22 ديسمبر، 2024 2:13 م

طوفان (عثماني) متجدد .. وفهم (أمريكي) متأخر!!!

طوفان (عثماني) متجدد .. وفهم (أمريكي) متأخر!!!

المثير للجدل ان معطيات الحرب الجوية على تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ«داعش» لا تبشر بانقلاب المواقف العسكرية على الأرض، وقديما قال الجنرال البروسي كارل فون كلاتوفيتز في كتابه «الوجيز في الحرب» ان قرار الحرب يأتي بعد فشل السياسة في الوصول الى الأهداف المطلوبة، ومع انقشاع غبار المعركة تعود ذات الأهداف للظهور من جديد وفقا لتسويات نتائج المعركة التي تبدل مسار الحرب ما بين منتصر ومهزوم. والسؤال هل المعركة الدائرة اليوم بين هذا التنظيم والحشد الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة يمكن ان ينهي وجوده في معركة جوية؟..

 مواقف يومية

الواضح من معطيات المواقف اليومية في هذه الحرب ان عناصر التنظيم تقضم الأراضي في مناطق ملاذاتها الاجتماعية يوما بعد آخر حتى باتت صرخات الاستنجاد مثل النداءات التي كررها مجلس محافظة الانبار لاستقدام قوات دولية تفرض سيطرتها على الأرض، يؤكد ان القوات العراقية ليس بإمكانها القيام بواجبات الحرب وفقا للقياسات المتعارف عليها في  فنون التعبئة القتالية للقوات النظامية لمواجهة ما يوصف بمنظومات الحرب الصغيرة وهي تعبير امريكي عن حرب العصابات، وهي فنون قتالية  معروفة  لمناوئي السلطة الحاكمة، ليشمل اليوم  نوعا جديدا من القتال لتغيير معالم الجغرافية العسكرية في اعادة تكوين الدول كما حصل في اعلان الخلافة الإسلامية ومطالبة الجماعات التي تؤمن بالفقه الإسلامي القائل بدار الحرب ودار السلام مبايعة أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين!!

خطورة ما يحدث اليوم على المجتمع العراقي وبقية المجتمعات يعادل في مقاربة تاريخية مع ظهور الدولة العثمانية، حينما فرضت سلطانها على جميع الربوع التي كانت تحكم من الخلافة العباسية، مستفيدة من ظروف سقوطها، لكن هذه الخلافة كانت إسلامية الهوى، عثمانية السلطة، واليوم مشكلة تنظيم الدولة الإسلامية انه يدعو بدعاية الإسلام لكنه يقوم بتنفيذ واجبات قتالية اقرب الى المرتزقة الذين ينفذون واجبات قتالية لمن يدفع اكثر، وهناك دول ومنظمات دولية تدعمه لوجستيا حتى وقت قريب لكنه حاول الخروج عليها  في  تأطير واجباته  فانقلب السحر على الساحر، لكي تتحول الأهداف المناصر له من بعض تلك الجهات لاسيما الاوربية منها الى مناهضة واقعية حينما سعى الى نشر أفكاره وسط العاطلين عن العمل وتجنيدهم في مدن اوربية مختلفة، مما جعل المجتمع الدولي يواجه حقيقة مشاعر زعامات اوربية ترى في الانكشارية الجديدة لداعش نوعا من التبشير بعثمانية جديدة، بعد ان وضحت صورة التعامل مع المسيحيين والايزيدين كأقليات دينية في الجغرافية البشرية التي سيطر عليها التنظيم لاسيما في الموصل، لكي تستنفر هذه الزعامات بعد تلك الخطب الرنانة في كنائس اوربا  لمواجهة الخطر العثماني المتجدد.

 تحول الأهداف

لكن هذا التحول في الأهداف من محاولات أمريكية لصناعة الشرق الأوسط الكبير، الى محاربة ذات الأدوات التي صنعتها واشنطن في لعبة الدومينو التي جاءت بالربيع العربي، وافرزت نتائج سلبية كانت مراكز الأبحاث الامريكية تبشر بان نتائج صناديق الاقتراع هي من ستنهي الموجة الإسلامية العالية في الربيع العربي، فانتهى الامر الى ظهور الجنرال السيسي في مصر، وما زالت واشنطن تبحث عن (سيسي عراقي) وآخر «سوري» بعد ان فهمت متأخرة الدرس الاستعماري البريطاني حينما زرعت ممالك متعددة الأطراف لم تجمعهم الا في جامعة عربية عاجزة فيما كانت ثورة الشريف علي بن الحسين تبشر بوحدة عربية جامعة!!

كل ذلك يجدد السؤال عن تلك الأهداف التي تسعى واشنطن وغيرها من الفرقاء الاقليميين لدرء الخطر اليوم عن سلطانهم، في الحكم والمجتمعات من طوفان «عثماني» جديد تكون له معالم جديدة، بما يخالف نظرية كلاتوفيتز عن نتائج المعركة على الأرض، فالحرب اليوم على داعش واقع، لكنها يمكن ان تنتهي بمساومات أكبر منها وللحديث صلة.

لا يمكن اغفال وقائع العلاقات ما بين تنظيمات الاخوان المسلمين بوصفها منظومة دولية تتجاوز الحدود الوطنية للأحزاب الاخوانية تحت مختلف المسميات في الوطن العربي والإسلامي، وهناك علاقات راسخة لهذه المنظومات وظفت  من قبل  دول صغيرة في الخليج العربي، ابرزها قطر والامارات العربية المتحدة، لتكون منطلقات مالية ولوجستية لدعم هذه الأحزاب وهي تركب موجة الربيع العربي، التي هي أصلا نتيجة برنامج (الدبلوماسية الناعمة)، طبقتها المخابرات المركزية الامريكية لتحطيم اصنام الأنظمة العربية التي مزجت ما بين النظام الجمهوري والنظام الملكي، فانتهت الى جمهوريات التوريث في مصر واليمن  ولبيبا وسورية.

 صراع صفوي عثماني

ويمكن ملاحقة الاخبار التي تتحدث عن تلك المؤتمرات الموسمية التي يعقدها الاخوان المسلمون في إسطنبول ولندن وغيرها من المدن الأوربية لتدارس خطواتهم، بموافقات استخبارية أمريكية ومراقبة روسية-إيرانية، وربما صينية، بعد ان انتهى التنافس الدولي الى معسكرين، الأول تقوده واشنطن بفرضيات موافقة قسرية على الاتحاد الأوربي، ومعسكر تقوده روسيا الاتحادية، بعد ان استعادت نوعا من هيبتها الدولية  في الملفين السوري والنووي الإيراني، وهكذا عادت خارطة التاريخ الجغرافي من جديد لتظهر معالم صراع «صفوي – عثماني» بمسميات جديدة، وإعادة قراءة  كتاب (أربعة قرون من تاريخ العراق)، لمؤلفه الضابط والمؤرخ البريطاني ستيفن همسلي لونغريك الذي عمل وأقام في العراق ابان الانتداب البريطاني في العراق 1920-1932 وقام بترجمته المترجم جعفر خياط، تظهر بما لا يقبل الجدل ان مساحة العراق الجغرافية مكان لذلك الصراع طيلة عقود طويلة، انتهت بظهور التشيع الصوفي، كنوع من ردة الفعل على التسنن العثماني، في بواكير ظهور الإسلام السياسي بصورته المتطورة، والتي انتهت على يد  مستشرقين بريطانيين الى ظهور الوهابية في الجزيرة العربية، والاخوان في مصر، وحزب الدعوة في العراق، وهناك اكثر من مصدر تاريخي يوثق ذلك  من خلال الوثائق البريطانية منها  كتاب «رهينة خميني» الذي حلل آليات تشكيل وظهور هذه التشكيلات الجديدة للحكم في العالم العربي والإسلامي من خلال منظومة علاقات بالمخابرات البريطانية  من خلال  وزارة المستعمرات التي كان يديرها ونستون تشرشل!!

واشنطن.. فهم متأخر

مشكلة الولايات المتحدة انها كما يقول تشرشل في واحدة من أقواله المأثورة بانها تجرب  جميع الأخطاء لكي تصل الى الشيء الصحيح، ومع تجربتها في تأسيس تنظيم القاعدة لمحاربة الغزو السوفيتي في أفغانستان وضرب منطقته الرخوة في الجمهوريات السوفيتية الإسلامية كما خطط لها ونفذها زبينغيو بريجنسكي، مستشار الامن القومي الأمريكي في حكم الرئيس كارتر، تلقفها المحافظون الجدد، لتكون عصاهم في  صناعة خارطة الشرق الأوسط الجديد، لكن خروج بعض تطبيقاتهم عن الطاعة او حدود ما يمكن القبول به من شركاء واشنطن الاوربيين، جعل الانتقال الى الصفحة الأخرى في فرضيات الحرب على  داعش، تقوم على مساومات كبرى، ربما تنتهي بمؤتمر يالطا جديد.

في ضوء كل ما تقدم، لا يبدو ان الكثير من المثقفين العرب، لاسيما أولئك المؤدلجين بأفكار اسلاموية، باستطاعتهم التوافق مع هذه المعطيات التاريخية، بل ربما نجدهم يقفون بالضد منها تحت عنوان (نظرية المؤامرة)، لكن هل بالإمكان اليوم الاتيان بفرضيات غير تلك التي تفرزها المعطيات التاريخية لفهم ما يحصل في حاضرنا وتحليله لفهم المستقبل؟

الجواب البسيط على ذلك ان منهجية التحليل المستقبلي تبدأ دائما بالتاريخ لفهمه ومن ثم فرز نتاجه، وهذه الوقائع لا يمكن لها ان تكذب لأنها قد حصلت فعلا وليس قولا، وتبقى منهجية التحليل الميكافيلي التي تجتزئ من الحقيقة ما يصنع اعلاما زائفا لتسويق فنون الحرب النفسية ومنها ما يجري من حديث عن داعش وسواها فقط لمن يدفع أكثر وهذه مصيبة الكثير من المثقفين العرب ولله في خلقه شؤون.