لكي نعطي تصورا”أوليا”عما سيكون عليه حال المجتمع العراقي ، فيما لو رجّح خيار التقسيم الثلاثي على أسس قومية / عرقية ودينية / طائفية ، فإننا ملزمين باللجوء إلى مصطلح (الطوبوغرافيا) الذي يعد من المصطلحات المهمة في علم الجغرافيا ، وذلك لاعتقادنا انه يوضح طبيعة تضاريس الخارطة العراقية من منظور ايكولوجي – سوسيولوجي مشترك ، وأثر ذلك على نمط الصراعات والحروب بين دويلات – المدن المتوقع شروعها أثناء وبعد التقسيم ، وهو بالإضافة إلى ذلك يحيل في مدلوله إلى نظيره مصطلح (الجيوبولتيكا) ، حيث قيمة الأرض تقاس بمدى أهميتها السياسية والإستراتيجية للدولة / الأمة . بمعنى انه (= الطوبوغرافيا) يعكس الكيفية التي من خلالها يتوزع سكان العراق ضمن هذا الحيّز المكاني المحدد ، مع الأخذ بنظر الاعتبار نمط العلاقات الاجتماعية المتوقع تبلورها ، بالاستناد إلى نوع الثروات الطبيعية – الظاهرة والكامنة – وحجمها في إطار ذلك الحيّز . بداية إنه من مفارقات الطوبوغرافيا العراقية إن أمنا الطبيعة تواطأت مع الجغرافيا ضد المجتمع ، بمعنى إن توزيع مصادر الثروة الطبيعية على نمط الانتشار الديموغرافي / السكاني لم يكن منصفا”، بحيث ينال كل مكون من مكونات هذا المجتمع حصته العادلة من تلك الثروات ، وبالتالي تحقيق الاكتفاء الذاتي المتوازن بين تلك المكونات بما يضمن تفاعلها الاجتماعي وتواصلها الإنساني ، دون مشاكل سياسية أو عقبات اقتصادية . والواقع إن الحديث عن هذه المسألة بهذه الطريقة سيكون مدعاة للسخرية فيما لو كان الأمر متعلق بمجتمع يستظل بحماية دولة مركزية ذات سلطة مهابة ، تكفل للجميع حق التمتع يتلك الثروات على قدم المساواة بلا ضغائن ولا تشاحن ، ليس فقط بموجب الأنظمة والقوانين التي تسنها وتشرعها لحمية المصالح وصون الحقوق فحسب ، وإنما كذلك استنادا”طبيعتها المؤسسية والسيادية على كامل التراب الوطني ، دون أن تضع باعتبارها خصائص مواطنيها القومية / الاثنية ، والدينية / الطائفية ، والثقافية / الرمزية . بيد إن الوضعية ستأخذ منحا”مغايرا”حالما تظهر بوادر تفكك الدولة وتشظي المجتمع ، حينذاك يغدو تناول هذه القضايا من الأمور البديهية ، إن لم تكن ضرورة من الضرورات المصيرية . والحال إذا ما تأملنا توزيع مكونات المجتمع العراقي على ضوء تضاريس الخارطة الجغرافية ، سنلاحظ إن (المكون الكردي) اعتزل في الإقليم الشمالي ، وان (المكون العربي – الشيعي) استقر في الإقليم الجنوبي ، وان (المكون العربي- السني) اتخذ من الإقليم الغربي مستقرا”له – هناك بطبيعة الحال بعض الاستثناءات التي لا تخل بالقاعدة الطبوغرافية المذكورة ، من حيث تواجد جماعات كردية في الأقاليم الأخرى أو بالعكس تواجد جماعات عربية في الإقليم الشمالي – وبموازاة هذا التقسيم الجغرافي للسكان نجد إن توزيع مصادر الثروة الطبيعية اتجه صوب التركز في مناطق دون أخرى ، وتنوع في جهات دون غيرها ، بحيث إن البعض من تلك المكونات تمتع بأكثر من مصدر واحد من مصادر الثروة الطبيعية ، في حين حرم منها بشكل شبه تام البعض الآخر أو لم يحصل إلاّ على النزر اليسير منها . وهكذا ففيما كانت الطبيعة سخية وكريمة مع الإقليم الشمالي ؛ لجهة امتلاك (المكون الكردي) ليس فقط مصدر مهم من مصادر الثروة المائية في العراق – منابع نهر دجلة تأتي في معظمها من الإقليم الشمالي – بل وجزء لا يستهان به من مصادر الثروة النفطية – خصوصا”بعد السيطرة على حقول كركوك واحتمال حقول نفط خانة أيضا”- هذا بالإضافة إلى حيازتهم مصادر متنوعة من الثروة النباتية وخصوصية جغرافية جعلت من الإقليم عامل جذب للسياحة والاصطياف ، ناهيك بالطبع عن تحكمه بطرق التجارة الخارجية مع دول القوس الممتد من الشرق الإيراني إلى الغرب السوري مرورا”بالشمال التركي . وفيما يتعلق بنصيب الإقليم الجنوبي من مصادر الثروة الطبيعية ، فان حصة (المكون العربي – الشيعي) من الثروة النفطية تكاد تشكل حصة الأسد ، لاسيما وانه يضم حقول الرميلة في البصرة وحقول مجنون في ميسان ، التي تعتبر المساهم الأكبر في إيرادات الخزينة العراقية من العملة الصعبة ،هذا بالإضافة إلى تمتع الإقليم بمنفذ بحري مهم عبر شط العرب ، حيث يلعب دورا”حيويا”في تجارة العراق الخارجية عبر المحيطات ، فضلا”عن موقعه الجيويولتيكي المطل على دول الخليج العربي وإيران . وعلى الرغم من هذه الامتيازات الطبيعية والجغرافية التي يتمتع بها الإقليم الجنوبي إلاّ انه يعاني من شحة ملحوظة في مصادر الثروة المائية ، التي يمكن الاعتماد عليها لتأمين احتياجات المكون (العربي – الشيعي) منها ، لاسيما وان معظم موارده المائية تأتي من خارج حدود الإقليم ، الأمر الذي يشكل تهديدا”مؤرقا”لسكان الإقليم الذين يزاول معظمهم مهنة الزراعة منذ مئات السنين ، خصوصا”في حالة حصول أية مشاكل مع جارتيه المقبلتين دولتي الإقليم الشمالي والغربي ، وليست بعيدة معاناة أهل هذا الإقليم حينما عمدت إيران إلى تحويل
مجرى الأنهار (الكارون ، والكرخة ، ودويريج) ، التي تنبع من أراضيها وتصب في أراضي الإقليم الجنوبي . وإذا ما يمننا وجهنا شطر الإقليم الغربي الذي يقطنه الغالبية العظمى من المكون (العربي – السني) ، فان الأمور ستبدو أسوأ فيما لو قارناها بأوضاع الإقليمين الآخرين ؛ إن من حيث وفرة المصادر المائية ، أو من حيث امتلاكه للمصادر النفطية . فإذا ما نظرنا إلى حصته من الأولى فان كل ما بحوزته منها هو نتاج اتفاقيات دولية تسمح للدول المتشاطئة الاستفادة العادلة من تلك الثروة ، إلاّ إن مصيره في هذا الجانب سيكون مرهون بمواقف الحكومة التركية التي تعتبر دولة المنبع الوحيدة لمصادر نهر الفرات . حيث شهد سكان هذا الإقليم – فضلا”عن سكان الإقليم الجنوبي حيث يعتمد سكان بعض المحافظات على مياه نهر الفرات – في سبعينات القرن الماضي شحة كبيرة تسببت بحصول أضرار اقتصادية فادحة كادت أن تفضي بحصول أزمة سياسية خطيرة ، لولا تدخل بعض الأطراف الدولية والإقليمية لحل تلك الأزمة عبر الجهود الدبلوماسية . هذا فيما تشكل حصته من الثروة النفطية ما يعادل (الصفر) ، باستثناء حيازته على بعض الثروات المعدنية (الفوسفات) ، ذات القيمة (المردود) الأوطئ اقتصاديا”بالمقارنة مع مردود الثروة النفطية . أما لناحية طرق التجارة الخارجية باتجاه الغرب حيث دولتي (سوريا) و(الأردن) ، فانه وان كان يشرف كليا”عليها فهي لا تضاهي – خصوصا”بعد أحداث سوريا – من حيث القيمة الاقتصادية والأهمية والتجارية ، ما يتمتعان به كل من الإقليمين الشمالي لجهة تركيا والبحر الأبيض المتوسط ، والجنوبي لجهة إيران ودول الخليج العربي . وبصرف النظر عن الطابع الاختزالي والمبتسر للمعلومات والتفاصيل التي أوردناها ، فان هذا يعد كافيا”لإعطائنا تصورا”افتراضيا”لما هو متوقع أن تشهده العلاقات بين تلك الدويلات – المدن ، من نزاعات حدودية مستمرة وصراعات جيوبولتيكية متواصلة ، على خلفية التوزيع غير المتكافئ للجغرافيات التي كانت موحدة والثروات التي كانت مشتركة . ولعل الأمور قد تكون أهون وأيسر لو أن المشاكل ستقتصر على تلك المتعلقة بالمساحات الجغرافية والامتيازات الطبيعية ، إنما ستبرز إلى السطح قضايا دينية واجتماعية وثقافية ونفسية لم تكن تخطر على بال ، لاسيما وان لكل إقليم من تلك الأقاليم المزمع استحالتها إلى دول مستقلة ، توجهات ايديولوجية ورمزية مختلفة في إطار مجالها الحيوي . ففي الوقت الذي ستتجه فيه دولة (الجنوب – الشيعي) صوب إيران لتحاكي نمط نظامها السياسي القائم على ولاية الفقيه ، وما يترتب عليه من علاقات داخلية متشددة وتطلعات خارجية توسعية . فان اتجاه دولة (الغرب – السني) سيكون نحو دولة السعودية ، لينسج على منوال نظامها السياسي ذي التوجه الإسلامي المحافظ ، إن لم يشتط في نزعة العدوان والتطرف ، وخصوصا”بعد أن دخلت الجماعات الأصولية (داعش وأخواتها) على خط الإسلام السياسي . هذا في حين سينعطف بندول دولة (الشمال – الكردي) صوب العالم الغربي – الأمريكي عبر ومن خلال الجارة تركيا ، بعد أن تم ترويض هذه الأخيرة لقبول قيام دولة كردية بجانبها ، مقابل تخفيف غلواء عناصر الحزب الكردي في الجنوب التركي ، حيث تتوخى من ذلك استنساخ تجربة (النمط الامارتي) في التحديث والعصرنة ، بعيدا”عن همجية عرب العراق (القديم) وتطرفهم المذهبي . وهكذا نكون أمام خارطة مفبركة تم العبث بتضاريسها على نحو أريد به أن تكون مصدرا”دائما”للصراعات الطائفية والحروب السياسية بين دويلات – المدن ما بعد العراق القوي والموحد !! .