19 ديسمبر، 2024 6:51 ص

ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية – 3

ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية – 3

دراسة في الأسس النفسية والاجتماعية والفسيولوجية للمنظومة الكلامية
ثالثا ـ خصائص عملية الاتصال اللغوي:

عندما نقارن اللغة الإنسانية مع الأنواع الأخرى من ” لغات ” الحيوان, نلاحظ أن الميزة المشتركة هي كونها أنظمة طبيعية, أي أنها سجية طبع بها النوع المعني بيولوجيا. وعلى الرغم من الاختلاف في اللغات الإنسانية الناتج من تنوع الثقافات, إلا أن الفرد مجهز بأسسها من حيث تكوينه البيولوجي والتشريحي, أي أن كل السلالة الإنسانية تمتلكها, وكذلك أيضا كل نوع حيواني يمتلك بأي شكل من الأشكال نظاما اتصاليا يعمل وفقا لأسس مختلفة. يمكن هنا أن نشير إلى أكثر الأمثلة المعروفة من الأنظمة الصوتية ـ غناء الطيور, وكذلك المعتمدة على إشارات أخرى مختلفة ـ بصرية ـ حركية ( رقص النحل ) أو على الشم أو الرائحة ( الكلاب ومختلف الحشرات ).

إن الفرق الرئيسي بين لغات الحيوانات واللغة الإنسانية هو أن الأخيرة تستند إلى عملية النقل الثقافي, أي أن الإنسان يكتسب اللغة في عملية التطبيع الاجتماعي, وهذا الجانب تفتقده لغة الحيوانات. إن الحيوان لن يتوجب عليه تعلم معنى إشارات لغته على الرغم من خضوع بعض غناء الطيور لعملية التغير في طبقة الصوت الناتجة من الاتصالات مع طيور أخرى من نفس النوع.

إن اللغة الإنسانية هي اللغة الوحيدة التي تتكون من نظام ذو درجتين ( وقد شرحنا معنى ذلك في الحلقة الثانية من الموضوع ) والذي يشكل هذا النظام مصدرا لإبداعيتها, وان هذه لا تستند إلى المجموع الجاهز للإشارات فقط, كما هي الحال عند الحيوان, ولكن إلى قواعد التوليف لهذه الإشارات. ولم يوجد لحد الآن نظام اتصالي من درجتين عند الحيوانات. وقد جرت محاولات لتعليم الحيوان لغة الإنسان, وقد وجهت هذه المحاولات إلى اقرب الحيوانات من الإنسان في سلم التطور البيولوجي ـ كالشمبانزي والغوريلا وغيره. ولكن لا الشمبانزي ولا أي قرد قريب الشبه إلى الإنسان تمكن من الحديث بأصوات كلامية. نظرا للتركيبة التشريحية المحدودة لجهازه الصوتي ودماغه, ولذلك فان محاولات تعليم الحيوانات المذكورة انتهت بالفشل.

إن هناك فروقا جوهرية بين عملية التخاطب الإنساني وبين أشكال التخاطب في عالم الحيوان, وهذه الفروقات ليست كمية بل نوعية. لقد أشار إلى ذلك عالم اللغة الأمريكي جارلس هوكيت (1916 ـ 2000 ), حيث أكد أن عملية التخاطب الإنساني تتصف بسبعة خصائص هامة, البعض منها يظهر في عملية الاتصال غير الإنسانية, ولكن هذه الصفات لا تظهر مجتمعة في أي نظام من أنظمة الاتصال الحيوانية, وهذه الصفات هي:

1 ـ الثنائية ـ  وهي أن كلغة إنسانية تتشكل من مجموعتين من العناصر المكونة: الأولى هي مجموعة أصغر الوحدات اللغوية( الفونيم ), أي الأصوات أو الأحرف الخاصة بلغة معينة, والتي يتشكل منها الحديث اللغوي. هذه العناصر على سبيل المثال هي: س, ص, ت, ط وما شابه ذلك. إن هذه العناصر بحد ذاتها لا تمتلك معنى خاصا, ولكنها تمتلك معنى حاسما عند إبدالها في الكلمة أو في الحديث كله. فمثلا عندما نبدل الصوت ( س ) إلى ( ص) في الكلمة ( سار ) فان ذلك يؤدي إلى تغير معنى الكلمة وكذلك كل الحديث الذي تظهر فيه عملية الإبدال هذه. والمجموعة الثانية هي مجموعة أصغر الوحدات اللغوية ذات المعنى ( مورفيم ) في لغة محددة, والتي تتكون بدورها من أصغر الوحدات اللغوية عديمة المعنى ( الفونيم ), وبفضل هذه الثنائية فان نظام الاتصال يتمتع بقدرة هائلة حيث يسمح بإرسال كم هائل من المعلومات بواسطة عدد غير كثير من العناصر الأساسية. إن هذه الصفة لا تظهر في أي نظام اتصالي في عالم الحيوان.

2 ـ الإنتاجية ـ إن هذه الخاصية تسمح لكل متحدث بلغة معينة أن يتحدث بأشياء لم يتحدث بها سابقا ولم يسمعها, وتكون أيضا مفهومة من قبل المحيط. إن هذه الصفة تظهر في بعض أنظمة الاتصال في عالم الحيوان, على سبيل المثال, تستطيع النحلة أن تحبر عن مصدر جديد للرحيق.

3 ـ الاعتباطية ـ وتعني هذه الميزة انه لا يوجد بين الرمز الكلامي والموضوع المحدد( مع بعض الاستثناءات ) أي تشابه. على سبيل المثال, كلمة ” قط ” أو ” كلب ”  لا تشبه بأي شكل من الأشكال الكلب أو القطة الحقيقيين. كما أن الاختلاف بين كلمة قطة وكلب لا تحمل في طياتهما أي اختلاف مقابل القطة أو الكلب الحقيقيين.

4 ـ القدرة على التفاعل المتبادل ـ ونعني أن كل متحدث بلغة معينة هو في الأساس مستمع ويتمكن من الحديث بكل شيء يمكن فهمه عندما يتحدث إلى شخص آخر, إن هذه الصفة يمكن أن تكون خاصية لبعض أنظمة الاتصال في عالم الحيوان.

5 ـ التخصص ـ ويعني أن كل نشاط اتصالي يهدف إلى إثارة سلوك محدد عند الشخص الآخر, هذه النتيجة يمكن أن تمتلكها في درجة معينة كل أنواع السلوك, على سبيل المثال, إن جلوس شخص على مقربة من طاولة الطعام في وقت معين يشير إلى الغذاء الذي يأتي حال. إن هذا المظهر الاتصالي لنشاط الجلوس بقرب الطاولة هو مظهر جانبي, هدفه الأساسي هو تغير مادي في المحيط. ولكن الأنشطة المناطة باللغة لا تمتلك نتائج كبيرة مباشرة على هيئة تغيرات مادية في المحيط, إنها متخصصة في وظيفة توصيلية. إن عملية التخصص هذه في النشاط الاتصالي تظهر أيضا عند الحيوانات, ولكن تخصص النظام الاتصالي عند الإنسان بلغ درجة عالية من التعقيد غير قابل للمقارنة.

6 ـ العزل ـ إنها صفة خاصة بأنظمة الاتصال الإنسانية, ولها إمكانية الاتصال والحديث عن أشياء وظواهر ليست فقط المدركة حاضرا, بل والغائبة والبعيدة عنا أيضا في الزمان والمكان. أن هذه الصفة تظهر في بعض أنظمة الاتصال الحيوانية. ولكنها بأشكال بدائية جدا.

7 ـ النقل الثقافي ـ وهو أن الإنسان لا يرث نشاط الاتصال اللغوي, وإنما شرط اكتسابه هو الاحتكاك والتفاعل مع الأشخاص الذين تعلموا اللغة. إن هذه الصفة تظهر في بعض أنظمة الاتصال في عالم الحيوان من خلال بعض التعديلات على الطبقة الصوتية الناتجة من الاحتكاك مع حيوانات أخرى من نفس النوع. ولكن درجة الاعتماد عند الإنسان في الاتصال بالآخرين الذين اكتسبوا اللغة بلغت درجة راقية ومعقدة غير قابلة للمقارنة قطعا.

إن ظهور هذه الصفات السبعة في رأي جارلس هوكيت تشكل خصوصية تميز أنظمة الاتصال اللغوي الإنسانية عن بقية أنظمة الاتصال خارج إطار العضوية الإنسانية. إن الإشارة إلى هذه الصفات السبعة لا يعني عدم وجود صفات إضافية أخرى, بل أن نفس العالم المذكور أعلاه يشير في دراسة أخرى إلى أن هناك ثلاثة عشر صفة, ولكن على ما يبدو أن الصفات السبعة المذكورة هي قطعية الظهور في عملية الاتصال اللغوي في عالم العضوية الإنسانية !!!.

يتبع الحلقة الرابعة …..  

أحدث المقالات

أحدث المقالات