عادل حبه : شاهد قرنٍ مضرجٍ بالخيبات والأمل

عادل حبه : شاهد قرنٍ مضرجٍ بالخيبات والأمل

في دروب بغداد القديمة، وتحديدًا في صبابيغ الآل، تلك المحلة التي احتضنت نسيجًا متنوعًا من الناس والتواريخ، وُلد عادل محمد حسن عبد الهادي حبه في الثاني عشر من أيلول عام 1938، وسط زمن لم يكن يألف السكينة، بل كان مرجلًا يغلي بالتحولات الكبرى التي ستغير وجه العراق والمنطقة.

نشأ عادل في كنف حيّ الصدرية، متنقلاً بين أزقتها ومدارسها. بدأ تعليمه في المدرسة الهاشمية التابعة للمدرسة الجعفرية، وواصل إلى المدرسة الجعفرية ، حيث ترسخت ملامح وعيه الأول. وبين كتب المدرسة وهدير الشارع، كانت عيناه ترصد تفاصيل الحياة البغدادية المتغيرة، فوجد نفسه ينجذب مبكرًا إلى أنشطة فتيان الحي في منظمة “أنصار السلام” السرية، ولم تلبث تلك البذرة أن نمت وتفرعت في قلبه حتى صار ناشطًا في اتحاد الطلبة العام، وهي منظمة كانت تعمل في الظل، تلتقط من العتمة قنديلها الخاص.

بعزم لم يعرف الكلل، أكمل عادل دراسته المتوسطة في مدرسة الرصافة، ثم الثانوية في الشرقية، بعد أن مر سريعًا على الإعدادية المركزية. وفي نهاية عام 1955، وما إن لامس عتبة الثامنة عشر، حتى قرر أن يخطو إلى الأمام، مرشحًا نفسه لعضوية الحزب الشيوعي العراقي، متحديًا بذلك القيود العمرية والسياسية.

لم تكن خطاه السياسية مجرد انتماء، بل كانت التزامًا وموقفًا. ففي عام 1956، وأثناء مشاركته في الإضراب العام المؤيد للثورة الجزائرية، اعتقل في موقف السراي، وهو بعد في مطلع شبابه، يختبر قسوة الزنازين لأول مرة، ويتذوق مرارة القمع، تلك التي سترافقه طويلًا في محطات لاحقة.

انتسب إلى كلية الآداب والعلوم في الأعظمية، واختار فرع الجيولوجيا، لكنه لم ينشغل كثيرًا بالصخور والمعادن، فقد كانت رغبته في فهم “تضاريس الإنسان” أشد إلحاحًا. أصبح مسؤولًا عن تنظيمات الحزب في الكلية، وامتد نشاطه ليشمل كليات بغداد بأسرها، وأضحى أحد أركان العمل الطلابي في مرحلة المد اليساري الذي رافق مرحلة ما بعد ثورة تموز 1958.

بعد الثورة، انفتح الأفق للعمل العلني، فانتُخب رئيسًا لاتحاد الطلبة في كلية العلوم، وشارك في أول مؤتمر علني للاتحاد بعد قيام الجمهورية، وارتقى إلى مسؤول التنظيم الطلابي في بغداد، في وقت كان الحزب الشيوعي في أوج حضوره السياسي.

تخرج عام 1960 حاملًا شهادة البكالوريوس في الجيولوجيا، لكنه لم يذهب بعيدًا في تخصصه، إذ قرر الحزب إيفاده إلى موسكو لدراسة العلوم الاقتصادية والسياسية في المدرسة الحزبية العليا التابعة لأكاديمية العلوم الاجتماعية، حيث أمضى ثلاث سنوات تخرج بعدها بدرجة “تفوق”، محمّلًا بنظرة أكثر عمقًا للعالم وصراعاته.

ثم جاءت نكبة 8 شباط 1963، لتقلب الموازين. سقط الحكم الوطني، ودخل العراق نفقًا مظلمًا من القمع، وكان لزامًا على الحزب أن يعيد ترتيب صفوفه. فكان عادل واحدًا من الذين كُلّفوا بمهام جسيمة، فسافر إلى طهران لإدارة محطة سرية تتكفل بأوضاع الهاربين من بطش النظام البعثي، وتسعى لإحياء التنظيم داخل العراق.

لكن أجهزة الأمن الإيرانية داهمته عام 1964، فاعتُقل وعُذب مع رفاقه، وأُحيل إلى المحكمة العسكرية في طهران بتهمة “نشر الأفكار الاشتراكية”، ليُحكم عليه بالسجن سبع سنوات. لم تكن السجن نهاية الطريق، بل مجرد منعطف آخر في مسيرته الطويلة. وبعد انتهاء محكوميته، أُعيد إلى العراق عبر معبر المنذرية، لينقل بين سجون خانقين وبعقوبة ثم الأمن العامة في بغداد. لم يتخل عنه الحزب، بل تدخلت عائلته لدى محمد محجوب، القيادي البعثي الذي سُرعان ما ابتلعه صدام في حملته الدموية لاحقًا.

خرج من السجن ليعود إلى صفوف النضال، عاملًا جيولوجيًا لفترة، لكنه ظل يناضل سرًا لإعادة تشكيل تنظيمات بغداد، لا سيما في مدينة الثورة وريف العاصمة. وفي عام 1973، غادر وظيفته وتوجه إلى براغ، ممثلًا للحزب في مجلة “قضايا السلم والاشتراكية”، وسرعان ما أصبح عضوًا في هيئة تحريرها، مساهمًا في صياغة خطابها، وناشرًا مقالات تُعنى بالشؤون العالمية.

عاد إلى بغداد عام 1977 ليكون أحد ممثلي الحزب في جبهة لا تخلو من التوتر مع حزب البعث، وليصبح عضوًا في سكرتارية اللجنة المركزية ومسؤول العلاقات الدولية للحزب. لكن العلاقة مع البعث سرعان ما انهارت. فاعتُقل مرتين في 1978، إحداهما بسبب مساهمته في إعداد تقرير حزبي جريء، والأخرى بذريعة صلته بالثورة الإيرانية، التي أقلقت البعث أكثر مما فرح لها، رغم عدائه المعلن للشاه.

بقرار حزبي، غادر العراق مجددًا عام 1978، وتنقل بين دمشق وعدن، قبل أن يُكلف مجددًا بإدارة محطة الحزب في طهران بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979. وهناك، وسط أجواء الثورة، سعى لتأمين حياة اللاجئين، ودعم فصائل الأنصار، قبل أن تعتقله السلطات الإيرانية الجديدة بدورها، ويقضي عامًا ونصف في سجونها، حتى تم إطلاق سراحه بتدخل من حافظ الأسد وياسر عرفات.

عُيّن مسؤولًا لمنظمة الحزب في سوريا واليمن بين عامي 1981 و1991، ثم تولى الإشراف على إعلام الحزب المركزي، محررًا في “طريق الشعب” و”الثقافة الجديدة”، وصوتًا لليسار في زمن القمع.

بعد انتفاضة 1991، عاد إلى كردستان، ثم تسلل سرًا إلى بغداد في 1992 لإعادة الحياة للتنظيمات الحزبية، قبل أن يغادر مجددًا بعد أن ألم به مرض عضال، قاصدًا المملكة المتحدة.

في غربته الأخيرة، لم يبتعد عن العراق رغم بعد المسافة. كتب، وعلّق، وترجم، ونشر في الصحف العربية والأجنبية، بصوته المعروف أو تحت اسم “حميد محمد”، مراعيًا شروط الأمن وسياقات النشر. ترجم عن الروسية والفارسية والتركية، وكان حاضرًا في معظم القضايا العراقية والإقليمية بقلم محنك، وخبرة نضالية واسعة، ورؤية إنسانية لا تخون الذاكرة ولا تتخلى عن الحلم.

يجيد العربية والإنجليزية والروسية والفارسية، لكنه، قبل كل شيء، يجيد لغة الإخلاص. إخلاصه لقضية عادلة، ولشعب أثقله الاستبداد، ولقلب بقي يخفق باسم الوطن رغم المنفى الطويل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات