” دراسة في الأسس النفسية والاجتماعية والفسيولوجية للمنظومة الكلامية “
خامسا – وظائف عملية الاتصال اللغوي:
من الطبيعي جدا التأكيد على أن أطراف عملية الاتصال ( المرسل والمستقبل ) وبشكل خاص المرسل يتصرفون بأسلوب مقصود, أي إنهم يرتبطون بعملية الاتصال اللغوي لبلوغ أهداف محددة. صحيح أن المرسل يمكن أن يقول كلمة أو يصرخ غير مكترث أن احد يسمعه أو لا يسمعه, ولكن حتى في هذا السلوك يكون له هدف, كما هو الحال في عمليات التفريغ الانفعالي.
ويمكن القول أن الاستخدام الهادف للنشاط الاتصالي يترتب عليه وجود وظائف محددة تقوم بها عملية الاتصال. إن الوظيفة التي تقترن للجميع باستخدام اللغة هي الوظيفة المعلوماتية, أي إبلاغ الطرف الآخر حول الأشياء, والأشخاص وتوصيل أخبار محددة أو أفكار معينة. إن نظرة دقيقة إلى هذه المسألة يتضح أنها ليست الوظيفة الوحيدة للنشاط الاتصالي, على الرغم من أهميتها الاستثنائية التي تكاد تكون في بعض الحالات هي الأهم. إن هذه الوظيفة التي أطلقنا عليها الوظيفة المعلوماتية تسمى الوظيفة الدالة أو المرجعية !!!.
ونستطيع هنا الاستعانة بتصنيف العالم اللغوي الروسي الأمريكي والباحث في الأدب رومان جاكبسون (1896 ـ 1982 ) لتحليل مختلف وظائف النشاط الاتصالي, ففي هذا التصنيف يستخدم العالم المذكور نموذجا يميز فيه المرسل والمستقبل. حيث يقوم الأول بنقل أخبار إلى الثاني, وهذه الأخبار مرتبطة بحالة أو بمضمون محدد. ولكي يكون النقل ممكنا فان المرسل يجب أن يرتبط مع المستقبل بصلة ما. ولكي تتم هذه الصلة ويظهر النشاط الاتصالي إلى الوجود, لابد على المرسل والمستقبل أن يستخدما نفس الشفرة الكلامية. والمخطط الآتي يوضح عناصر النشاط الاتصالي.
مضمون
أخبار
مرسل ــــــــــــــــــ مستقبل
صلة
شفرة
وقد أكد جاكبسون بأنه لا توجد حالات يقوم فيها النشاط الاتصالي بتحقيق وظيفته اللغوية يقتصر فقط على عنصر واحد فقط من العناصر الستة المذكورة في المخطط, ولكن يمكن القول بأن النشاط الاتصالي يحقق عدة وظائف من بينها الوظيفة السائدة.
وعلى ما يبدو للعديد من الناس أن الوظيفة السائدة لأي نشاط تخاطبي هي الوظيفة المرجعية, لكن هذه الوظيفة السائدة ممكنة التحقيق ( اتفاقا مع المخطط ) عندما يكون اهتمام أطراف عملية الاتصال منصبا حول المضمون, وحتى في هذه الحالة فبالإمكان أن تحقق وظائف أخرى. فإذا كانت النقطة المركزية في النشاط الاتصالي هي المرسل, أي وجهة نظره في المحتوى الذي يريد التعبير به, أو في قضايا أو انفعالات يرغب في استظهارها, ففي هذه الحالة نحقق وظيفة أخرى للغة هي الوظيفة التعبيرية. على سبيل المثال عندما يقول شخص لآخر: ” إنها لفتاة رائعة ” !!!.
وإذا كان مركز الثقل في النشاط الاتصالي يندفع نحو المستقبل فتكون لدينا هنا الوظيفة الغائية, وتحقيق هذه الوظيفة يأتي من خلال رغبة المرسل للتأثير في سلوك المستقبل, وخاص في استخدامات صيغ الأمر, على سبيل المثال: اغسل وجهك يا علي, وتستخدم هذه الوظيفة غالبا لتنظيم سلوك الأطفال, وهناك جانب آخر ممتع لهذه الوظيفة هو استخدام الطفل نفسه للغة للسيطرة على سلوكه وهو التكلم بصوت مرتفع مع نفسه أو ما يسمى بالمناجاة التعبيرية, على سبيل المثال: عندما يسير الطفل في طريق مظلم يتحدث مع نفسه ـ لا تخف يا محمد. ومع نمو الطفل ونضجه تتحول هذه المناجاة التعبيرية إلى مناجاة داخلية !!!!.
ولكي يفضي النشاط الاتصالي بصورة عامة إلى نتيجة فان المرسل يجب أن يعقد الصلة مع المستقبل ويحافظ عليها في زمن الإرسال. فاستخدام عبارات ـ ” تفضل “, ” أسمعك ” تعبر عن الرغبة في عقد الصلة, أو أن الصلة قد عقدت, وبمعنى آخر فان عقد الصلة هو جذب المستقبل قبل بدء الإرسال. ويوجد في الكثير من ثقافات الشعوب, وفي ثقافتنا العربية آداب عامة لعقد الصلة, على سبيل المثال, استخدام كلمات: عفوا, من فضلك, لو سمحت وهكذا. وحتى في بعض الأحيان حينما تصادف شخصا غريبا يسير معك في السلم, وحتى تبدي اهتماما به فانك تقوم ببعض الدردشة والتي لا تعبر عن أي شيء جوهري تقوم بإيصاله إليه. ويكون الهدف الوحيد هو عقد الصلة. ففي الحالات المذكورة أعلاه يقوم النشاط الاتصالي بتحقيق وظيفة أخرى هي تبادل المشاعر !!!!.
وإذا كان النشاط الاتصالي يتركز على الإرسال نفسه ( المعلومات نفسها ), فعند ذلك نتحدث عن الوظيفة الشعرية للغة. وتستعمل اللغة في هذه الوظيفة لأغراض المتعة الخالصة التي تزودنا بها. وتنفذ هذه الوظيفة ن خلال مختلف الأشعار عديمة المعنى وكذلك اللعب بالمفردات إلى آخره.
أما الوظيفة الأخرى للنشاط الاتصالي في وظيفة اللغة فهو اللغة الواصفة. وهي أن نتحدث عن هذه الوظيفة عندما يكون النشاط الاتصالي متمركزا حول الشفرة اللغوية, أي عندما نستخدم اللغة للتحدث عن لغة ما, فعلى سبيل المثال, في تعليم وتلقين اللغة الأجنبية, عندما نقوم بشرح معاني الكلمات, وتوضيح الأسس القواعدية, وكذلك تنفيذ هذه الوظيفة في شرح لغة الأم, عندما نسأل الطالب مثلا: ماذا تعرف عن مفهوم ” أفعال الكلام “. ويمكن توضيح وظائف النشاط الاتصالي بالمخطط الآتي:
المرجعية
الشعرية
التعبيرية ـــــــــــــــــــــ الغائية
تبادل المشاعر
اللغة الواصفة
إن وظائف النشاط الاتصالي التي تم ذكرها في مخطط ” رومان جاكبسون ” لا تعني نهاية الحديث عن وظائف اللغة, هناك وظائف أخرى لا تزال مركز اهتمام علم اللغة الاجتماعي, كالوظيفة التميزية والتعريفية. وتعني هذه الوظيفة, أننا نستطيع من خلال أسلوب لمرسل في التحدث أن نقف على حالته الصحية والنفسية والمزاجية, ولا يمكن وضع هذه الوظيفة في إطار الوظيفة التعبيرية.
وعندما يكون السلوك اللغوي نشاطا لذاته, وخاصة في الديانات كما في الأدعية والمراسيم الدينية والطقوسية, فعلى سبيل المثال لا الحصر, في الديانة المسيحية الكاثوليكية, كأن يقول: ” يا مارك أعمدك باسم الرب والابن والروح الطاهرة. آمين “. حيث المرسل هنا لا يخبر عن ماذا سيحدث ولكنه ينجز نشاطا محددا. وقد أطلق على هذا النوع من النشاط اللغوي بالفعل الكلامي.
يتبع الحلقة السادسة …..