23 ديسمبر، 2024 9:29 ص

ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية – 4

ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية – 4

” دراسة في الأسس النفسية والاجتماعية والفسيولوجية للمنظومة الكلامية “
رابعا ـ الجذور الإنمائية للاتصال اللغوي:

أن الحديث عن هذه الظاهرة من الناحية الإنمائية يعني الحديث عن الكلام باعتباره نشاطا في عملية التخاطب اللغوي الشفوي, والذي يلعب دورا أساسيا في الحياة الاجتماعية للفرد. إن الاتصال بالأشخاص الآخرين ممكن بفضل مهارتي التكلم والفهم( الإرسال والاستقبال ) للموضوعات الشفوية. ولكن الكلام ليست مهارة تولد مع الفرد بل يكتسبه من خلال حياته الشخصية بالاتصال مع الناس المتكلمين.

إن تتبع المظاهر الإنمائية لبعض جوانب هذه الظاهرة سيتضح لنا كيف أن جذورها تمتد إلى حياة الإنسان الأولى, بما فيها قبل الولادة. إن هذه الظاهرة تقع تحت تأثير ثلاث مجموعات من العوامل غير القابلة للفصل, هي العوامل البيولوجية, والنفسية والاجتماعية. إن تتبع هذه الظاهرة يمر بمراحل محددة من الناحية الزمنية بشكل تقريبي, تتكامل من خلالها الأبعاد اللغوية لعملية الاتصال. إن الأساس في تميز هذه المراحل هو الصيغ أو الأشكال اللغوية للموضوع الشفوي التي تنقل المعلومات إلى المحيط ـ المستقبل. ولذا فإن هذا التقسيم يقف وراءه عاملين رئيسين, هما: النظام اللغوي, وعملية تحقيقه في الاتصال الشفوي.

تفيد الأبحاث الميدانية المعاصرة التي قام بها العالم البولندي ( ليون كاجمارك ) الأخصائي في اللغة والاضطرابات اللغوية أن هناك أريع مراحل إنمائية يمر بها كلام الطفل, هي:

1ـ مرحلة النغم

2 ـ مرحلة الكلمة

3 ـ مرحلة الجملة

4 ـ مرحلة الكلام الطفولي الخاص

ويشير نفس العالم المذكور, أن هناك مرحلة سابقة للمراحل المذكورة أعلاه, وهي المرحلة التحضيرية أو الصفرية, وهي فترة الحمل, وهي ذات دلالة هامة في نشأة الكلام لاحقا عند الفرد. وسوف نشرح المراحل المذكورة بشيء من الاختصار والتركيز الشديد بما يخدم موضوع البحث:

ـ المرحلة التحضيرية أو الصفرية: وهي مرحلة فترة الحمل, وتمتد من ( 3 ـ 9 ) أشهر, وفي هذه الفترة يتوفر للكلام شرطين أساسين, ونعني بذلك تشكيل أجهزة الكلام, وبداية عملها. والمقصود هنا بأجهزة الكلام ـ الأعضاء المرسلة, وهي: المناطق الدماغية التفكيرية المنظمة للمعلومات, وكذلك الأعضاء المنتجة للمادة الناقلة( التفكير ), وتشمل المراكز والطرق العصبية, والحنجرة, والرئتان, والتجويف ألبلعومي والأنفي, وكذلك الأجهزة الضابطة ( السمع, البصر, الطرق والمراكز العصبية السمعية والحسية), وأيضا الأعضاء المستقبلة ( السمع, البصر, الطرق والمراكز العصبية السمعية والبصرية والمناطق التفكيرية ). وهذه بعض الأمثلة لعمل هذه الأجهزة:

أ ـ في استقبال وتخزين المعلومات:

1 ـ إن أول الظواهر التي يستقبلها ويسجلها الجنين في ذاكرته في الشهر الرابع, كما أكد ذلك العالم ( كلاوسر ),  هو الظاهرة الإيقاعية: الإحساس بإيقاع التوازن أثناء مشي الأم, أما في الشهر السابع فان ضربات قلب الأم تكون مسموعة لدى الجنين.

2 ـ لقد توصل بعض أخصائي السمع السويديين, على سبيل المثال العالم ( مانسين ) إلى أن الجنين في الشهر الرابع أو الخامس, أو بكل تأكيد في الأشهر الأخيرة قبل الولادة, كما أكد ذلك العالمان ( كلاوسر, وميترونوفيج ـ مودشيفسكا ) يستجيب للمثير الفيزيائي ( الاكوستيكي ). ويشهد على ذلك سرعة ضربات القلب وعدم الاستقرار الحركي العام .

3 ـ إن الجنين يسجل في ذاكرته صوت أمه, وليس من الغريب أن يكون صوتها هو الأقرب إليه سمعيا بعد الولادة من صوت أبيه الذي يسمعه مؤخرا. إن هذه الملاحظة أكدها ( سينيور ) أحد كبار أخصائي الأذن والأنف والحنجرة في بخارست عام 1950, كما أكد العالم ( مانسين ) عام1973 إلى أن الأطفال الرضع الذين أقاموا في المستشفيات بدون أمهاتهم, سجل لهم صوت أمهاتهم كي يسمعوه عند حالات البكاء, فاستجابوا له بهدوء ومحركين أرجلهم وأيديهم, باحثين عن مصدر الصوت بسرور.

ب ـ في إرسال المعلومات:
لقد أكدت دراسة ( فلاناكان ) عام 1973 أن الجنين في الشهر السادس أو السابع على الأكثر, يمص أصبعه ” ويبكي ” عندما يفقده. إن الصراخ بعد الولادة وبغض النظر عن الدور الذي يؤديه وكذلك المص هما استمرار لمهارات اكتسبت مبكرا.

هذا بالنسبة للمرحلة التحضيرية أو الصفرية التي يتواجد فيها الجنين في رحم أمه. أما بخصوص المراحل التي تلي مرحلة الولادة مباشرة فهي ما يأتي:

1 ـ مرحلة النغم ( الميلوديا ), أو ما يسمى بمرحلة إشارات الاستدعاء: وهي الفترة التي تمتد من لحظة الميلاد إلى عمر السنة ( صفر ـ 1 ). إن الطفل في هذه المرحلة وبحكم ارتباط الأم الوثيق والنشيط به, يرتبط هو الآخر اجتماعيا ونفسيا بالمحيط, ويستخدم في عملية الاتصال الأشكال الآتية: ( آ ) الصراخ والبكاء والتي تبدو كأعراض لعملية الاستدعاء التي يقوم بها الطفل عندما يعي أنه بواسطة هذه الأشكال يستطيع الحصول على مساعدة المحيط؛ ( ب ) الصياح الطبيعي وهو استدعاء أعلى درجة من البكاء؛ ( ج ) الأصوات النطقية والتي يرافقها إيماءات دلالية ذات سياقات متغيرة وثابتة؛ ( د ) التكوينات المحاكية والتي تقلد في مظهرها الصوتي الظاهرة المحددة, أو ما يسمى بالإشارات وحيدة الدرجة.

أن أكثر الوسائل الاتصالية استخداما في هذه الفترة هي الأشكال ( ب, ج ) والتي يشكل فيها الميلوديا ركنا أساسيا ( أي عملية تعديل الأصوات بأنغام مختلفة الارتفاع ). إن الميلوديا ثرية في هذه الفترة لما يصاحبها من إيماءات الوجه والحركات الحية المعبرة. وبسبب هذا التنوع الكبير فان الكبار يعيرون اهتماما إلى الطفل والى الحالات الحاصلة عنده, والى الطلبات المختلفة والأسئلة المطروحة ( أي الفهم ـ الاستقبال ). وفي هذه المرحلة يبدو الفهم ( الاستقبال ) مناسبا لمثيرات النشاط المختلفة. أما بالنسبة للأصوات في هذه المرحلة فإن الطفل قادر على النطق بعدد من الأصوات الصامتة والصائتة. إن الظاهرة المميزة لهذه المرحلة هي: المناغاة العشوائية والمناغاة المقصودة. إن المناغاة العشوائية هي عملية غير مقصودة يطلق فيها الطفل أصوات ذاتية بدون تأثير أو سماع مسبق من المحيط, وهي تظهر عند الطفل الذي يتمتع بصحة لا بأس بها في الشهر الثاني, الثالث أو الرابع, كما تظهر عند الأطفال الصم والأسوياء, وهي عملية تدريب ذاتي لأجهزة الكلام للتهيئة إلى نشاط التكلم. أما المناغاة المقصودة فهي عملية واعية لترديد وإطلاق الأصوات الخاصة وكذلك الأصوات المسموعة من المحيط في عمر ( 6 ـ 7 ) شهور. والمناغاة المقصودة هي عملية تدريب غير مقصودة للسمع, وبشكل خاص للإذن الكلامية أو بشكل أدق للأذن الصوتية ـ الكلامية. وتظهر المناغاة المقصودة عند الأطفال الأصحاء سمعيا ( لأنها تحتوي على الأصوات المسموعة من المحيط ), ولذا فهي ذات دلالة إكلينيكية وتشخيصية للوقوف على حالات الصمم المبكر, أي بمعنى آخر إن توقف الطفل عند حدود المناغاة العشوائية فقط وعدم انتقاله إلى المناغاة المقصودة يعني أن هناك شبهات حول عيوب مبكرة للسمع !!!!

2 ـ مرحلة الكلمة أو ما يسمى بمرحلة الإشارات ذات الدرجة الواحدة: وتمتد هذه المرحلة من السنة الأولى إلى السنة الثانية من حياة الطفل. وتمثل الإشارات الدلالية جزءا واسعا من حديث الطفل, وتتكون أما من أجزاء الكلمة ( الإشارة الجزئية )؛ أو من مفردة كاملة ( رمز ) حثية ( محاكية ), أو قبل كل شيء  من غير الحثية, أي اتفاقية ( إشارة ذات الرمز الأحادي )؛ أو من عدة مفردات بدون استخدام الضوابط القواعدية ( أي إشارة ذات الرمز المتعدد. وهذه تستخدم عادة في اللحظات القصوى للحالة المعنية, وكأنها محاولة بنائية لها. إن العامل المميز لمعنى حديث الطفل هي العناصر الموسيقية أو الفوقطعية, أولها النغم والنبر وأخيرا الإيقاع. في البداية تكون هذه العناصر واحدة غير مميزة في هيأتها الصوتية, وبحدود نمو مهارتي الفاعلية النطقية واستخدام أجهزة الكلام تنمو حصيلة الأصوات ويتم نطقها مع كل مرة أفضل وأدق. أما بالنسبة للظاهرة الصوتية المحاكية ( المظهر الاكوستيكي ), والتي تعني تقليد الأصوات المسموعة غير المعقدة فهي تقريبا ذات هيأة صوتية كاملة من حيث عناصرها الموسيقية والصوتية. أما بالنسبة لعملية الفهم ( الاستقبال ) لحديث المحيط فإن الطفل يحقق تقدما كبيرا, حيث يستجيب للحالات المحددة وللطلبات والأسئلة بحديث أكثر نضجا من حيث صيغته اللغوية مقترنا أغلب الأحيان بنشاط وفاعلية.

3 ـ مرحلة الجملة أو ما يسمى بمرحلة الإشارة ذات الدرجتين: وتمتد هذه المرحلة من 2 إلى 3 سنوات من حياة الطفل. في هذه الفترة تظهر الأشكال القواعدية ويغتني قاموس الطفل بشكل كبير, ويتحدد النظام الصوتي ولكنه يبدو غير مستقر. إنها عملية لا تجري بسهولة. إن الطفل يكتسب اللغة بطريقة شاقة. إن حديث الطفل ( إذا كان بمبادرة ذاتية أم استجابة لطلبات وأسئلة المحيط ) غالبا ما تبدو غير متفقة مع التقاليد اللغوية, وأن محتواه الصوتي ( تنفيذ الأصوات ) لا يبتعد فقط عن النماذج السوية ولكنه أيضا يختفي لأنها ممثلة من خلال أصوات غير مناسبة. إن الطفل في هذه المرحلة ينطق جميع الأصوات الصائتة باستثناء الصوائت الغناء, وكذلك ينطق الأصوات الصامتة التي تكون حركاتها النطقية مرئية.

4 ـ مرحلة الكلام الطفولي الخاص أو ما يسمى بمرحلة الأشكال اللغوية الخاصة: وتمتد هذه المرحلة من 3 إلى 7 سنوات من حياة الطفل. يستطيع الطفل في هذه المرحلة أن يدير محادثة بسهولة, ويستخدم إشارات ذات الدرجتين, ولكن أسس بنائها لا يزال غير مستقر. ويلجأ الطفل هنا إلى أسلوب المتناظرات أو المتشابهات ( ويقصد به تكوين صيغ ومفردات بالاستناد إلى نماذج صيغ ومفردات أخرى دون اشتراط التطابق في الدلالة ), والتلويث ( ويقصد به تكوين مفردة جديدة خاطئة من خلال دمج ” تقاطع ” جزئي مفردتين متماثلتين في مفردة واحدة ) والتبادل الخاطئ ( أي وضع صوت محل آخر تبادليا في نفس الكلمة بشكل خاطئ ).

وبسبب حداثة الطفل وفرديته وسحريته غير العادية نلتمس عنده ما نسميه بالإبداعات اللغوية, ونجد حدة هذه الظاهرة في بداية هذه المرحلة ثم تضعف لاحقا بالتدريج . إن هذا النشاط ذو أهمية بالغة بالنسبة للغة حيث ينقل الطفل من مرحلة المتعة والتنقيب إلى مرحلة الوعي الكامل بالإشكال اللغوية وصعودا إلى اللغة الاصطلاحية أو ما يسمى باللغة الوصفية. وارتباطا بنمو القدرة اللغوية فإن أسئلة الطفل التي كانت قليلة نسبيا في المرحلة السابقة تنمو في هذه المرحلة حتى تصل إلى أربعين سؤالا يوميا تقريبا, أما بالنسبة للجانب النطقي فإنه يتشكل بصيغته النهائية في نهاية هذه المرحلة.

أن مراحل النمو اللغوي المختلفة الأولى لن تختفي فجأة في المراحل اللاحقة, بل تعمل بانسجام وتداخل مع بعضها البعض بشكل تناسقي ـ  هرموني على طريق اكتمال اللغة عند الأطفال ووصولها إلى نماذج لغة الكبار !!!!.

يتبع الحلقة الخامسة ….