذي وقفت فيه، أصبحت وحيدا، سكنت أطلال الخراب، بنيت لنفسي جحرا مثلي مثل الفئران، اخرج حين أجوع، أهرب حين سماع صوت .. أي صوت، هكذا وبوحدتي أكلت نفسي بنفسي حتى لم يبقى فيها من شيء، لكن بقيت على عهدي مع خالقي لم أتغير وربما هو ذاك سبب أني لم أتغير… كوني أحمل ميثاق إنسانية صعب أن ينالها من اتخذ السلام كالإسلام دثار في ليالي شتاء باردة، لا عليكم … أعلم أني شنفت آذانكم، هيا أحملوا حقيبة ذنوبي… إنها ثقيلة لا شك، أدرك ذلك وأثقل ما فيها هو هذه، كان قد أخرج راية متآكلة من كل صوب وتلك الحروف التي كتبت بخط واضح السلام.