23 ديسمبر، 2024 5:30 ص

ظاهرة الحنين إلى الماضي تواصل وجداني مع جذور الأصالة

ظاهرة الحنين إلى الماضي تواصل وجداني مع جذور الأصالة

لا ريب أن الحنين إلى الماضي بماهو موروث حياة اجتماعي، عشناه، وعاشه جيل الطيبين، بكل تفاصيل مفرداته على طبيعتها، بدون صخب، ولا تصنع ، رغم صعوبة الحياة، وقساوك ظروف المعيشة آنذاك، هو حس وجداني، وشعور مرهف، يتحقق بالتواصل المعنوي الحالم مع ذلك الماضي ، حتى بانقطاع آثار موروثاته المادية، وزوالها من الوجود، بمرور الزمن، وتغير أنماط المعيشة، تناغما مع متطلبات حداثة الحاضر الذي تلاه .

ومن هنا فإن الحنين للماضي، قد لا يكون ( نوستالجيا) مرضية( هايبرسيميثيا)، كما قد يمكن أن يتبادر إلى الذهن لأول مرة .. وإنما هو تواصل وجداني مع جذور الإنتماء والأصالة، والتعايش معها نفسياً ومعنوياً، حيث يتلاشى حاجز الانفصال في لحظة التأمل والإستذكار .

ولعل ظاهرة التوجد بالحنين إلى زمن الطفولة، وتمني الشاعر العربي القديم، على الزمن توقف حركته عن مفاعيلها الحياتية، في التأثير في ذات الشاعر، وزميلة طفولته، وسكونه عند حافات هذه الحقبة، دون انسياب للأمام ، عندما قال :

صغيرين نرعى البهم ياليت أننا …… …… إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

إنما تعكس مدى تجذر ظاهرة الحنين إلى الماضي، في ذاكرة الثقافة العربية عموماً، والشعبية منها بشكل خاص،حتى باتت تستشعر راهن حاضرها، آنا مستوطنا صلب ماضيها ، رغم زواله، وانقضائه، وبالتالي فإنها تجد نفسها في عمق الماضي باستمرار، حتى وإن لم يكن هناك نكوصا حركيا مجسما إلى الوراء .

ولذلك فإن الكثير ممن باتوا يعرفون بجيل الطيبين،قد لايجدون أنفسهم أحياناً إلا في فضاء ذكريات الماضي الجميل، رغم كل إيجابيات، ومغريات حاضرهم العصرية .. ولذلك تسحرهم العتابة، على سبيل المثال ،ويداعب مشاعرهم الزهيري، وتستهويهم التعاليل، ومجالس السمر .

ولعل في ما نظمه الأديب الريفي المبدع( أبو كوثر) أحمد علي السالم، في التعبير الصادق عن كل هذه الانثيالات الوجدانية، ما يسوغ لنا القول بمثل هذا الانطباع، عن واقع حال موضوعي، حتى وإن تباينت الرؤى بصدده، واختلفت وجهات النظر بشأنه ، عندما يقول :

عسى يا دار لا هب الهوا بيج
زمانج من شهر سيفو هوى بيج
عگب ما جان دلالي هواه بيج
نسى طرد الهوى عگب الإحباب..

وهكذا نجد ذاكرة الثقافة العربية الشعبية عموماً ، تحفل بثراء زاخر في موروثها الشعبي، مما يشكل لها بعراقته الضاربة في القدم ، آصرة أصالة لحاضر تهالكت جذوره، رغم نضارة أوراقه ، وبالتالي فإن تلك الذاكرة الشعبية، لا تفتأ تتغنى به، ولا تجد بدا من التفاعل مع ذلك الماضي باستذكار جياش له، في نفس الوقت الذي تعيش فيه كل معطيات حاضرها الصاخب،المكتض بكل تداعيات العصرنة، وإنجازات الحداثة.

ولذلك فإن العمل على تنشيط حس التواصل مع التراث، وجمع ما يمكن من حكائيته الشعبية بكل اصنافها، وتناولها رواية، وتداولا، ونقدا، وقراءة، وتلقيا، سواء على المستوى الشعبي الدارج في مجالس السمر، والدواوين،كما هو معتاد، او على المستوى العلمي والأكاديمي، يمكنه أن يساهم في إعادة بث الروح فيه، والنهوض بثقافته ، والحفاظ على ما تبقى منه من الضياع، قبل أن تكنسه وسائل العصرنة الصاخبة، المفتوحة في كل الاتجاهات بلا قيود، فيصبح حاضرنا عند ذاك، راهنا مقطوعا، بلا جذور، ووجودا متبلدا، بلا ذاكرة