في قرية وادعة على ضفاف نهر الفرات، في “شط ملا” بقضاء الهندية، كانت الأرض تحيك أول خيوط القصيدة في قلب طفل وُلد صيف 1949. هناك، بين الحقول والماء والناس الطيبين، أبصر عادل حميد الياسري النور، وفي روحه نبتت بواكير الشعر كما ينبت الورد على الضفاف العطشى. لم يكن محض ابن قرية، بل وريث بيئة تفيض برهافة الإحساس وعمق التفاعل الإنساني، وسط عائلة كانت بمثابة شجرة ظلها يطال كل عابر.
بدأت فتنة القراءة تسرق الياسري من طفولته باكرًا. كانت مجلة الهلال المصرية بوابته الأولى، تلتها عوالم جرجي زيدان والرافعي، وسرعان ما ارتفعت قامته بين الرفوف، حيث الروايات العالمية، وحيث الأدب لا يعرف حدود اللغة والجغرافيا. في سن المراهقة كتب أولى قصائده العمودية، قبل أن يتذوق إيقاع التفعيلة ويجد فيه مجرى أوسع لصوته الداخلي.
ومثل كثير من الحالمين الذين عاشوا تحت ظلال الدولاب الإداري، شغل الياسري وظائف في دوائر الدولة، لكنه لم يسكن طويلاً في لغة المعاملات؛ فقد كانت لغته الأخرى، لغة الشعر، تنبت له أجنحة خارج الجدران الرسمية. تلك الأجنحة حملته إلى عضوية اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وإلى منابر الصحافة والثقافة في بابل وبغداد والعالم.
لم يكن عادل الياسري مجرد شاعر يُطبع له ديوان بين حين وآخر. بل كان صوتًا متجدّدًا، شاعرًا استعار من الوردة أكثر من رقتها: دمعتها، شوقها، انبعاثها، موتها، احتراقها في نار الجمال. من دواوينه: لن يموت الورد، ورد محمّل بالمطر، الوردة ماء النار، وكلها تنضح بعناوين تحيل إلى عالم شعري خاص، عالم فيه من رماد الذاكرة ما يكفي لقصيدة، ومن فتنة الأمل ما يكفي لثورة داخل بيت شعري.
وما بين دفّات كتبه، وبين منابر المهرجانات الكبرى – من مربد الجواهري إلى مهرجانات باريس ولاهاي وصوفيا – حمل عادل الياسري صوته، صوته وحده، لا يشبه سواه، مشبعًا بتجربة إنسانية ثرّة، وبحس صوفي لا يغادر التراب العراقي حتى حين يتكلم في عواصم الغربة.
كتب عنه كثيرون، من النقاد والأدباء، كما دُرست تجربته في رسائل أكاديمية، من إيران إلى العراق، ومن الصحافة الثقافية العربية إلى المجلات المتخصصة. وقد استطاع أن يحفر لنفسه مكانًا بين الشعراء الذين تخطوا حدود اللحظة، متحولين إلى ذاكرة شعرية تضيء لمن يأتي بعدهم.
إن سيرة الشاعر عادل الياسري ليست فقط سيرة شاعر كتب للورد، بل سيرة رجل جعل من الشعر كينونة كاملة، حياة موازية، وعيًا، وموقفًا. لقد غادر العابرين ليجلس مع الخالدين في ظلال شجرة الشعر العراقي، تلك التي تمتد من جذور السيّاب إلى أغصان الشعراء المعاصرين الذين ما زالوا يكتبون على عجل، لئلا يفوتهم موعد القصيدة القادمة.
ومن قصائده المختارة قصيدته “الرماد ملك النار” التي تفتح أفقًا شعريًا زاخرًا بالرموز والإشارات، وتتوسّل المجاز كأداة مركزية لرسم عوالمها الداخلية. يتداخل فيها المطر والنار، العشب والرماد، البحر والصحراء، لتنتج مشهدًا شعريًا كثيفًا، تنساب فيه المعاني وتتماوج الصور.
وهي تحمل نغمة عامية عراقية محببة، تكسر الجديّة النمطية وتمنح النص طابعًا شفاهيًا حميميًا. وكلمة “مُطَرطر” تشير إلى المطر الكثيف الذي يتساقط بشدة وعشوائية، وكأن الشاعر يستدعي زخم الحياة وتداعياتها وهي تهطل عليه، لا مطرًا مائيًا فحسب، بل مطرًا من الصور والذكريات والانفعالات.
المطر: التطهير، الحنين، التوهج “يداك تغتسلان، الأشجار على طيورها يسقط المطر“
يفتتح الشاعر بمشهد يتجاوز الطبيعة، حيث الاغتسال فعل طقسي، روحي، وليس ماديًا فحسب. المطر هنا ليس ماؤه فحسب، بل هو فيض شعوري، تطهير داخلي، بدء جديد. حين تغتسل اليدان، تتطهّر الذات، وحين يسقط المطر على الطيور وهي في الأشجار، فإن الحياة كلها تستعد للتجدّد.
فقوله: (وجوه العشق المتحوّلة “والنار لها أوجه، مليكها الرماد، غرسها الجمر) تأتي النار كضد للمطر، لكن الشاعر لا يتعامل معها كعنصر هدام، بل يمنحها ملامح بشرية: (لها أوجه”، “مليكها الرماد). إنها نار العشق، نار الفقد، نار الكتابة نفسها. الرماد، الناتج عن الاحتراق، هو التاج لا النهاية؛ إنه ما يتبقى من التجربة الشعرية بعد احتراق الذات.
وقوله: (في بستان عاشقة.. بلّلتها أساطير الغواية، فكّت رموز الصفحة الأولى في مدونتي) حيث ينقلنا الشاعر إلى بستان العاشقة، حيث تتعانق الأسطورة بالواقع. الغواية هنا ليست فقط عشقًا جسديًا أو فتنة نسائية، بل غواية المعرفة، غواية الشعر، غواية اللغة. الصفحة الأولى قد تكون صفحة الوجود، أو أولى لحظات الكتابة، أو لحظة الانكشاف الأولى بين العاشق والمعشوق.
أما قوله:(راودت شاعرًا… حاورت ظله الأسماك … اشتكى…أنها قدّت الشباك من وسطها) الأسماك تحاور الظل، لا الشاعر ذاته. هذه الصورة المفارقة تعمّق من عزلة الشاعر. إنه كائن لا يُمسك به، مثل ظله، والأسماك – التي تعيش في الأعماق – لا تستطيع حتى أن تصطاده. حين تُقطع الشباك من وسطها، تنهار إمكانات الصيد، أي انهيار التواصل، أو فشل الإمساك بالحقيقة.
ومنها: (صحراء المدينة عاثت بها الأشجار…. ظلّلت رملها بما يشبه الخوف) المدينة تتحول إلى صحراء، والأشجار، وهي رمز الحياة، لا تثمر بل “تعيث”. تغدو الأشجار هنا غريبة عن دورها؛ ظلالها ليست بردًا وسلامًا بل “ما يشبه الخوف”. هذا انزياح في الوظائف الطبيعية للموجودات، ينم عن قلق وجودي، وارتباك داخلي في الوعي الشعري.
يقول: (وأومأت عيناه لمن رأى كفيه ممدودتان على سكة للقطا) القطا – الطائر المهاجر – يوحي بالغربة والتوق والحنين، وسكة الحديد تفتح باب التأويل نحو الانتظار / السفر / الرحيل. الأيدي الممدودة، المبللة بالعشب، تصير صورة رمزية للتسليم، للرجاء، أو حتى للتضحية الصامتة.
وقوله: (الأسى ..، كفّان تعصرانه) فالأسى لا يُقال، بل يُعصر بين الكفّين. إنه مادة ملموسة، لا شعور عابر. تتجسد الأحزان في الجسد وتتحول إلى فعل، إلى شكل حسي. هذا الوعي الجسدي بالحزن يعمق أثره الشعري ويجعله يفيض عبر الصورة.
ونهايتها:( لكنها النار في تنوّرها… ترسل الشفرات أسرارًا… يتكئ العشق على مخداتها… ويسبل القطا جفنيه في رفّة) القصيدة تختم بمشهد دافئ رغم ألسنة النار: تنور يرسل الشفرات، والعشق يتكئ على المخدات، والقطا يرف جفنيه. إنها حالة سلام مؤقتة، هشّة، لكن جميلة، كمن بلغ لحظة استراحة بعد عاصفة وجدانية طويلة.
والقصيدة ليست نصًا سرديًا أو قصًا عاطفيًا مباشرًا، بل لوحة شعرية سريالية، تنفتح على تأويلات عديدة. تتداخل فيها ثنائيات: النار- الماء، الحب-الفقد، الذات-الظل، الحلم-الرماد. ويُظهر الشاعر فيها قدرته على تفجير اللغة، وجعل الصورة الشعرية تؤدي دورًا مزدوجًا: جماليًا وتأمليًا. إنه نص يتطلب قارئًا مستعدًا للضياع المؤقت في متاهته، لكن مكافأته كبيرة: حالة شعرية خالصة، تفيض بالرمز، وتدعونا لأن نعيد تشكيل العالم برؤية شعرية جديدة.