17 نوفمبر، 2024 10:19 م
Search
Close this search box.

ظاهرة الاستبداد السلطوي في المجال العربي

ظاهرة الاستبداد السلطوي في المجال العربي

يشكل الاستبداد، اعلى مراتب النفي الذاتي للشعوب على مستوى العالم ككل، وعلى المستوى العربي بشكل خاص، فحالة الشعور بالقمع المتجسد في الذات من قبل الآخر السلطوي البغي، تعيق التقدم وتسبب ضموراً في الانتاج وبالتالي فان الاستبداد يساوي الجمود بجميع صوره الفكرية والابداعية والانتاجية، ويصادر حرية الافراد تحت ذرائع ومسميات تبريرية عديدة.
وقد شغل مفهوم الاستبداد حيزاً هاماً لدى الفلاسفة والمفكرين على مر التاريخ، فهو لم ينوجد في مكان دون آخر بل استفحل في بقاع المعمورة كافة، وعليه، فقد ظهر صراع بين الحاكم والمحكوم منذ وجد الحكم وما زال يشغل حيزاً في التفكير للخروج من هذا المأزق الذي تعانيه الانسانية.
فالعرب جميعاً ونحن العراقيون منهم، ندرك وجود ظاهرة الاستبداد السلطوي المزمن في حياتنا السياسية، ونقف عاجزين عن مواجهتها بشكل جماعي فعال يضع حداً لها. والمجتمع العربي والعراقي بخاصة، موصومة بعار القابلية للاستبداد، هذا على الرغم من كثرة الارواح التي ازهقت في المواجهات والملاحقات وتحت التعذيب، وما شهدته المعتقلات السيئة الصيت من اعداد سجناء الرأي والناشطين من مختلف التيارات وسائر القوى السياسية المعارضة لنوع او آخر من انظمة حكوماتنا المتعاقبة على استبدادنا.
ومع كل هذا الادراك وتلك المعاناة، نشهد الاستبداد يستمر ويشتد، ونراه يتجدد بمسوغات حداثية واخرى تقليدية وتحالفات وتطبيع حتى مع الآخر المختلف، العدو المهيمن عسكرياً ومخابراتياً واقتصادياً، يستبد بامر حكامنا ويفرض خياراته على قراراتهم. وحكامنا لشدة رغبتهم في الاحتفاظ بكراسيهم ينساقون الى تنفيذ تلك القرارات والاوامر….!!
في هذه الحالة المستدامة من الاستبداد، تتطلب اليوم وقفة نقدية ذاتية متأتية من قبل كل تيار وقوة سياسية مدنية، واضعة نفسها اولاً وبقية التيارات والقوى المدنية تحت المجهر قبل ان يكون بامكانها وضع انظمة الحكم العربية كافة وامتداداتها الخارجية في مرمى القول الذي يقترن بالفعل ويكتسب القدرة على التأثير لما يتمتع به من صدقية تعبر عن ارادة التغيير.
اذا كانت الديمقراطية قد سودت فيها صفحات كثيرة بحثت في جذورها وشروط قيامها، فان نقيضها الاستبداد لم يلق العناية نفسها ولا البحث الذي يستحقه. فقد ظل فكرنا السياسي عندما عاد الى الاهتمام بالديمقراطية يبحث في الغائب وعنه، واهمل الحاضر الجاثم فوق الصدور، ومع ان الخلافة الراشدة قد بقيت تتحدد في ضمير المسلمين على مر العصور، بكونها الحكم المبني على الشورى،  فان الملك العضوض بلغ من العمر الآن اكثر من 1400 سنة لم يسبق ان عرف التعريف الذي يعطيه مضموناً حياً في ضمير الاجيال المتعاقبة، يمارس الاستبداد من قبل الفرد او الجماعة على السواء. فالحاكم المستبد يدير ظهره للمحكومين من غير اكتراث لمصالحهم، لانه يهتم ببقائه واستمراريته. فهو فوق القانون بل القانون نفسه فيحاسب ولا يحاسب. كما ان المستبد يتصرف في الحكم بشكل مطلق، وهذا يؤدي الى العسف والتحكم والاستبداد والسيطرة التامة على المحكومين.
والاستبداد يندرج في تجسيده، فكلما مر زمن على التحكم بالسلطة تسلط الحاكم واستبد وبالتالي فان ديمومة الاستبداد من استمرارية وجود الحاكم الذي يصبح فاقداً للاهلية. ولانه يعاني نقصاً في شخصيته ما يؤدي الى اشتداد الاذى على المحكومين، ويلجأ الحاكم المستبد كثيراً الى الحكم المطلق من خلال المخزون الالهي، فهو يقدم نفسه على انه خليفة الله على الارض وبخاصة عندما ينحو منحى الحكم المطلق على مبدأ الحق الالهي، وهذا يزيد من التعسف لأن ارادته من الله وبالتالي لا يستطيع احد محاسبته لانه فوق ذلك.
ان المستبد من تفرد برأيه واستقل به، فقد يكون مصلحاً يريد الخير ويأتيه. اما الطاغية فيستبد بطبعه، مسرفاً في المعاصي والظلم، وقد يلجأ في طغيانه الى اتخاذ القوانين والشرائع ستراً يتستر به فيتمكن مما يطمح اليه من الجور والظلم والفتك برعيته وهضم حقوقها. وقد يكيف فضائعه بالعدل فيكون اشر الطغاة واشدهم بطشاً بمن تناولتهم سلطته.
والاستبداد في جوهره، مشكلة معرفية، اذ هو غرور المرء برأيه والآنفة عن قبول النصيحة، فهو حالة من حالات احتكار المعرفة وامتلاك الحقيقة والادعاء بكمال العلم بظاهر الامور وباطنها او هو تجسيد لحالة من اطلاق الذات ونسبية الآخر. فالمستبد برأيه هو لا يرى في اراء الآخرين وافكارهم وجهاً من وجوه الحقيقة او معنى من معاني الصحة. ولذلك لا يتعامل مع الاخرين الا على اساس انهم قاصرون يحتاجون الى وحي او عائل او ولي امر يقرر لهم ويتصرف في شؤونهم تصرف الوحي في شأن المحجور عليه عقلاً او القاصر سناً.
وفي بحث معنى الاستبداد الاخرى ينصرف الذهن الى معان عديدة، منها الحكم الذي يسرف في استخدام القوة الذي يستهدف المصلحة الخاصة للطاغية وبطانته، تكون السيادة فيه للحاكم وليس للقانون، السيطرة السياسية التامة بواسطة حاكم فرد. ومع تعدد هذه المعاني فان المحور الذي تدور حوله هو الانفراد بادارة شؤون المجتمع من قبل فرد او مجموعة عن طريق الاستحواذ والاستيلاء والسيطرة من دون وجه حق، مع استبعاد الاخرين ومصادرة مبدأ المساواة في حق المشاركة في ادارة شؤون الدولة والمجتمع.
لقد عرف الاستفراد بالسلطة والتحكم في رقاب الناس والاستئثار بخيرات مجتمعهم في تاريخه الطويل باسماء مختلفة ليس الاستبداد الا واحداً منها وربما عُدَّ مفهوم الطغيان من اقدم المفاهيم التي اختلطت بمفهوم الاستبداد، حيث استخدما للاشارة الى انظمة الحكم التي تسرف في استخدام القوة في ادارة السلطة والسيطرة السياسية التامة بواسطة حاكم فرد او باعتبارهما مترادفين غامضين للحكم العشري التحكمي متعارضين مع الحرية السياسية والحكومة الدستورية وحكم القانون.
ويميز البعض بين مفهوم الاستبداد ومفهوم الطغيان من زاوية صفتي القهر والجبر اللتين يشتمل عليهما مفهوم الطغيان في حين ان الاستبداد لا يتضمنها في معناه بالضرورة، فالاستبداد من حيث هو تصرف غير مقيد وتحكمي في شؤون الجماعة السياسية، يبرز ارادة الحاكم وهواه ولا يعني بالضرورة ان تصرف الحاكم ضاغط بعنف على المحكومين غير مبال بقواعد العدل والانصاف.
الحالة الاستبدادية شبه المستديمة في النطاق العراقي تعود بنا الى الجذور الاولى لقضية الحكم في تاريخنا السياسي، هذا الحكم تعامل مع المعارضة السياسية باقصى درجات البطش والتنكيل منذ عهد معاوية حتى يومنا هذا.
لقد بينت التجربة التاريخية، ان الشعب وجد من اجل خدمة الحاكم في حين يقتضي المنطق الاخلاقي وضرورات التعاقد السياسي والاجتماعي، انه يجب ان يكون الحاكم في خدمة الشعب والا خرج الامر عن اساس التعاقد، وعندها ينتقي مبرر وجود الامير، كما يؤسس اصحاب نظرية العقد الاجتماعي والتعاقد السياسي، ولذا فان حالة تقديس الحاكم التي يظن الكثيرون انها الوضع الطبيعي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم على نمط السيد والتابع ليست الا تجلياً لظاهرة الاستبداد.
لقد اثبتت التجربة التاريخية، ان مجرد تغيير حاكم مستبد لا يلغي الاستبداد، وهذا يعود الى وجود جذور للاستبداد تصعب خلخلتها، وهنا لا يكمن الخلل في الحاكم المستبد وحسب بل في المحيط العام الذي خرج منه، لذا ثمة حاجة الى معرفة اصول الاستبداد العربي بصورته التراكمية…
ثمة اشكاليات ذات صبغة انتقالية بدأت بالحقبة ما قبل الاسلامية التي تعرف بالجاهلية، ثم الحقبة الاسلامية، واخيراً الحقبة المعاصرة. وهذه المراحل كلها غنية بالتراكمات التي عززت الاستبداد رغم الخلط الذي يكتنف كثيراً من الدراسات حول مفهوم الاستبداد وفاعله وموضوعه.
وعليه، فان الممهدات الاساسية التي تبحث في ثناياها عن الارضية العامة للاستبداد العربي ومنابعه، تستوجب بحث طبيعة العلاقة ما بين العرب والامبراطوريتان التي وجدت في المنطقة العربية، فحالة التأثر العربي بالجوار الامبراطوري بلغت حد التبعية في كثير من الاحيان، حيث مثلت الممالك العربية الذراع العسكري للفرس والروم وما انعكس على طبيعة الحكم في هذه الممالك التي اصطبغ حكمها بالاستبداد كما هو الحال عن الفرس والرومان.
فقد تبين لدى اغلب الباحثين من خلال دراساتهم لبعض انظمة الحكم في سبأ ومعين ومملكة حمير، انها في مجملها كانت تمارس الحكم الاستبدادي في ظل الواقع القبلي، وقد كان ذلك نتيجة التأثير بالامبراطوريتين. وفي الجانب الآخر من المنطقة العربية كانت مكة ذات التوجه القبلي. فالقبيلة مثلت بما تحمل من العصبية ذات الالتزام الصارم بين افراد القبيلة الحامية لمصالحهم وحياتهم، يأتي ذلك في ظل الصراع العصبوي بين القبائل. فالعصبية الاقوى هي التي تخضع الاضعف وتحافظ على مكتسباتها.
ومع ظهور الاسلام الذي نفى التفرد بالحكم والاستبداد الا ان ذلك لم يعف ادلجة الخلافة في اطار السلطة المطلقة تحت غطاء العقيدة التي جسدت في قريش المتجسد مسبقاً في ثناياها السيادة القبلية ضمن المفهوم التقليدي، وهذا فتح الباب لكثير من الجدل فيما بعد كما نثر بذور الاستبداد والبطانة المنُظَرَة له بشكل اوضح، وبخاصة مع قدوم عثمان بن عفان الى السلطة.
ففي الاسلام لا توجد وصفة دينية ملزمة لشكل ومؤسسات الدولة. ولم ينشئ النظام السياسي الذي تولى الحكم بعد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) شكلاً محدداً او آليات معينة لاختيار رأس السلطة او حاكم الدولة، ولم يوجد نص قرآني لتحديد مؤسسات الحكم او التشريع بل ترك الامر لاختيار وتوافق جمهور الناس بما يتوافق مع الزمان والمكان والظروف المتغيرة بما لا يتعارض مع ثوابت ومبادئ الدين الاسلامي.
يمكننا اعتبار بيعة السقيفة نقطة انطلاق لتبلور نظرية العصبية القبلية وآليات ما رافقها من جدل داخل السقيفة وخارجها والتطرق الى طبيعة حكم الخلفاء الاوائل وتتبع آلية وصولهم الى الحكم والخطوط العريضة التي قاموا عليها.
ان احداث السقيفة تمثل حالة عابرة من الصراع السلطوي ذلك انها تمثل نقطة اساسية من استمرار هذا الصراع. ففي الوقت الذي يجهد فيه الانصار لاقحام الدين في معادلة المفاضلة بين الفرقاء السياسيين كانت قريش تسعى لابقاء الواقع القبلي على حاله، فقد تم اختيار الخليفة بالطريقة التي اعتادوها في ظل غياب نصوص قرآنية تبين ذلك، اللهم الا بعض اجتهادات ابي بكر المبنية على ما قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) “الائمة من قريش” وهو ما لم يسمع به احد من قبل ذلك… وهكذا غاب الدين عن مسرح الاحداث السياسية وليس ذلك استخفافاً به، فالدين هو الذي اوصل ابي بكر الى الحكم رغم انه من اصغر بطون قريش ولكن طبيعة المرحلة وفي ظل سيطرة القبيلة كان لا بد من ذلك حسب ما رآى ابي بكر ومن معه، وقد كان ذلك للخروج من مأزق رفض القريشيين الآخرين لحكم ابي بكر الذي تمسك بخطى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهذا ما اظهر حركة الردة النابعة من المفاهيم القبلية وليس الدينية لأن القبائل التي خضعت للنبي محمد رأت ان ذلك تم من اجل الدين، اما الخضوع ودفع الزكاة لابي بكر فيعني الذل والضعف.
ومع بداية عهد الخليفة عثمان، تشكلت بطانة فاسدة من حوله، واغدق الاموال عليها، فكانت البذرة لتكوين طبقة من المستفيدين والفاسدين، فادى ذلك الى تصاعد وتيرة النقد الموجه له ولبطانته، ما ادى الى مقتله، وهو ما اعطى بني امية فرصة استرجاع السلطة المفقودة بعد الاسلام، فكان الانقلاب الذي قاده معاوية ضد علي بن ابي طالب بحجة المطالبة بدم عثمان، في حين كان المال والخديعة الاساس في حسم الخلاف ووصول معاوية الى الحكم.
وقد سعى معاوية منذ اعتلاء سدة الحكم الى تعزيز ركائز واستمرارية بقائه، ولهذا منح ولاية العهد لابنه يزيد، وقد اظهر هذا الامر حالة من الرفض لدى المعارضين لحكمه والموالين لعلي، ما ادى الى ظهور الامامة التي قامت بالاساس نتيجة الصراع على السلطة، حيث اخذت بعداً ميتافيزيقياً فاصبح الائمة عند الشيعة بمرتبة النبي بل في بعض الاحيان اعلى درجة، ووضعت في بعض الاحيان درجة تفرده وتأهله، وما كان ذلك كله الا ردة فعل على الحكم الاستبدادي الاموي الذي مورس واستمر حتى مع معارضيهم العباسيين.
مثلَّ الصراع الفكري حول السلطة السياسية اعلى درجات الاحترام مع تعزيز معاوية لحكمه المستبد، فهو الذي دعم حكمه بمبدأ الجبر القائم على ان الله هو العاطي ولا اعتراض على من ولمن اعطى. وعليه، فالمحكومون يجبرون على الخضوع لحكمه لان مشيئة الله تريد ذلك ولانهم خلفاء بني امية “خلفاء الله على الارض” ولكن مبدأ الجبر الاموي لم يكن الى ما لا نهاية، فهو يقف عند الحد الادنى الذي يمكن ان يعرض حكمهم للخطر، ولهذا نجد بني امية حاربوا جهم بن صفوان لانه قاتلهم. فمبدأ الجبر هو ما يحقق استمرارية الحكم المستبد دون اعتراض.
كان اعتبار الشريعة الدينية اساس الحكم هو السبب في عدم تطوير نظام مدني في ممارسة الحكم، ثم بعد ذلك تفصيل نظريات لاحقة لشرعنة تسلم الحكم والسلطة، حيث تم دعمها بالاداء والاحاديث مما اضفى عليها قداسة تعلو على اي نقاش او محاسبة.
من هذه النظريات: اختيار اهل الحل والعقد، ان الامامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من اهل الاجتهاد والورع اذا عقدها لمن يصلح لها. فاذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته، ومنها ايضا العهد في الامام السابق، وتشمل ولاية العهد والميراث، وهناك الاستيلاء او الغلية وهذه النظريات لا ترقى الى صفة الالتزام الديني او العقيدي وانما كانت مشتقات من تجارب تطبيقية اسست في غالبيتها لاستبداد سلطوي صاحبه ارهاب فكري وديني مهد لغرض الوحدة العشرية للجماعة.
تطابق ذلك مع مفهوم ولي الامر في النظام الرسمي الاسلامي، فعندما يصل حاكم الى السلطة فانه يصبح ولي الامر، اي حاكماً بأمر الله، ويتم الاستناد في تمتعه بطاعة الآخرين للآية “اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم” فيتم اضفاء الصبغة الدينية على استبداد الحاكم.
ولا تختلف ذلك عن فكرة ولاية الفقيه عند الشيعة التي سعت في تطويرها تجربة الحكم في ايران من خلال شروط ملزمة لمعالم صلاحيات الولي الفقيه، حيث تمنع ان ينتخب الشعب حاكماً ويمارس حقه في الانتخاب ليصبح الولي الفقيه مراقباً لاداء مؤسسات الحاكم.
وفي المحصلة يمكن القول انه تم استخدام الدين بما هو قوة فوق طبيعية لاضفاء الشرعية على سلطة الحكم وتوجيه الناس الى طاعة قوة السيطرة والاستبداد. وفي ذلك قد يتم استخدام سلاح الفكر الى جانب سلاح القهر- الجبر- لتسويغ التحكم بالسلطة.
في غضون ذلك، لم يتم تطوير آليات تلزم او تعمم مبدأ الشورى ولم يتم انتاج صيغة تعاقدية- عقد اجتماعي- لتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وظل الاستخدام الجائر للتبعية المعلقة في رقبة الناس، وطمست تاريخياً فرصة الاستفادة مما تحتويه المبادئ الاسلامية من قيم ايجابية كان يمكن ان تساهم في تطوير آليات ديمقراطية وعادلة للحكم.
رافق الاستبداد داعمين له فكرياً بما يناسب القيام بالممارسات الاستبدادية واظهارها مقبولة بحجة حماية الدين حيناً او تبجيل الحاكم المستبد كحق مكتسب حيناً آخر، وهذا الامر طرح من خلال بطانة الحاكم التي تبلورت منذ ايام  عثمان، واخذت تتغلغل بشكل كبير للتأثير في مجريات الاحداث فيما بعد، وهو ما شكل اطاراً لتبرير الحكم القائم والبحث عن الشرعية المفقودة باستمرار.
لقد مارس الفقهاء الفقه السياسي بما يؤدي الى تضييق الحرية وتعزيز الاستبداد وثم تم استيراد الاداب السلطانية وتم تطعيم الدين بفكر مستورد… وهذا ما عزز الاستبداد واعطاه بعداً دينياً.
لقد ظهر من دعم الحكم الاستبدادي العربي من الفقهاء والحاشية ومثقفي السلطة، فالفقهاء رأوا في الحكم الاستبدادي افضل من الفتنة وان الحكم هو حامي الدين وبالتالي لا يمكن ابقاء المجتمع دون حكم حتى لو كان مستبداً وهذا يعني ابقاء الوضع على ما هو عليه.
واما بطانة الحاكم من بين اطرافها مثقفو السلطة خدام الاستبداد لانهم صنيعة هذا الحكم وعليه فانه حتى لو زال الحاكم المستبد فانه سيأتي حاكم مستبد يمكن ان يكون اكثر استبداداً من سابقه بسبب التراكمات الاستبدادية، لان مساعديه يتغلغلون في كل مكان، فالامر ليس قائماً على شخص بحد ذاته بل يتحمل المجتمع المسؤولية الكبرى في ابقاء هذا الواقع كما هو منذ القرن الاول الهجري “كما تكونوا يول عليكم”.
ان بطانة الحاكم هذه ما زالت حتى اليوم تمثل المخارج الاساسية للاستبداد، فقديماً كان واضعوا الاداب السلطانية يقومون بذلك، واليوم يقوم به المثقفون، والمقصود هنا ما يمكن تسميته بالمثقف الذي يكون بخدمة الحاكم ويعزز استبداده. فهذا المثقف الاسلامي كان يصيب جل اهتمامه على تقديس السلطان مهما كان دوره ومهما كانت اعماله، وهذا عبارة عن تجويف سياسي وبالتالي اخلاقي للدولة، فليس الهدف عقلنة الدولة بقدر ما هو منع تداول السلطة. ومن هنا فان الحاكم المستبد لا يستطيع ممارسة الاستبداد وحده بل في الغالب يوجد من يعززه ويساعده على ذلك.
ان هؤلاء المثقفين كأحد اطراف بطانة الحاكم هو اكثر تأثيراً وتكريساً للاستبداد. وهم مازالوا حتى اليوم يقومون بهذا الدور. ففي حين ظهر المثقف الاسلامي كخادم للحاكم وميسر له في استبداده، كان هناك مثقفون يمثلون واقع المحكومين ويدافعون عنهم وعن مصالحهم، ولكن لقلتهم فهم اكثر عرضة للقمع والاضطهاد واقل تأثيراً في مساحات واسعة. يعود السبب الى البنية الاساسية التي خلق فيها دور مثقف السلطة عربياً، فهو الاداة التي تأتي بعد السيف بعدما يستريح حيث يحتاج الحاكم الى من يروج لحكمه المجيد مع انه في قمة الاستبداد، وهنا يمثل هذا المثقف البطانة غير المباشرة التي تسعى باستمرار لايصال صوتها الى الحاكم كي يرضى عنها ويقربها. وعليه، فان المفاهيم والمبادرات التي يقوم بها مثقف السلطة احد الادوات التي تعزز الاستبداد وتؤصله، ومنها المستبد العادل الذي يمثل احد جوانب ديمومة الاستبداد، ولكن باسم العدل هذه المرة.
قد يكون مثقف السلطة من اخطر بطانة الحاكم ولكنه ليس الوحيد، فالبطانة متشعبة في جميع الاتجاهات، منها المباشرة كالندماء والاقرباء والجيش والمخابرات، وغير المباشرة كالاعلاميين والكتّاب الذين اهم امتداد لكتاب الدواوين يقومون جميعاً بخدمة السلطان وحكمه المستبد.
الاستبداد في اقطارنا العربية هو واع للمطالبة المتزايدة اليوم للانتقال الى نظم حكم ديمقراطية. فالاستبداد وهو سيد الموقف في الحياة السياسية على المستويين الرسمي والاهلي، وحكم التغلب العشري على الرغم من انحساره في العالم لصالح نظم حكم ديمقراطية ما زال النموذج السائد لنظم الحكم في الاقطار العربية مهما اختلفت اشكالها وتعددت مسمياتها.
ان القاسم المشترك بين انظمة حكمنا العربية- الملكية منها والجمهورية- هو حقيقة تغلب حكامها القسري على البلدان التي يحكمونها من دون تفويض من شعوبها وحاجة هذا التغلب القسري دائماً الى تجديد آلياته لاحتواء وتحديث ادوات العنف وابتكار سياسات اقصاء المعارضين معنوياً ومادياً واجبارهم على الانسحاب من الحياة العامة والتزام الصمت السلبي او دفعهم الى الانشقاق والتآمر وربما اللجوء الى العنف حتى يقعوا في مصيدة الدولة ولعبتها المفضلة باعتبارها الجهة الشرعية لاحتكار العنف.
الحالة الاستبدادية في نظم حكمنا العربية تمارس كشكل تسلطي وكسلوك يومي في المؤسسات وكثقافة وقيم، اما آليات اعادة انتاج هذه الحالة فتستند الى عوامل اساسية تتمثل في الظروف التي تؤدي الى شيوع الفردانية الملهمة الكاريزمية واستخدام الآلة الاعلامية في تزييف الحقائق وتزويرها وتفتيت الظاهرة الحزبية وافراغها من مضمونها وتسلط المؤسسة العسكرية على الحكم بالتحالف مع جماعات المصلحة.
وفي سياق ذلك، فان الآلية الرئيسية التي تساهم في ترسيخ الاستبدادية تتمثل في الفجوة المتزايدة بين الدولة والمجتمع، وبعبارة اخرى، الاختلال بين دولة تزداد قدرة على الضبط الرقابي ومجتمع متذّرر مقطوع الاوصال تمكنت الدولة من تجريده من كل ممكنات الفعل والقدرة الحيوية والحصانة.
وفي هذه الحالة، فان الدولة تتجاهل مقتضيات الحداثة طالما ان التحديث بالشاكلة التي تتوخاه يتفق واهدافها، التحديث من دون حداثة، حيث يجري توظيف تقنيات وثمار التحديث لصالح تقوية مؤسسات السيطرة وآلياتها خاصة قطاعاتها الامنية والاستخبارية.
ففي اطار الامنوقراطية وسيادة العقلية السياسية الامنية صارت الاجهزة الامنية بديلاً عن الحزب والحكومة والمجتمع المدني، واحتكرت هذه الاجهزة العنف شرعياً او غير شرعي.
ان من اهم الآليات التي تعددت هي قيام انظمتنا العربية المستبدة بتوزيع الفرص بين اعضائها ومؤيديها من القيادات المدنية والعسكرية بالاعتماد على معيار الولاء من دون معيار الكفاءة في غالبية الاحوال. فان هذه الانظمة لا تتوفر لها القاعدة الجماهيرية التي تعضدها ومن ثم فانها تسعى لتكوين تحالفات مع القوى الاخرى في مواجهة الانفراد بالسلطة وسعي لتحالفات متنوعة تحت مظلة ائتلافات… وبتوزيع الفرص والموارد على المؤيدين فان ذلك يفضي الى الاضرار بفرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية بما يترتب على ذلك من التشوهات الاقتصادية وتبديد موارد المجتمع مع الظواهر الاخرى التي صاحبت ذلك مثل ترييف المدينة واعادة هيكلة المجتمع المدني وتكوين ولاءات جديدة في التنظيمات المجتمعية الاخرى، الامر الذي ادى الى تباطؤ فاعليتها، وذلك من اجل السعي الى تثبيت نظام الحكم واستدامته، ويمثل مثل هكذا نظام الذي يمكن تصنيفه بالتسلطية المركزية المفرطة نموذجا لبؤس النظم العربية.
ان العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة مضطربة تقوم على فرض الطاعة تلبية لخدمة الحاكم واخضاع المحكومين لارادته ومتطلباته دون الاخذ في الاعتبار مصالحهم ولا طبيعة التعاقد الانساني ما بين الطرفين، ولذا ما زالت الانظمة العربية تمارس القمع والاستبداد كحق لها تستنفر قواها دائماً حفاظاً على وجودها لانها تعلم انها فاقدة للشرعية، فهي تمارس الاستبداد باسم الامن العام والمصلحة العليا للوطن، وهذا لم يأت من فراغ فقد كان هناك تراكمات واصول اسهمت في ديمومة الاستبداد العربي اليوم.

* المراجع
1- اسماعيل نوري الربيعي وآخرون- الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية ومشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، بيروت، 2005
2-  زهير فريد مبارك- اصول الاستبداد العربي، ط1، الانتشار العربي، بيروت، 2010
[email protected]

أحدث المقالات