مايزال منظرو الستراتيجيات والمتابعون لتطورات ما يجري في إسرائيل والمنطقة من أحداث ساخنة يتابعون بإهتمام بالغ مايجري من تطورات دراماتيكية ساخنة في المنطقة ، وفي إسرائيل على وجه التحديد ، وهم يؤشرون مدى الخسارات الباهضة التي تكبدتها إسرائيل أو ستتعرض لها في المستقبل القريب، وقد توصلوا الى حقيقة تكاد تكون مذهلة وصادمة وهي أن نتائج معركة طوفان الأقصى وحرب غزة ودروسها وقصص بطولاتها ومدى الإختراق الذي أحدثته معارك مقاتلي حماس وكتائب القسام في الجسد الإسرائيلي وقد أصابته بصدمة مروعة كانت معركة ثقيلة الوطأة على الكيان الصهيوني، أحدثت إختراقا مذهلا ومرعبا لإسطورة التفوق الإسرائيلي وعرت قادتها ومخططاتهم وما يرسمونه من سيناريوهات عن الإستراتيجية العسكرية الصهيونية وستبقى إسرائيل تعاني من ويلاتها وكوارثها الكثير .
أولى تلك المؤشرات الهامة التي توصل اليها خبراء الستراتيجيات العسكرية والأمنية والإستخبارية وحتى السياسية أن إسطورة الردع الشامل والتفوق التقني الألكتروني وبكل ما تمتلكه إسرائيل من أسلحة ردع وتفوق الكتروني وأسلحة ومعدات حربية متطورة ومعلومات إستخبارية قد تبخرت تماما ، ولم تعد لها تلك الهيبة ولا الامكانية للقدرة على المواجهة المستقبلية ، في مواجهة حرب عصابات جديدة إستخدمها مقاتلو حماس بأساليب حرب بسيطة وبعقليات تقنية عالية الدقة لتفكيك شبكة تحصينات وإنذارات شبكة الدفاع الإسرائيلية وقبتها الحديدية التي تم تأهيلها منذ سنوات، وكان الاعتقاد السائد انه من المستحيل إختراقها بهذا الشكل المروع الذي جرى في العمق الإسرائيلي.
ويقدر خبراء الستراتيجيات أن خسائر إسرائيل من ضباطها وجنودها ومستوطنيها قد وصل الى مايقرب من ألفي قتيل وأكثر من 5000 جريح ومصاب، وهناك أكثر من ٢٠٠ اسير بينهم ما لا يقل عن ٥٠ ضابط و٥٠ جندي لدى مقاتلي حماس ، وهذا الرقم في نظر إسرائيل يعد مرعبا وستضطرها لدفع تكاليف باهضة مقابل إطلاق سراحهم والإضطرار للإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ، ناهيك عن الآثار النفسية الخطيرة على المجتمع الإسرائيلي المصاب بصدمة الرعب.
بل أن هذه الحرب هي أكبر خسارة تلقتها إسرائيل على مدى حروبها مع العرب، وتركت مآس وويلات ومحن في الداخل الإسرائيلي لم يعد بالإمكان تحملها، وراح الكثيرون من المستوطنين يفكرون بالرحيل عن إسرائيل البلد الذي لم يعد آمنا، بل لم تتوفر فيه بعد الآن أبسط أشكال الأمان ، ماينذر لها بكوارث نزوح الى خارجها لم تشهد له إسرائيل طوال سبعين عاما.
كما فقدت إسرائيل سمعتها السياسية الأقليمية والدولية وتصاعدت الإنتقادات لسياساتها الاستعمارية الإستيطانية حتى داخل مجتمعاتها وقياداتها السياسية والأمنية والعسكرية خلافا لكل الاعراف والقوانين الدولية برغم ما واجهتها من هجمات كانت قاسية الوطأة وثقيلة عليها ولم يعد بالإمكان تحمل نتائجها الكارثية.
ومؤتمر قمة السلام التي عقدت في القاهرة برغم ظهور مساندة أوربية لإسرائيل ضد ما اقترفته من جرائم في غزة الا انها رفضت في المقابل عنتريات إسرائيل وسياستها الاقصائية ومحاولات إستهداف ممنهج للفلسطينيين ورفضت تشريدهم في المنافي كما كانت إسرائيل تأمل منهم أن يساندونها في هذه المحنة، وواجهت رفضا عربيا وأقليميا وحتى دوليا شديدا من محاولات تهجير الفلسطينيين واخراجهم من أرضهم وديارهم.
وفي هذه الأثناء فقدت إسرائيل آمالها بالتطبيع مع العرب وظهر ان التطبيع وهم وسراب لم يتحقق يوما، وهو في طور التلاشي والانهيار كما ان الدول التي طبعت معها في الخليج لم تؤمن بعد هي الأخرى بامكانية تحقيق سلام مع إسرائيل إن لم ترضح للحق العربي وتعترف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس رغما عن أنفها.
ومن الآثار الكارثية لهذه الحرب على إسرائيل أنها دمرت إقتصادها وأصابته بشلل تام وفقد الشيكل أكثر من 30 % من قيمته كما ان السياحة في إسرائيل أصيبت بإنتكاسة كبيرة وتحولت الى مظاهر إجلاء ونزوح منها أكثر من أن تكون مركزا لإستقبال السياح كما كانت عليه من قبل ومن دول مختلفة.
كما أن مستوطنات مثل عسقلان وسيديروت تم اخلاؤها تماما وعدد سكانها لا يقل عن ٦٨ الف مستوطن ولا يظن الكثيرون أن احدا منهم سيعود اليها في المدى المنظور، عدا عن آثار الهزيمة النفسية المرة والقاسية التي تجرعتها اسرائيل وتعرضت لها قواتها العسكرية والأمنية والإستخبارية التي أصيبت بإنتكاسات وإنهيارات لم تشهدها إسرائيل منذ حرب عام 1967 وما بعدها، بل انه حتى التعبئة والاحتياط لم يعد بالإمكان إستخدامها بشكل صحيح لعزوف الالاف منهم عن الإلتحاق بجبهات القتال خوفا من تعرضهم للموت والهلاك وكانت نتائج تلك الحرب كارثية في كل الأحوال.
لقد احتلت القضية الفلسطينية الان صدارة إهتمام المجتمع الدولي وشهدت عودة الروح المعنوية العالية لدى الشعوب العربية والاسلامية وعند احرار العالم ، وكلهم يطالبون إسرائيل بقوة بالإعتراف بالحق الشرعي الفلسطيني وحل الدولتين حتى بضمنها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهي دول حليفة لإسرائيل كسبيل وحيد لإنهاء مظاهر الحروب والعداوات بين إسرائيل وجيرانها العرب وأعلنوا تأييدهم لشعب فلسطين وحقه في إقامة دولته على أرضه ووطنه وعاصمته القدس الشرقية.
أما قضية مطالبة إسرائيل بإبعاد سكان غزة من أراضيهم وحتى سكان الصفة الغربية فقد أصبح أمرا مستهجنا ولا يلاقي أي قبول دولي ، وإنهارت كل محاولات إسرائيل لقلب الطاولة على الفلسطينيين برغم كل ما تعرضوا له من حملات إبادة وحشية من القوات العسكرية وآلة حربها العدوانية لارغام سكانها على الرحيل الا ان شعب فلسطين صامد ويرفض هو الآخر الرحيل عن أرضه مهما حاولت إسرائيل إرهابهم وتخويفهم من خلال توجيه ضربات شديدة لهم ، لكنهم صامدون الى النفس الأخير مادام فيهم عرق ينبض، كما يقولون.
كما أن قادة عسكريين أمريكيين وغربيين وحتى قادة أمنيين وعسكريين إسرائيليين ومن دول مختلفة وفي المنطقة يحذرون إسرائيل من مخاطر إقدامها على إجتياح غزة ومن كوارث لاتحمد عقباها إن تجرأت وتقدمت بآلة حربها ضد سكانها ، فستواجه معارك وحرب مدن لم تشهدها إسرائيل من قبل ، وستنقلب عليها وبالا ودروس مريرة وستقضي على بقية هيبتها..هذا إن بقيت لها (هيبة)أصلا.
إن معاهد ومراكز الدراسات الستراتيجية راحت تدرس معالم معركة طوفان الأقصى وتتعمق في التعرف على دلالاتها وتطوراتها وما تتركه من أحدث درامية ثقيلة الوطأة على إسرائيل وتشكل من وجهة نظرها إنتقالة نوعية فريدة في إستخدام وسائل ردع بسيطة في مواجهة طغيان إسرائيلي وإدعاءات بالتفوق والردع الشامل وإذا بتلك الأساطير تتهاوي وتنهار أمام عقول فلسطينية شابة ومبدعة رسمت معالم المستقبل الفلسطيني الجديد، وأظهرت للعرب والعالم أن قضيتهم لاتقبل المساومة أو النسيان، وقد أوصلوا صوتهم وصرختهم المدوية لكل العالم بأن من يحاول إطفاء جذوة النضال الفلسطيني المشروع من أجل إستعادة الحق المغتصب وانتهاك الكرامات قد ولى وإنتهى زمنه وزمن الخنوع والتطبيع بكل صنوفه وألوانه ، وها هي قامات الفلسطينيين ترتفع عاليا الى السماء برغم كل ما أصابهم من دمار وكوارث في غزة ومعهم الضمير العربي والإنساني ليفخر بأولئك الأبطال الميامين والعقول المتفتحة هيبة ومكانة وشموخا وعطاء معرفيا وعسكريا وإستخباريا، قد كتبوا بشارة نصرهم..وإن الله سبحانه وتعالى على نصرهم لقدير.
لقد أيقن القادة العرب أنهم بإمكانهم أن يتحدثوا الآن عن الحق الفلسطيني بلا خوف او وجل فقد إنتهى زمن الهزيمة وعاد لهم زمن الإنتصارات وعليهم أن لايبخلوا في دعم الحق الفلسطيني ويؤازروا إخوتهم الفلسطينيين في غزة وخارجها في هذه المحنة ويشدوا من عضدهم ويسعوا لايقاف الحرب الظالمة عليهم ويفكوا كل أشكال الحصارات عنها ويرفضوا محاولات تهجيرهم رفضا قاطعا لايقبل المساومة أو تقديم الإغراءات لهم ، لأنها ستنقلب عليهم وبالا إن تخلوا عن نصرة قضيتهم العادلة في فلسطين ولن تبقى لهم مكانة بين شعوبهم.
بل أن دروس معركة طوفان الأقصى قد ذهبت الى ما أبعد من ذلك وقد أشرت رفض الجماهير العربية لأية محاولات من حكامها العرب لممارسة سياسات التهجير الطائفي والعرقي أو الإستمرار بمنهج تغييب الآلاف من ابنائها أو قتلهم أو اعتقالهم ظلما وخلافا لكل القوانين والأنظمة، أو ممارسة الطغيان على شعوبها وإستعبادهم..وإذا ماكانت هناك أية محاولات تغيير ديموغرافي أو ترحيل أو تهجير قسري أو إعتقالات عشوائية في أية بقعة عريية بضمنها العراق فينبغي أن تنتهي الآن أيضا كونها ممارسات إجرامية وإنتهاكا لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية لاتقل خطورة عما ترتكبه إسرائيل من تلك الممارسات ضد الشعب الفلسطيني وأن توقن الحكومات العربية أن عهد تغييب الجماهير أو إستلاب عقولها أو التعدي على كرامات البشر قد ولى الى غير رجعة.
وفي ختام هذا الإستعراض المطول يمكن القول أن معركة طوفان الأقصى أصبحت قصصا تروي للعالم إسطورة البطولة والشجاعة والإقدام والتفوق للمقاتلين الفلسطينين وتحكي صور الصفحات المشرقة التي عبر بها المقاتلون عن قدرتهم على الإختراق والمفاجأة والتوغل في العمق الإسرائيلي ودك إسرائيل ومدنها في عقر دارها وفي قلب مدنها في تل أبيب والقدس ومطاراتها وموانئها بالصواريخ وأحدثت رعبا كبيرا سيظل الصهاينة يتذكرونه لسنوات..وستدرس مناهجها في الأكاديميات العسكرية العربية والدولية على أنها أساليب حرب لمعارك جديدة، ينبغي الوقوف عندها وعند دروسها البليغة..
وها هي أنظار العالم من أقصاه الى أقصاه تتابع قضية الشعل الفلسطيني العادلة وحقوقهم المشروعة وقد أسمعت من به صمم وهي تدعو للتعاطف معهم دوليا وإنسانيا حتى بضمنهم يهود ومنظمات يهودية في مختلف بقاع العالم وبخاصة في دول أوربا وأمريكا وفي أنحاء المعمورة.