23 ديسمبر، 2024 10:32 ص

ظاهرة عضوية تحرير المجلات العلمية “العالمية”

ظاهرة عضوية تحرير المجلات العلمية “العالمية”

منذ عام 2008 بدأت ألاحظ ازدياد كبير في عدد الرسائل الالكترونية التي تصلني من مجلات علمية تصدر على الانترنت تدعوني الى المساهمة بنشر بحوثي على صفحاتها او بدعوتي ان اصبح عضوا في هيئات تحريرها، ووصل البعض منها الى دعوتي لرئاسة لجان تحريرها، او اصدار مجلة علمية بالشكل الذي ارغب به. بدأت هذه الدعوات تثير اهتمامي لان معظمها مفتعلة لغويا، وتحمل تواقيع اسماء هندية او باكستانية اوعربية، وتحتوي على اخطاء املائية ونحوية كثيرة، بالإضافة الى معرفتي بأنها تُرسل الى اعداد كبيرة من العلماء والأكاديميين وحتى طلبة الدراسات العليا في مختلف انحاء العالم. في معظم الحالات تحمل هذه المجلات اسماء تثير الانتباه كالمجلة “العالمية” او”البريطانية” او”الامريكية”، علما ان هذه التسميات لا تعني كثيرا في الاوساط العلمية الغربية حيث يمكن استخدامها من دون رادع او مانع من قبل كل قاصي وداني.

هذه المجلات هي من النوع الذي يطلق عليه اليوم بالمجلات الزائفة Fake Journals والتي تحمل احيانا عامل تأثير Impact Factor زائف وتتبنى موقعا الكترونيا يضم بالعادة عدد كبير من المجلات المختصة وهي مجلات تنشر من قبل ناشرين فاسدين غرضهم الوحيد هو كسب اجور نشر من اصحاب البحوث مقابل قبول البحث للنشر على صفحاتها في الانترنت.

والمجلات هذه على نوعين الاول يصدر عدد كبير من المجلات ضمن اسم لمنظمة او شركة للنشر غير مسجلة وغير معترف بها. والاخرى تصدر مجلات فردية لناشرين مجهولين وباسماء مستعارة. تضمنت اخر الفضائح حول هذه المجلات هو ما اطلقه احد الباحثين بـ(كذبة نيسان)، حيث ارسل بحثا ملفقا الى 157 مجلة تدعي انها “علمية وعالمية” وتم قبول البحث من قبل جميع هذه المجلات.

لقد سبق وان كتبتُ في عدة مقالات حول هذه المجلات ودعوت الى تجنب النشر فيها وعدم قبول دعواتها لعضوية لجان تحريرها ولما يسمى حاليا “مقيم للبحوث”، وهي ظاهرة مقتصرة على هذه المجلات. ويستطيع القارئ مراجعة مقالتي المنشورة بعنوان “النشر العلمي في المجلات الزائفة” على الواصل: http://alakhbaar.org/home/2012/10/136712.html لكي يتعرف بصورة مفصلة على هذا النوع الكاذب من النشر العلمي، وفي المقالة تفنيد لمزاعم هذه المجلات. وقدمت فيها اسلوب لمعرفتها ولغرض تمييزها عن المجلات العلمية العالمية الحقيقية والرصينة.

حرصت على ايصال المقالة والمقالات الاخرى حول الموضوع الى الجامعات ووزارة التعليم العالي، وتناولت الموضوع في محاضراتي العلمية العديدة ضمن ورشات عمل لمهارات البحث العلمي، وحول خطورة السماح للاكاديمين العراقيين من النشر في هذه المجلات او القبول بعضوية هيئاتها العلمية حرصا على سمعتهم، ومصداقية البحث العلمي العراقي، وتجنبا للادعاء بالنشر في مجلات علمية “عالمية”، ومما يسعدني ان هذه النصائح وجدت آذاناً صاغية. الا ان الجهات التعليمية وخصوصا دائرة البحث والتطوير في وزارة التعليم العالي على الرغم مما تقوم به من جهد كبير في تطوير البحث العلمي وتحرص على ان تكون البحوث بمستوى عالمي، وكذلك في محاربة الفساد العلمي، هناك من لا يهمه هذه الامور طالما كانت له مكاسب من خلالها، ولا بد من معاقبة كل من تسول له نفسه إشاعة الفساد العلمي أو الاستفادة بهذه الطريقة.

ما دفعني للعودة إلى هذا الموضوع هو أني اطلعت قبل أيام على خبر يفيد أن 184 تدريسيا من جامعات العراق هم اعضاء في هيئات تحرير مجلات عالمية. لا شك أن الخبر مفرح ويدل دلالة قاطعة على ان التدريسيين العراقيين بلغوا مستويات عالمية متطورة لكي يتبؤوا مراكز مهمة كعضوية تحرير مجلات عالمية ويدل على ان انتاجهم البحثي العلمي وشهرتهم العلمية لابد لها من التفوق على كثير من اقرانهم في الدول الاخرى لكي يتم اختيارهم من قبل هذه المجلات. هذا طبعا ان لم تكن هذه المجلات من قبيل المجلات الزائفة. مع الاسف اقول انه من خلال مراجعتي في السنوات الاخيرة لادعاءات كثير من التدريسيين في الجامعات العراقية  بعضوية هيئات تحرير مجلات عالمية تبيَّن لي انها من نوع المجلات الزائفة (لربما لعدم معرفتهم بحقيقة هذه المجلات)، الا اني لا استطيع التأكيد ان كان هذا العدد الكبير هم حقا اعضاء في هيئات تحرير مجلات عالمية رصينة وما على الوزارة الا تأكيد ذلك او نفيه لان وجود 184 تدريسيا اعضاء في هيئات تحرير مجلات عالمية له دلائل واحكام مهمة منها:

1- ان البحث العلمي العراقي قد وصلت مستوياته الى مستويات البحوث العالمية الصادرة في اوربا وامريكا.

2- ان بعض الباحثين العلميين العراقيين يتبؤون بالاضافة الى عضوية هيئات التحرير رئاسة تحرير مجلات عالمية لان المهمتين مرتبطة الى درجة ما ببعضهما.

3- ان الباحثين العلميين العراقيين لهم من الشهرة العلمية بحيث يمكن وصفهم بقادة بحوث على الصعيد العالمي.

4- ان اصدارات الباحثين العلميين في هذه المجلات العلمية العالمية تقدر بعدة مئات سنويا.

5- ان كل عضو هيئة تحرير يمارس مهمته كاملة ويراجع عددا من البحوث بصورة دورية للمجلة التي هو عضو تحرير فيها.

6- ان يكون لكل عضو تحرير في هذه المجلات العالمية تأثير علمي مهم ينعكس في معامل اج 

H-Factor والذي يقيس درجة انتاجية وتأثير الاعمال المنشورة من قبل كل عالم او اكاديمي.   

ما اريده من الملاحظات اعلاه ان انبه الوزارة والجامعات الى ضرورة توخي اهمية وتأثيرالخبر قبل نشره، لان وجود 184 تدريسيا في عضوية تحرير مجلات عالمية في الوقت الذي لم يكن قبل عشرة سنوات اكثر من اصابع اليد الواحدة عضوا في تحرير مجلات عالمية على اكثر احتمال يؤكد اننا قد وصلنا مرحلة متفوقة جدا في سلم البحث العلمي، واذا اخذنا بنظر الاعتبار الفترة القصيرة منذ ان بدأ البحث العلمي بالنهوض من كبوته ودخوله مجال المنافسة العالمية، فاننا تبعا لهذه النتائج يعتبر تطورنا اعلى درجة تطور في العالم، وان علمائنا ينتجون افضل ما هو موجود في الادبيات العلمية العالمية. كما انه من الضروري التحقيق فيما اذا كانت بعض هذه المجلات هي من نوع المجلات الزائفة، انصافا لبعض التدريسيين العراقيين والذين اعرف جيدا انهم اعضاء في هيئات تحرير مجلات علمية رصينة كالدكتور فؤاد قاسم محمد الذي هو ضمن عضوية تحرير المجلة العالمية: BMC Veterinary Research وعدد آخر من العلماء القديرين في الجامعات العراقية، ولي رجاء لهم ان يتحفونا باسماء المجلات العلمية العالمية الحقيقية التي يعملون كاعضاء في هيئاتها العلمية.

إن تقدم البحث العلمي في اي بلد لا يتطور ويزدهر الا بتوفر ملايين الدولارات لبناء المختبرات الحديثة وتوفير الاجهزة المتطورة والمواد المختبرية، بالاضافة الى تواجد العقول المبدعة، وتفرغها للبحث العلمي في بيئة علمية سليمة، وفي ظل سياسات تحدد الاهداف والاولويات، وتعمل على دمج البحث العلمي الوطني بالبحث العلمي العالمي، مع مراعاة الاهتمام بدراسة مشاكل البلد الاقتصادية والاجتماعية وايجاد الحلول لها. وبالرغم من ان الجامعات تبذل جهدها في سبيل رفع مستوى البحث العلمي لذا فاننا على ثقة من ان نتائج هذا الجهد سيتجلى في زيادة عدد البحوث المنشورة في المجلات العالمية الرائدة، وفي تسجيل براءات الاختراع عالميا، وفي ظهور قادة بحث عالميين معترف بهم لهم عشرات او مئات من البحوث الرائدة في موضوع اختصاصتهم الدقيقة، ويقدمون مساهمات نوعية ومتميزة. بعد هذا سيجد هؤلاء العلماء الباحثين المجلات العالمية الرصينة والمؤتمرات العالمية واللجان العلمية الدولية مفتوحة لاحتضانهم للاستفادة من خبراتهم وابداعاتهم. إذ ليس هناك طريق مختصر Short-cut للوصول الى القمة.

فأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ