في مدينة الناصرية كانت توجد اربع سينمات .الاندلس الصيفي والشتوي .والبطحاء الشتوي والصيفي . واليوم السينمات الاربع فقدن سحر شاشات العرض فهدمت البطحاء الصيفي والشتوي والاندلس الشتوي تحولت الى مخازن وورش نجارة والصيفي اصبحت كراجا للسيارات .
وعودة للزمن الذهبي لقاعات العرض السينمائي ، كانت تلك الامكنة واحة خصبة لسياحة الخيال وكتابة القصص والخواطر ورسائل الحب ، ومن يريد أن يمتلئ بالشوق الى انثى يتمناها ويتخيلها يذهب ليشاهد فيلما رومانسيا هنديا أو يتمتع بشهوة عينيه مع جسد الفاتنة هند رستم او برجيت باردو او راكيل وولش.
كانت الدهشة تصبغنا بأشياء كثيرة ، ومع الافلام الملونة نمت فينا هواجس جديدة لها طعما آخر حملته الموجة الجديدة لوجوه الممثلات ، وربما السينما الفرنسية أخذت منا الكثير من سحر التسمر امام شاشات السينما وقراءة خارطة تفاصيل الجمال في لذة الزبدة الفرنسية التي كانت مملوئة بصحن وملتصقة على خد ممثلة ساحرة اسمها كاترين دينوف .
كانت هذا الوصف هو من كان يضعه صديق لنا هام حبا بها ، وكان يقول :اجمل الطيور تلك التي تحلق في سماء عيون كاترين دينوف . وكانت سينما الاندلس هي من تخصصت في الاغلب بعرض الافلام الفرنسية .وكان العرض المسائي يبدا دائما في الساعة الرابعة بعد الظهر ، فكان صديقنا في اليوم الذي تعرض فيه سينما الاندلس فليما لدينوف يتسمر امام باب السينما من الساعة الثانية بعد الظهر في اوقات تصل فيها درجة الحرارة في الصيف الى خمسين دجلة. وفي الشتاء كان برد يهز بدنه لكنه كان يشعر ان انتظار الفاتنة الفرنسية يدفئه.
الحاح صديقنا في عشق دينوف جعلنا نميل الى التعلق بأجنحة هذه الطيور ونحلق معها .
وكنا نسأله : لنفرض يا ( س ) قادتكَ الصدفة لتكون امامها وجها لوجه .
يرتعش ويرد :حتما أصاب بجلطةٍ في القلب .
صديقنا لم تأته الجلطة ، بل الذي اتاه هو شظية من مدفع هاون اخترقت صدغة رأسه وتقتله في ذات اللحظة في صباح بارد بربيئة على جبل في منطقة بنجوين ، ويقال :انه قبل موته كان قد انتهى للتو من تعليق على جدار ملجئه صورة جديدة لدينوف وجدها في غلاف واحدة من المجلات الفنية.
الآن عاشق دينوف ذهب الى قدر بعيد ، ودينوف بالرغم من انها تمسك اعوامها السبعين إلا أن جمالها المبهر لم يزل مكان لتحليق ملايين الطيور الجميلة ، وربما لو كانت تعرف بهوس صديقنا الذي سرقته شظايا الحرب لأقامة عليه قداسا جنائزيا وربما كتبت رسالة قصيرة الى محافظ المدينة ليبقي فتنة السينما في قلوب الشباب .
وحتما سيقول لها :الفضائيات والعولمة سلبت فتنة السينما .والانترنيت واليو توب الغى سحر الشاشة ، واصحاب السينمات هم من حولوا القاعات الى ورش نجارة وكراج سيارات.
طبعا هي لم تقتنع ، وستتذكر مع جيل كامل من ابناء مدينة الناصرية السحر الروحي والجسدي الذي كان يصيبنا بقشعريرة اللذة والدهشة والتسمر امام شاشة السينما ونحن نعيش حلم زيارة باريس وتذوق الزبد الفرنسي الطازج على خد دينوف.
وحتما اي واحد فينا لم يتذوق شيئا من هذا الزبد ولم يشم عطرا لها ، فكل الذي كنت اراه في باريس كانوا افارقة ومن المغرب العربي وسواح من الخليج ، فيما المواطنون الفرنسيون ينظرون الى الغرباء والمهاجرين بشيء من الريبة والحذر وخصوصا بعد الهجمات الارهابية الاخيرة في باريس وغيرها من المدن الفرنسية.
بين تلك الازمنة وهذا الزمن تعيش الناصرية في مساحة سير غيمة الذكرى ، بين وقت كنا فيه نقود سعادتنا من خلال رموش ممثلة .
والان نقود ذات السعادة من خلال الراتب ومفردات بطاقة التموين.