تشكّل ظاهرة انتشار الوقاحة في المجتمع العراقي تحديًا أخلاقيًا واجتماعيًا عميقًا، له تداعياته الخطيرة على تماسك المجتمع وصحة أفراده النفسية… ؛ إنها ليست مجرد سلوكيات فردية عابرة، بل هي نتاج تشابك معقد لعوامل نفسية واجتماعية وتربوية تحتاج إلى تحليل دقيق.
**الأسباب النفسية والاجتماعية المؤسسة:
- انهيار البنية التربوية: يُجمع العديد من المتابعين والخبراء وعلماء النفس ، على أن ضعف التربية داخل الأسرة وخارجها (المدرسة) هو المحرك الأساسي… ؛ فالتربية القائمة على العنف (الضرب في البيت والشارع والمدرسة)، كما يصفها البعض، تنتج أجيالاً “معقدة” تفتقر إلى التوازن النفسي والأخلاقي، فتعوض إحباطاتها بالوقاحة والعدوانية… ؛ فضلا عن ان غياب القدوة الحسنة وضعف غرس القيم كالاحترام والتعاطف يخلق فراغًا أخلاقيًا.
- تفكك الأدوار الأسرية وتغييرها: يطرح البعض رأيًا مثيرًا للجدل (يحتاج إلى تحليل نقدي) يربط الوقاحة بـ غياب الوالدين، خاصة خروج الأم بكثافة لسوق العمل و”مزاحمة الرجل”، مما يؤدي – حسب هذا الرأي – إلى ضياع دور الأم “الطبيعي في التربية” وعدم قدرة الأب على تعويضه بشكل كامل، لينتج عن ذلك “ضياع جيل بكامله”… ؛ بغض النظر عن صحة التوصيف النمطي للأدوار، إلا أن غياب الرعاية الأسرية الواعية والمتوازنة بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة أو غياب الوعي التربوي هو عامل حاسم.
- تأثير الإعلام ووسائل التواصل: يساهم الإعلام (بمختلف أشكاله) في “كسر القيم” وفقًا للبعض ، من خلال تقديم نماذج سلبية من الانحلال وعدم الاحترام… ؛ و الأكثر خطورة هو دور منصات التواصل الاجتماعي، حيث تحولت من مجرد أدوات اتصال إلى بوتقة تنضج فيها “ثقافة الوقاحة” واقتحام الخصوصيات والتطاول، ثم تتسرب هذه الثقافة من العالم الافتراضي إلى “تعاملات الشارع وواقع الحياة”، لتصبح في نظر البعض “شجاعة وجرأة ونوعاً من الاحتساب والهيبة والقوة ” وهي في الحقيقة دليل على فراغ وخواء .
- الجهل وضعف الوعي: يُعد الجهل وتراجع دور مؤسسات التنشئة الفكرية والأخلاقية (كالمساجد التي أصبح دورها “محدودًا في إطار معين” كما يرى البعض، والمدارس التي تعاني أزماتها) عاملاً أساسيًا في غياب الفهم الصحيح للحدود بين الجرأة الإيجابية والوقاحة المذمومة.
- البيئة المجتمعية المشحونة: يعاني العراق من عقود من الصراع والعنف وانعدام الاستقرار، مما يخلق بيئة من الإحباط الجماعي وفقدان الأمل، تنعكس على سلوك الأفراد… ؛ وقد وصف البعض المجتمع بأنه “مجتمع الغاب، لا يحترمك أحد فقط يمكن أن يخاف منك حسب قوتك ونفوذك وما عندك من مال، فالاحترام والأدب يعتبر ضعفا” في مثل هكذا مجتمعات وتجمعات وبيئات مريضة… ؛ و هذه البيئات المشوهة تغذي الأنانية والصراع من أجل البقاء بغض النظر عن الأدب.
- النماذج السيئة (خاصة السياسية): يتفق كثيرون على أن الوقاحة صفة بارزة لدى بعض الكبار والشخصيات ، وخاصة السياسيين… ؛ نماذج القيادة “التافهة والسطحية” التي “تسعى للمصالح الخاصة واللذة” وهذه الشخصيات تقدم قدوة سيئة تنعكس على سلوك العامة… ؛ فعندما يرى الصغير الكبير يتصرف بوقاحة وعدم احترام، يتعلم أن هذه هي الطريقة المقبولة للتعامل.
**مظاهر الوقاحة وتداعياتها على المجتمع:
* انتشارها: لم تعد الظاهرة حكرًا على فئة عمرية أو جنسية محددة… ؛ فهي موجودة بين الصغار والكبار، الذكور والإناث، وإن كانت بعض الدراسات تشير إلى أنها عند الذكور أكثر وتتجلى في “تعذيب الحيوانات، التحرش، الكلام النابي، عدم احترام الكبار … الخ “.
* التمييز بين الجرأة والوقاحة: تكمن المشكلة في الخلط بين الجرأة الإيجابية والوقاحة… ؛ فالجرأة هي الدفاع عن الرأي والمبادئ بثقة وعقلانية ومراعاة للآخر… ؛ أما الوقاحة فهي “الجرأة مع عدم الاحترام” كما يعرفها البعض ، أو “قول أو عمل هجومي” يسيء للآخر… ؛ فهي تعني تجاوز لحدود الأدب واللياقة الاجتماعية المقبولة.
** أنماط الشخصية الوقحة (من منظور نفسي):
* الوقح الخفي: يبدو طبيعيًا لكنه يتحول للوقاحة والأنانية تحت الضغط أو لتحقيق مصلحة (كقطع الطابور).
* الوقح المريض: شخص غير آمن، يبحث عن تأكيد ذاته عبر إذلال الآخرين (كالتحرش لإثبات الجاذبية).
* الوقح المتعالي: تربى على الغرور وعدم احترام الآخر، يعتبر الوقاحة أسلوب حياة.
** التداعيات:
* تفكك النسيج الاجتماعي: تآكل الثقة بين الأفراد، وانتشار العداء والجفاء بدل التعاون والاحترام المتبادل.
* العنف: الوقاحة غالبًا ما تكون مقدمة أو مرافقة للعنف اللفظي والجسدي، وتخلق حلقة مفرغة (“العنف يجلب المزيد من العنف”).
* الأذى النفسي: الشعور بالإهانة، انعدام الأمن، القلق، وانخفاض احترام الذات لدى الضحايا.
* تشويه صورة الجيل: يخلق جيلًا يفتقر إلى الذوق والأخلاق، يصعب عليه الاندماج الإيجابي محليًا أو دوليًا (كما أشار أحدهم إلى ارتياحه عند مغادرة العراق بسبب تفشي هذه الظاهرة ).
* تطبيع السلوك السلبي: تحول الوقاحة من سلوك مرفوض إلى أمر شائع ومتسامح معه، بل وقد يُلبس ثوب “الشجاعة” أو “الاحتساب” زورًا.
**سيكولوجية التعامل مع الوقاحة وآفاق الحل:
- البدء من الأسرة: تعزيز التربية القائمة على الحوار والاحترام المتبادل، وليس العنف… ؛ وتعليم الأطفال الحدود بين الجرأة والوقاحة، واحترام خصوصياتهم… ؛ و دور الأب والأم المتوازن والواعي هو حجر الزاوية.
- إصلاح المؤسسات التعليمية والدينية: تفعيل دور المدرسة والمسجد في غرس القيم والأخلاق وبناء الشخصية المتزنة، بعيدًا عن التلقين العقيم أو العنف.
- القدوة الحسنة: ضرورة أن يلتزم الكبار، وخاصة من في مواقع تأثير (سياسيين، إعلاميين، معلمين)، بسلوكيات محترمة.
- كيفية التعامل الفردي مع الوقح :
* عدم التمثيل (عدم الرد أحيانًا): “أفضل طريقة للرد على الجاهلين… سَلاماً” ( كما اكد ذلك كتاب القرآن الكريم )… ؛ فالتجاهل يمكن أن يكون سلاحًا فعالاً يحرم الوقح من التفاعل الذي يسعى إليه.
* التحكم في النفس وعدم الانجرار: تجنب الرد بالمثل بالعنف أو الوقاحة… ؛ “فالعنف قد يجلب المزيد من العنف”.
* المواجهة الهادئة والحازمة: في بعض المواقف، يمكن التعبير عن الرفض للسلوك الوقح بوضوح وثبات (“أعتقد أن هذا تصرف وقح، لماذا تتعامل معي بهذه الطريقة؟”).
* الموضوعية: محاولة فهم الدافع (إحباط، يوم سيء؟) دون تبرير السلوك.
* اللطف والحكمة (حين يكون مناسبًا): “مقاتلة الوقاحة باللطف” قد تزيل فتيل الموقف وتشجع على تعديل السلوك.
* الحماية والحدود: وضع حدود واضحة وتجنب الشخص الوقح المزمن إذا فشلت كل المحاولات لحماية الصحة النفسية.
- دور الإعلام ووسائل التواصل: تحمل مسؤولية تقديم محتوى يعزز القيم الإيجابية والاحترام، ومحاربة خطاب الكراهية والتطاول.
**الخاتمة:
ظاهرة الوقاحة في العراق هي مرآة تعكس أزمات أعمق في التربية والأسرة والمجتمع والحكم… ؛ و جذورها نفسية (إحباط، عدم أمان، تشوهات تربوية) واجتماعية (فقر، عنف، انهيار قيمي، غياب القدوة)… ؛ و تداعياتها تهدد استقرار المجتمع وسعادة أفراده… ؛ و المواجهة تتطلب جهدًا متكاملًا يبدأ بإصلاح المنظومة التربوية في البيت والمدرسة، وتعزيز قيم الاحترام والتسامح، وتوفير بيئة مستقرة تشجع على السلوك الحضاري… ؛ فالحل ليس في العودة إلى أساليب قمعية (كالضرب أو طريقة “الكتاتيب” العتيقة حصرًا)، بل في بناء إنسان واعٍ بذاته ومجتمعه، قادر على التمييز بين الجرأة البناءة التي تكسر الجمود والوقاحة الهدامة التي تكسر القلوب وتمزق النسيج الاجتماعي… ؛ إن إعادة “إلقاء القطار على سكته”، كما عبر البعض ، تتطلب إرادة جماعية ورؤية واضحة تستثمر في الإنسان والأخلاق قبل أي شيء آخر.