فجرُ صباحٌ بلا شمس!
سماءٌ تتلبد بدخان المعركة.
يسيرُ (مكي) إبن العشرون ربيعاً، بين ما تبقى من جثث رفاقهُ في يومٍ مشؤوم، فرضته على وطنه الحرب، قاصداً خط الصد الاول، حاملاً معه الامل الوهمي! فقد كُلِفَ بتوزيع مستحقات الجنود.
تعطل الزمن! طالت المسافات! وهو يسابق صواريخ الموت!
يحل ضلامُ دامس.
صوتٌ مرعب يخيم على المكان.
بعد عناء يصل (مكي) مع وصول ازيز الرعب.
لكنه بعد برهةٍ أيقن انه لم يعد يحمل ذاك الامل! فلم يعد ذا عهدٍ بمستحقات الجميع!
يَبيتُ الشاب الجنوبي ليلته بلا روح، فأن الاجراءات صارمة، أحلاها مراً، عباس (شاب من محافظة المثنى) مخففاً حرقة الالم: كل شئ سهل يسير ما دامت ارواحنا تعانق اجسادنا، ولم نُسجل في عداد الموتى بعد.
(مكي) يتألم لان مــــا فقده يعــادل موسم زراعي لسنتين او اكثر، تكدح بها تلك العجوز الذي قارية السمراء (ام مكي)، فهي تتعثر في شقوق الارض باحثةً عن رمق عيش اولادها.
آه آه … معاناة تدق اجراس تلك الارض المنتجة.. منتجةً بكل شئ، بالرجال، بالشهداء، بالنساء اللواتي يقفن وراء اعظم الرجال.
في الصباح سيعود (مكي) ليفتش بين الجثث! لعلهُ يجد مبتغاه.
هبت صواريخ، واحتدم الصراع، فحصيلته ان ذاك الاهواري الجنوبي؛ مسجى في أحد المستشفيات العسكرية، لا يعرف علته.
بدأت شكوك واصوات من هنا وهناك تثار، اتهامات بشبهات اختلاس، كل هذا فنده (عباس)، فقد هرب لاهله ليعود مسرعا، ومعه رواتب أولئك المرابطين على منصات الموت! وكأن شئ لم يحدث، سوى فقدان (مكي) لاحدى كليتيه، لكنه استبدلها بعلاقة اخوية مع ذلك السماوي المملوح، الذي جسد ابلغ معاني الشجاعة والايثار، فأي روح يحمل، واي عطاء لا ينضب يقدم.
انتهت الحرب …. ورفعت أوزارها
كل بيت توشح بالسواد.
الأحياء كانت مداخلها تفسر بواطن أهلها.
نساءٌ ثكلى وآباء مفجوعين.
ارامل، ايتام، معوزين، (مكي) بكليةٍ واحدة، هذا ما خلفته الحرب.
لا جديد سوى اعداد القبور وصرخات اللواتي فقدن اولادهن، ازواجهن، آبائهن.
انتهت الحرب … ولا زلنا نعيش ونتذوق مرارتها، لا زلنا نكتوي بنار الفقد والخراب.
إنها محرقة الشباب …
على مر الأزمان لغة العنف والدم تأكل كل اخضر البلدان ويابسها.
يعود (مكي) لقريته الجنوبية، بعد حرب الثمان سنوات، بكلية واحدة هزيلة، واخرى تعطلت مع وقف اطلاق النار.
(مكي) كبير لسبعة أخوة، قبل ان يكون أب لستة اولاد، ولا بد ان يصل بهم الى بر الحياة الكريمة، وهذا قد يتعارض او لا تسمح به كليته الوحيدة، لكنها الحياة وانه في العراق.
ذاك الوطن الذي يربوا على ارض ذهبية قاسيةً على ابنائها.
لا بد لـ (مكي) ان يجهد نفسه لينال بعض من مبتغاه.
وبدأت رحلته الاخرى في جهاده الأكبر.
ولأنه رب اسرة، لا بد أن يعيلها وينطلق نحو مجابهة موجات العسر المتفشي في أنحاء البلد.
بدأ الصراع بين العيش الكريم وما تبقى من الكلية المجاهدة، فمن سينتصر في صراع الألم في رحلة الدنيا التي ما برحت حتى تلقن العراقيين دروساً في المعاناة.
للاسف …
انتصر الالم! والتحقت الاخرى بأختها، بعد سنين من الجهد ومراحل مقاومة الحياة.
وحل مسرح جديد في قصة ذاك الرجل الجنوبي حيث مركز غسيل الكلى!
فصارت كليته صناعية! في مراحل متقدمة.
يذهب (مكي) لذلك المكان المملوء بالعناء، مرتان الى ثلاث في الأسبوع الواحد، فيجلس على كرسيٌ متهالك سرقت جزءاً منه يد التقصير، ينتظر دوره ليعانق كليته الصناعية، التي يشترك بها معه زملاء المرض، ثم يخترق اوردته خراطيم صغيرة، تعمل على إيصال دمه الى كليته الصناعية.
انه اصيب بالفشل الكلوي، وقد أنهكت جسمه سموم الدم وحبست انفاسه السوائل المتراكمة،ينظر الى تلك الماكنة انها مصدراً لحياته!
في قاعة الانتضار، يفترش آخرون الارض منتظرين ادوارهم، في لقاء كليتهم الصناعية المشتركة، في منظر مأساوي تنعدم فيه ابسط معاني الانسانية، على الرغم من الالم والتقصير، غلبت عليهم المودة، فهم يتحلون في اعلى درجات الايثار، اذا ما كان احدهم اشتدت عليه السموم وضاق عليه استنشاق الهواء، بادر الاخرون في تسهيل اجراءاته، وان غاب احدهم افتقده الجميع، انها تلك الروح الطيبة التي يتمتع بها اغلب العراقيين فيما بينهم، متناسين كل الامهم، ولعلها سبب تحملهم للمعاناة المتراكمة، التي تفرض على وطنهم ويخرجون دوماً منها بكل ثقة.
مكي: مرتضى بُني كم تبقى من الوقت؟
مرتضى: لم يتبقى يا ابتي سوى القليل وننهي جلسة اليوم.
مكي: قد سئمت وانا ارى هذه الخراطيم تنتقل بدمي في عملية دورية.
مرتضى: ابي أنها الواقع المر الذي لا بد لك الاستسلام له، فهذه الماكنة تمثل لنا ولك الكثير.
مكي: هل لي ان احتفظ بنسخة من قصتي؟ أرغب بعرضها يوم الحساب الإلهي واشرح مظلوميتي ومعاناتي، ما دامت شكواي لا تلاقي اذان صاغية لسماعها.
مرتضى: انها لك … فأنت بطلها.