23 ديسمبر، 2024 10:00 ص

في البدء و بالبنط العريض كما يقال: هذه الطبقة السياسية الموالاة والمعارضة (إذا كان هناك فعلا من معارضة واشك في هذا بل اجزم بعدم وجودها) كلها طبقة فاسدة تعمل لأجندات خارجية ومصالح شخصية وعندما اقول كلها فأعني “كلها” بالمعنى الحرفي بمعنى استيعاب جميع الاجزاء بلا تخلف ولا أي استثناء من الالف للياء. ولا يرتجى منها أي خير مطلقا ولن يزيدونا الا تبارا ولن يورثوا إلا فسادا وانحلالا اجتماعيا ولن يلدوا الا فاجرا كفارا كما هي نبوءة نوح واستشرافه لمستقبلهم.

اما التطور المعاشي في أحوال الناس بعد 2003 صحيح انه كبير جدا قياسا لفترة التسعينات و بداية الالفية الجديدة وربما حتى يتجاوز الثمانينات ان لم يقاربها ويساويها، ولا يمكن انكار ذلك في مظاهر حياة الترف الباذخة السائدة لدى شريحة واسعة من اقتناء كثير من الكماليات والمبالغة في اقتناء ما هو ليس بضروري، لكن هذا ليس انجازا من أي أحد من مركبات هذا النظام المسخ. كل ما في الأمر أن الثروة النفطية كبيرة جدا في العراق وعندما توقفت الميزانيات العسكرية الهائلة بدا كأن هناك طفرة والحقيقة انها طفرة معاشية هائلة لكثرة الأموال وايضا لان البلد اصبح سوقا كبيرة للتبييض وغسل الاموال. وان هذه الطفرة ليس طفرة تنموية ولا تمت لها باي صلة فلا يخرج علينا احد من اتباع الطبقة السياسية ليقول لنا تذكروا تلك الأيام العصيبة يريد الإيحاء كأن هذه من إنجازات النظام الجديد. والدليل على انها ليس من انجازاتهم ولا علاقة لها بالتنمية الوطنية والبناء هو تدهور البنى التحتية والخدمية الى مستويات قياسية قل نظيرها في تاريخ البلد الحديث.

ثالثا: ان فساد وفشل هؤلاء الحكام الجدد لا يمنح الحق لأي أحد مهما كان أن يصف حقبة البعث وحكم الطاغية المقبور بانها ايام جميلة وانه حكم رشيد ويتغاضى عن قبح الجرائم وسوء الأفعال المرتكبة التي لا نظير لها في تاريخ هذا البلد. الا انه من الانصاف ان نفرز بين من يفعل ذلك فهم ليسوا سواء في الدوافع ولا المآرب ولا ينبغي معاملتهم على السواء. والعدل ان تتباين ردود الافعال تجاه كل واحد منهم بحسب حاله مع ان يبقى الإصرار على المنع وعدم السماح بالمطلق لأي أحد أن يعيد إنتاج نظام مجرم وحشي وان حسنت نواياه وخطل رأيه. ذاكرة التاريخ لا تمحوها النكبات بل تحفرها واحدة الى جنب اخرى ومن اجاد بناء مستقبله يطيل النظر فيها جميعا خشية تكرار أي واحدة منها اما السائر على غير هدى فهو ينسى الاولى بالثانية ليقع في الاولى من جديد ويحسبها ثالثة مع انها هي عينها وهو الغافل عنها لأنه مصاب بداء فقد الذاكرة.

ولأجل ان نفرق بينهم فهم حالات ثلاث

الحالة الأولى: شريك في ذاك النظام المجرم ومن أتباعه في الجناية والمنتفعين منه ويريد العودة لتلك الايام القبيحة بكل ظلمها الأمني والسياسي ومآسيها الاقتصادية التي جرها نظام أرعن على الشعب من جراء سياسة فاشلة ومغامرات خائبة، ولأنه يريد استعادة مجده المقبور على حساب آلام الناس واوجاعهم فأمثال هؤلاء ليس لهم من حل الا الاسكات بقوة القانون والسعي لعقابهم أينما حلوا وارتحلوا لانهم كانوا ولم يزلوا سببا لكل خراب ولن يصيبنا خير ما دام لهم من صوت فهم أصحاب المقولة المشؤومة “بعث تشيده الجماجم والدم” قولا وعملا.

الحالة الثانية: من كان يأمل خيرا في التغيير وأصيب بخيبة أمل كبيرة وإحباط شديد ولأنه فاقد البوصلة ولا يفعل شيئا لتغيير وضعه لا من قبل ولا من بعد وينتظر فرجا لا يصنعه هو، بل يحلم به فقط فهذا حاله حال من ينتظر غودو الذي لن يأتي . هذا النوع يدفعه حنقه من الوضع البائس في كل مرة لأن يتخذ قرارات خاطئة. تارة يرحب بالغزاة واخرى يحن لزمن كان يتأفف منه ويعرف قبحه وثالثة يقول حتى لو جاءنا شارون نقبل به وهو لا يتحمل حتى جاره المزعج. ولأنه لا يدري ما يفعل لأنه اصلا لا يفكر ان يفعل شيئا بل هو مثل أصحاب المعتقدات الدينية الاسطورية ينتظر حلولا سحرية لن تنزل عليه ابدا لا من سماء ولا من أرض وسوف يبقى حانقا غاضبا تائها الى ابد الابدين. يذيقه الحاكم أي حاكم مرارة الحياة وشظف العيش في كل المرات لأنه لا يعرف ان يواجه واقعه ولا أن يفكر بتغييره ولا يجرؤ على التصدي ويعشق السلامة وكل ما يحسنه هو السباب واللعن والشتم لزمانه و حظه النكد، بل لكل شيء وما ازاح حجرا ولا مدرا ولن يفعل ذلك بل ولن يقوى على الهش ولا النش فكيف يؤمل منه البطش. امثال هؤلاء الاولى عدم الانصات لهم لانهم لن يزيدوا ولا ينقصوا شيئا وان أبصر بمعضلته النفسية الشخصية يوما وسعى لحلها فيستحق الرعاية وإن أصر على ما عليه من امراض وعقد فلا يجدر به سوى الإهمال لا غير وهذا ما يليق بمن لا خطر منه يخشى ولا نفع يرتجى.

الحالة الثالثة: وهم اناس اربكهم التحول بكل ارهاصاته ومع أنهم يدركون ظلم النظام المقبور ولا يتأسفون لرحيله ولكن هاوية الفوضى التي تدحرج لها البلد و صيرورته ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية والدولية مضافا إليها التشظي الطائفي وما حفره من خنادق وهمية جعل كل ذلك منهم في موقف محير. لا هم بقادرين على القبول بالمآل الذي بلغه البلد ولا هم براضين ايضا على تجرع الماضي والقبول به، لكن التجارب الشخصية بحكم الانتماء المذهبي أو الوظيفي وما تعرضوا من اقصاء وظلم خيل لهم انهم المقصودين به دون غيرهم. جعلهم هذا الواقع والشعور يركنون إلى أحد خيارين وهو بحسب ظنهم الأقل مرارة ويتجرعون مرارة اختيارهم بصمت ولا يفصحون عنه لكثرة الشامتين بهم وانتشار الفوضويين في كل ساح وملعب و لظنهم (المخطئ بالطبع) أن إخفاء الحقيقة قد يكون جزءا من الحل متناسين أن المسكنات لا تعدو كونها مهدئاً مؤقتا ولن تتحول الى علاج ابدا مهما زادت جرعها وسوف يأتي وقت لا تنفع معه كل المسكنات فيقع القدر المحتوم مصحوبا بألم شديد جرب محاولات كثيرة لتجنبه. إلا أن هؤلاء ورغم اختيارهم الخاطئ إلا أنهم ذوو طاقة ايجابية يجب الانتفاع منها وجعلهم في خندق البناء لا خندق آخر يفرز العداء والخراب. إن ابعاد هؤلاء وعدم تقديم التطمينات والضمانات لهم او افتعال الازمات معهم خطيئة كبرى وليس خطأً عابرا ولن يصب في مصلحة هذا البلد أي نفع من هذه السياسة وسوف يزيد من تعقيدات أزمته المستمرة وان كان بالمقابل على افراد هذه الحالة ايضا ان يفهموا ان الانجراف في تيار تلميع صورة النظام المقبور سوف يزيد من فرص ابتعادهم عما يحقق امانيهم بالاستقرار والسكينة ويقدم مساعدة مجانية للأجندات الساعية الى تخريب الوطن وتكريس الانقسام المجتمعي. وسوف يتحول الحل (الذي اقترح من قبلهم لأنفسهم في معارضة الفوضى والتدخلات الإقليمية والدولية ) الى مأزق جديد وعامل إضافي في تخريب الحال بدلا من إصلاحه.
على العقلاء منهم ومن نظرائهم في الطرف المقابل أن يرسموا رؤية واضحة للمستقبل بناءً على مشروع حقيقي يستوعب كل التباينات المجتمعية والفكرية والمهنية، لا ان يتبعوا سياسة التخويف هذا يهدد بعودة الماضي وذاك يخوف من مستقبل مضاد.
أصحاب الفعل هم البناؤون الحقيقيون اما اصحاب ردود الأفعال فهم صدى وظل. وما كان الصدى صوتا يوما وان طال تردده في اقصى النواحي، ولا صار الظل شاهدا وان تطاول كثيرا وبلغ ابعد مداه.