إن تحليل آليات قهر الحريات في بعض المجتمعات ولاسيما المتخلفة ، يشتمل بالضرورة على أكثر من منهج ويصطنع أدوات تتفاوت في نجاعتها بحسب الحقول أو الميادين التي يخوضها البحث في هذا الأمر . وتحقيقاً للمبدأ القائل ، أن كل موضوع للنظر يتطلب مناهج وأدوات تتواءم وطبيعته ، وأن فكرة وجود منهج عام للنظر في كل الموضوعات أو في جميع الظواهر هي افتراض ذهني أكثر منها حقيقة واقعة . من أجل ذلك آثرت اعتماد مايمكن تسميته بتلازم الظواهر مدخلاً لتحليل آليات قهر الحريات في هذه المجتمعات . وهو تلازم مشهود على نحو نطمئن معه إلى حضور متزامن لأكثر من ظاهرة اجتماعية أو سياسية بحيث إذا ارتفعت ظاهرة ما ارتفعت معها الظاهرة أو الظواهر الملازمة تماماً كارتفاع المعلول بارتفاع العلة ، كما يقولون في المنطق الأرسطوي.
إنه لمن المعلوم الذي لايختلف فيه عاقلان ، أن أغلب المجتمعات المتخلفة – ونحن أحدها – متميزة بثلاث ظواهر متلازمة:- الدكتاتورية والاستبداد ، التحلل والفساد ، وسوء توزيع الثروات الوطنية.
إن مما يلاحظه المراقب ، أن الباعث على بعض التحولات (المظاهر) الديمقراطية (الهشة المزيفة) في هذه المجتمعات ، هو الأزمات الاقتصادية الخانقة التي بدأت تهب عليها والتي تولد عنها أمراض وأزمات اجتماعية اضطرت أنظمتها الحاكمة السلطوية إلى (لعبة) توسيع دائرة المشاركة في القرارات السياسية وإلى انتهاج أو تبني (وصفات) من التعددية السياسية . على أنه وبتصاعد الأزمات الاقتصادية تصاعدت الأزمات الاجتماعية وتنوعت وتفاقمت ، ونشأ مايسمى بالسلطات الشعبية ، وعادت هذه البلدان إلى ضروب من الفوضى والديماغوجية ، وتعددت المنابر الإعلامية والسياسية وتضادت واشتبكت وظهرت على مدها الزعامات الفردية والمغامرون ، وزادت التدخلات الخارجية والمطامع الكولونيالية، وبات ضرورياً حسم الأمر بين خيارين:- إما فقدان التماسك الاجتماعي واهتزاز السلطة الحاكمة والدخول في فوضى عامة تأكل الأخضر واليابس ، وإما عودة المجتمع إلى الحكم الدكتاتوري وتخويله دوراً سياسياً في إنقاذ البلاد والعباد.
تلازم الظواهر إذن واقع مشهود . فالدكتاتورية مفضية إلى غياب العدالة الاجتماعية وإلى التحلل والفساد ، وذلك بدوره مفضٍ إلى الفوضى والاضطراب ثم إلى وهن الدولة وضعفها وإلى نشوء سلطات شعبية قد تدمر البقية الباقية من حيوية الدولة وتهددها بالانهيار ، الأمر الذي يتطلب العودة الظافرة للدكتاتورية مرة أخرى على أنها صمام الأمان . وهكذا في تداعيات دائرية تنتهي دائماً من حيث ابتدأت ، وتؤكد في كل حين معنى التلازم الذي ذكرته آنفا.
ولعلنا ، أن نضيف هنا عوامل أخرى جديدة إلى هذه الصورة الرجراجة ، كالضعف العسكري وكثرة تقاطعات الخلافات الإقليمية والتعبير النوعي والكمي ديموغرافياً نتيجة للهجرات المتتابعة ، وذلك كله مؤد بهذه المجتمعات شئنا أم أبينا إلى أن تكون كيانات قبلية دينية مالم يكن لنخبها الفاعلة موقف مدروس واعٍ ووقفة جادة صارمة.
إننا لانجانب الصواب إذا ماقلنا أن في تجاهل مشاعر الشعب الذي تعوزه مقومات العيش الكريم وفي تجاهل مشاعره الدينية وإيذائها ، مايدفع إلى قتل روحه وإلى انهيار قيمه وإلى تفتت أسره ، وإلى الخراب المطبق آخر المطاف.
ولئن كنا نحن بعض هذا العالم النامي / المتخلف الذي يعيش حالة قهر عامة للإنسان فيه ، فإن لنا الميزة والتفرد في ذلك لما نعانيه بوجه خاص من تهديد مصيري قد يقتلع الوطن والإنسان في آن واحد.
ويظل ثمة تساؤل لابد منه:- هل عاد في طاقة شعبنا الاحتمال ، وأنه قد شارف اليأس القاتل المدمر ، أم أنه مايزال يتمتع بقدرته الفذة المعهودة على الاحتمال وعلى انتظار تباشير تغيير حقيقي باتجاه إعادة التماسك السياسي والاجتماعي ؟
إن جواب ذلك مرهون بما تحمله الأيام القادمة من وقائع ومستجدات وخطوب.
[email protected]