” دراسة في الأسس النفسية والفسيولوجية والاجتماعية للمنظومة الكلامية “
ملاحظات تمهيدية:
استرعت لدي ظاهرة الكلام باهتمام خاص منذ دراستي الجامعية الأولية, باعتبارها أداة الإنسان الأساسية في الاتصال, ومن ثم المتعة العقلية ـ المعرفية للخوض في ماهية الترابط الجدلي بين ركني هذه الظاهرة: الركن الفسيولوجي والبعد الاجتماعي. وقد تأثرت كثيرا بالبروفيسور العراقي المرحوم الدكتور نوري جعفر من خلال علاقتي الشخصية العلمية معه, ومن ثم ما كتبه لنا مأخوذا من العلم الروسي عبر الانكليزية بشكل أساسي للدراسات النفسية والفسيولوجية والتشريحية عن اللغة.
وعندما سنحت لي الفرصة لإكمال دراستي العالية خارج الوطن اتسع لي مزيدا من الوقت والتفرغ الكامل لدراسة هذه الظاهرة, فعكفت على دراستها ببعديها السوي والمرضي, وبذلك تشعبت المداخل لدراسة موضوع الكلام. ولعل في هذه الحلقات أسعى لتقديم خدمة متواضعة للقارئ الكريم وللمكتبة الالكترونية والورقية التي تحتاج إلى مزيد من العناية بهذا الميدان من المعرفة الذي لازال بكرا ويستحق المزيد من الإضافة, ولي الأمل أن تشكل هذه المساهمة إضافة لا غنى عنها لتراثنا اللغوي والنفسي في هذا المجال.
وقد ارتأيت أن تسير محاور البحث في موضوعات متصلة تفضي إلى تصور لفهم ظاهرة الاتصال اللغوي الشفوية ” الكلام “, وسوف تكون هذه المحاور بالضرورة في حلقات متتابعة, أهمها: ماهية اللغة في ضوء علو النفس الفسيولوجي المعاصر, وأوليات وشروط عملية الاتصال اللغوي, خصائص عملية الاتصال اللغوي, والجذور الإنمائية للاتصال اللغوي, والآليات الدماغية للاتصال اللغوي, وأسس عملية الاتصال اللغوي في ضوء مبادئ علم التحكم الذاتي, ووظيفة النشاط الاتصالي اللغوي ومن ثم بعض المظاهر الاضطرابية في منظومة الاتصال اللغوي !!!!.
لقد ارتبطت اللغة ارتباطا وثيقا بالنقلة التي حققها الإنسان في سلم التطور البيولوجي, فكانت اللغة وطلائعها الأولى من المؤشرات المهمة والفاصلة بين الإنسان وما سبقه من سلالة الحيوان, فكانت تسميته بالحيوان الناطق أو الرمزي ليست جزافا أو عبثا, بل للتعبير عن الرمزية والسلوك الرمزي الذي هيمن على سلوكه بعد توديعه الغابة وبدئه مسيرة الإنسانية بكل ما تحمله من انجازات وتعرجات ومحطات توقف وتراجع وتقدم إلى الأمام. فاللغة كانت هي المعبر عن كل هذا نطقا وكتابة وإشارة لغوية وتخطيطا وفلسفة وعلما وتراثا, وما إلى ذلك من تأثيرات جوهرية على التفكير وتأثير الأخير على اللغة في بداياته الأولى وتلاحمه معها وعدم انفصاله عنها. وهكذا بدأت الحضارة الإنسانية منذ بدايتها المتواضعة إلى يومنا هذا, لغوية ـ رمزية وكل ما يأتينا منها هو لغة بأشكال ومظاهر مختلفة, وأصبحت اللغة هي المعبر عن المحتوى التاريخي والثقافي والفكري والعلمي للإنسانية جمعاء !!!!.
هذه ” الصدمة ” الكبرى في الانتقال إلى الإنسانية عبر اللغة جعل من اللغة ونشأتها وطبيعتها من الموضوعات الرئيسية للفلسفة ” باعتبارها أم العلوم سابقا “, ثم لاحقا وعلى أساس ذلك نشأة العلوم المختلفة التي تناولت اللغة, سواء من العلوم اللغوية البحتة التي تناولت اللغة تأريخا ونظام صوتي وكتابي وقواعدي وتركيبي و قيمة معنوية, ثم إلى العلوم الاجتماعية التي تناولت اللغة كظاهرة اجتماعية في مجرى عملية الاتصال والتواصل الاجتماعي, كعلم الاجتماع اللغوي, وكذلك العلوم النفسية التي تناولت اللغة من حيث جذور نشأتها على مستوى الفرد كوحدة عضوية بيولوجية نفسية, وفي حالتها الصحية والمرضية, ونشأت على خلفية ذلك الكثير من المعارف العلمية والدوائر المعرفية المتشعبة, كعلم النفس اللغوي, وعلم أعصاب اللغة, وعلم الاضطرابات اللغوية, وعلم نفس اللغة ألنمائي وغيرها من العلوم الفرعية ذات الصلة بالمظاهر السايكولغوية والعصبية وفي بعديها السوي والمرضي الاضطرابي !!!.
وكان للدين أيضا دوره في التنافس مع المعارف الأولى في فهم ظاهرة اللغة وتبيان أصولها استنادا إلى الخطاب المقدس الذي وصلنا عبر نصوصه المختلفة, ففي العالم الإسلامي وفي القرآن كما في سورة البقرة في الآية ( 31 ) حيث يرد: ” وعلم آدم الأسماء كلها “, كما أن العالم المسيحي يعتمد على ما ورد في سفر التكوين في الفقرتين ” ( 19 ) و ( 20 ) من الإصحاح الثاني إذ يقول: ” والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء, ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان. فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول “. وهذه النصوص المقدسة لا تفسر بكل الأحوال ما هي طبيعة المقدرة اللغوية التي وهبها ” الإله ” للإنسان, بل إن هذه الأدلة النقلية وعلى ضوء مفسري النص تضعنا في تعارض مع سنة البحث في فهم الظاهرة اللغوية وتعقيداتها على المستويين النفس ـ فسيولوجي والاجتماعي وتضفي مزيدا من الغموض على دراسة المشكلة في فهم طبيعة المقدرة اللغوية وأبعادها المتشعبة !!!!.
أولا ـ ماهية اللغة في ضوء علم النفس الفسيولوجي المعاصر:
يحدثنا علم النفس الفسيولوجي المعاصر عن وجود منظومتين أساسيتين في العضوية الإنسانية هي: المنظومة الإشارية الأولى, والمنظومة الإشارية الثانية. وقد نشأت الثانية على أساس الأولى, وقد أثرت كل منهما في الأخرى من الناحية الارتقائية, واتسمتا بتعقيد وظيفي لا نظير له في سلم تطور الكائنات الحية.
أن المنظومة الأولى أو التأشير بمعناه الحسي المشترك بين الإنسان والحيوانات الراقية, والذي يستقبله الجهاز العصبي المركزي على هيئة روائح وأصوات وألوان, يشير إلى الأشياء المادية التي انبعثت منها تلك الروائح والأصوات والألوان, هو سمة نشاط المخ المميزة أو وظيفته الأساسية, ويدعى فسلجيا النشاط الحسي, أو المنظومة الإشارية الحسية الأولى باعتبارها تشير بشكل مباشر أو تدل على الأشياء المادية الطبيعية والاجتماعية الموجودة في العالم الخارجي.
ويدخل ضمن هذه المنظومة الحسية عند الإنسان وحده جميع الإشارات والعلامات الاصطناعية الأخرى ذات الدلالة أو الأهمية أو المغزى التي صنعها الإنسان لتشير إلى وجوه النشاط الاجتماعي المختلفة وتنظمه, مثل إشارات المرور الضوئية والإشارات باليد وأصوات المنبهات التي تطلقها وسائل النقل المختلفة والأجراس وعلامات الاستدلال التي يتعذر حصرها.
كل ذلك يتصل بالمنظومة الإشارية الأولى, أي أنه يجري عن طريق حاسة البصر أو السمع إلى المركز المخي الحسي البصري أو السمعي. أما الرموز اللغوية المنطوق بها أو المكتوبة ( يعني المسموعة والمرئية ), والأفكار التي تنطوي عليها والتي تنتقل إلى الإنسان وحده عن طريق البصر والسمع فتؤلف المنظومة الإشارية الثانية( اللغة ) حيث تنقل إشارات تلك الرموز عن طريق السمع والبصر إلى مراكز مخية خاصة ينفرد بها الإنسان وحده هي المراكز المخية اللغوية. معنى هذا أن الكلمات المتحدث بها والمكتوبة هي ( إشارات الإشارات ) أي تعبر عن الإشارات الحسية التي تنقلها المنظومة الإشارية الأولى والتي تدل أو تعبر أو تشير إلى أشياء مادية محسوسة. فالإنسان ينفرد دون سائر الحيوانات الراقية بالإضافة إلى التأشير الحسي وعلى أساسه ( أي بالإضافة إلى تسلم الإشارات الحسية على شكل روائح وأصوات وألوان وما يجري مجراها والتي تأتي من البيئة ) بأن لديه منظومة التأشير اللغوي والتي احتلت منذ نشوئها وتطورها المكان الأول والأهم في علاقاته بالبيئة المحيطة.
وأخذت الكلمات مع الزمن تعبر عن الإشارات الحسية وتحل محلها. فكلمة ( سمك ) مثلا المتحدث بها أو المكتوبة أو كلمة ( ليمون حامض ) أو ( أب ) أو ( مدرس ) أو ( شمس ) تحل أثناء الحديث والقراءة محل الشيء المادي الذي تعبر عنه وتستثير أيضا الاستجابة الفسلجية التي تستثيرها خواصه الحسية. ومن هذه الناحية تسمى اللغة ( إشارات الإشارات ): أي أن الكلمات المنطوق بها والمكتوبة ( الأصوات والإشارات البصرية ) تشير إلى الإشارات الحسية ( خواص السمك مثلا أو الليمون ) التي تشير بدورها إلى الأشياء المادية التي انطلقت منها. والألفاظ اللغوية التي تعبر عن نفسها على هيئة رموز صوتية أو مكتوبة أوجدها الإنسان لتنظيم حياته الاجتماعية. معنى هذا أن قيمة الرموز اللغوية ( الصوتية والبصرية ) تكمن في معناها أو دلالتها أو مغزاها أو فحواها أو أهميتها أو في الشيء الذي تشير إليه وليست في كيانها المادي المنطوق به أو المكتوب.
لقد نشأت المراكز المخية اللغوية التي ينفرد بها الإنسان من الناحية التاريخية التطورية على أساس المراكز المخية الحسية وبعدها من الناحية الزمنية. وهي ترتبط أيضا بالبصر والسمع. أي أن المنظومة الإشارية الثانية لا تستطيع مطلقا أن تمارس عملها اليومي المعتاد دون الاستناد إلى التعاون مع المنظومة الإشارية الحسية وخاصة حاستي السمع والبصر. ومع أن نشاط المنظومة الإشارية اللغوية يرتبط بقدرة الإنسان على الاتصال بغيره من أفراد المجتمع عن طريق الكلمات المنطوقة والمكتوبة وبقدرته على التفكير, وهو نشاط ذو طبيعة تجريدية وتعميمية, إلا أنه من غير الممكن مع هذا أن نعزل الإدراك الحسي عن الفكر المجرد.
وقد ثبت في ضوء الدراسات العلمية الحديثة أن النشاط العصبي الأعلى ( أو الحياة العقلية ) يتركز عند الإنسان في مناطق أو مراكز الكلام المخية الموجودة في أكثر من منطقة في القشرة المخية ( كما سنلاحظ ذلك في الحلقات القادمة ). كما ثبت أيضا أن هذا النشاط يؤثر في النشاط العصبي الأدنى ( أو الحياة الانفعالية ) عند الإنسان الذي يتركز في الأقسام الدنيا من الدماغ ( الأقسام الواقعة تحت المخ ) ويتأثر به وأن هناك تأثيرا متبادلا بين النشاط اللغوي المشار إليه( الذي ينفرد به الإنسان ) وبين النشاط المخي الحسي الذي تشترك فيه مع الإنسان الحيوانات الراقية الأخرى من جهة أخرى. ولكنها عند الإنسان خاضعة بشكل أو بآخر للقشرة المخية.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن نشاط المنظومة الإشارية الأولى وان كان مرتبطا ارتباطا وثيقا مباشرا بالإدراك الحسي وأن نشاط المنظومة الإشارية الثانية مرتبط بقدرة الإنسان على الاتصال الفكري بالآخرين عن طريق الكلمات المتحدث بها والمكتوبة وبقدرته أيضا على التفكير المجرد عبر الكلمات, غير أن لا يمكن عزل هذا الأخير عزلا تاما ومطلقا عن الإدراك الحسي, والعكس صحيح أيضا, لأن الإدراك الحسي لا يحدث دون استيعاب ذكي لما هو مدرك حسيا, أي أن التفكير غير ممكن الحدوث دون سند من الإدراك الحسي الذي هو مصدره الذي يمده بمحتواه.
معنى هذا من غير المستطاع أن نعزل عزلا تاما( إلا لأغراض الدراسة النظرية ) عملية التفكير المجرد عن عملية الإدراك الحسي. والإدراك عند الإنسان ليس حسيا صرفا, أي أنه بشكل أو بآخر مرتبط بالجانب الاجتماعي. فالتفكير الحسي إذن هو منطلق التفكير المجرد وهو الذي يمده بمحتواه …….. يتبع الحلقة الثانية !!!!!.