23 ديسمبر، 2024 12:45 ص

طُرقُ الشوك … تُراب ! الحلقة (2)

طُرقُ الشوك … تُراب ! الحلقة (2)

لا ازال أذكر برودة ذلك القبر المنحوت من الآجُر ،،، كما لا تزال كلماتُ زميلي عبد القهار باللهجة المصلاوية .. ” يابة أشعتعمل !! ” اي ماذا تفعل عندما ناولته الكاميرا ليمسك بها كي أستلقي في حوضٍ كبير ،،، كان قبر الملكة زوجة الملك ناصر بال الثاني الملك الآشوري ،،، قلتُ لأستشعر أحساس من يرقد في ذلك القبر آلآف السنين … كان ذلك ربيع عام 2004 حيثُ كان العالمُ أقلُ ” تديُنّا ” من اليوم ،،، وكان بوسعنا انا وهو أي عبد القهار التوجه جنوب الموصل لتصوير  آثار تلك المدينة الغابرة ،، وكان بوسعي التعبير عن الذهول والحيرة ،،، بين آداء واجبي كمصور أو إطلاق العنان لمشاعر المجنون بالتاريخ وعبقه عند أعتاب أي حضارةٍ كانت ،،، حيث مبتعثُ التأمل في الإنسان  وآثار صنعه ،، لم أستطع التوقف عن التحديق في الجدران التي طُرزت بآلآف الاسطر باللغة المسمارية رغم أنني كنت ألمح بين الحين والآخر تململ الشرطي الحارس المرافق لنا داخل المدينة الأثارية ،،، وصوت عبد القهار الذي يغيب عني ويعود ليذكرني بضرورة الاسراع في انجاز العمل والانصراف أذ المنطقة المحيطة لم تكن آمنة ،،، فكان الصراع المسلح بين القوات الامريكية والمسلحين في أوجه ،،، وكانت عبارات ” الجهاد والمقاومة ” تملأ جدران القرى المحيطة، بينما أستغرق أنا بتلمس الاحرف بأطراف أصابعي محاولاً لمس ضربة أزميل هنا وهناك لتخط أسطرا  لا أفهم معانيها ،، لكنني لوهلة شعرت بها فقلت لزميلي ،،، تخيل فقط تخيل في مكاني هذا قبل أربعة آلاف عامٍ او يزيد وقف رجلٌ هنا لينحت تلك السطور وأتساءل بم كان يفكر ؟!!

هل كان مقتنعاً بما يفعل ؟!! هل كان له أسرة ؟!! ،،،، رد زميلي ساخراً ” والله انت بطران ” ههههه ،،، مع تلك الضحكات انتهى اليوم والزيارة الأولى والاخيرة ،، لعاصمة ناصر بال الثاني. اليوم وأنا اطالع صور ما تبقى من آثار النمرود ،، أو كالخ أو كالح بحسب المسميات المتعددة ،، أو لنقل صور ما لم يتبق منه سوى التراب ،،، وبينما أكمل الترحال في طرق الشوك ،، او الحرير التي تمر على مقربة منها ،،، أفكر في أسباب نجاتها من الزوال عبر التاريخ ،، وأعني الزوال النهائي ،،،.قاطع ذلك التفكير صوت صرير أقلامٍ يخرج من نوافذ بيت الحكمة على ضفاف دجلة في رصافة بغداد ،، فدخلت ،،، فأذا برفوفٍ قد غصت بالمجلدات ،،، وهمس في اذني الدليل اتعرف من هؤلاء !!

قلت كلا يا عماه ،، قال هذا يوحنا بن ماسويه وهذا جبرائيل بن بختيشوع وهذا حنينُ بن إسحاق وهذا جبرائيل الكحال وهذا الحسنُ بن سهل وهذا سلمويه بن بنان وهذا صالحُ بن بهلا الهندي وهذا ،،، على رسلك ياعماه ،، من هم وماذا يفعلون !! قال يا بني هنا تترجمُ كُتُبُ الأقدمين في الطب والكيمياء والفلسفة ولآداب والهندسة وهؤلاء مترجمون علماء ،، عربٌ ويهود ونساطرة وفرس وهنود ،،، وهذه الدار أقيمت بأمر أمير المؤمنين هارون فقد كانت فكرته تبناها من بعده  المأمون ،،، فوقع في نفسي ترى ،،، لِم لم تُحرقُ تلك الكتب؟ !! ،،، فتذكرت أن هولاكو سيقوم بتلك المهمة لاحقاً ،،، إلا ان من المحير ايضاً ان هولاكو نفسه وجد من يجيد مخادعته ويقنعه ببناء مرصدٍ فلكي في “مراغة”  بحجة التنجيم وقراءة الطالع الذي أصاب مرةً فأستثمرها ذلك العالم المخادع عندما نال من الرضى ماي كفي للسماح له بنقل 400,000 مجلدٍ من بغداد الى مراغة ،، بعد نجاتها من الإتلاف ،،، ليلوذ بعدها هارباً الى قلعة الموت الحصينة ليختبئ فيها!عدت لذات الصورة ،،، ولم أجد متهماً بتلك الفعلة على وجه اليقين ،،، أذ لاوجود لسجل بصماتٍ بين ثنايا التاريخ ،،، يحفظ بصماتِ كورش الأخميني !