7 أبريل، 2024 2:00 م
Search
Close this search box.

طوباوية الدولة الدينية

Facebook
Twitter
LinkedIn

أول نشأة الدول في التاريخ، هي دويلات المدن، بسبب الأنشطة الزراعية لدى المجتمعات البشرية، وظهور أنظمة الري، وكذلك التعبئة العامة من أجل التجنيد ومواجهة الغزاة، وما عرف العالم نظام الدولة الحديثة، التي تمتلك نظام حكم محدد ،وحدود جغرافية معلومة ،ونظام إداري واستقلال ذاتي، إلا في أوربا في العصور الوسطى، عندما أسس الأمراء لأنفسهم أنظمة بيروقراطية، والذي تطور حتى أصبح اليوم ما يعرف بالدولة.

والاغلب الأعم من هذه الدول التي طوتها الأزمنة الغابرة، أو ماهو قائم منها اليوم، هي دول سياسية أو مدنية، حيث أنها من صنع البشر،اخترعتها عقولهم، ونفذوها بوحي إرادتهم وتفكيرهم ،مستهدين في ذلك بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية التي تحرك المجتمع، وهم ينشئون نظمها، ويشرعون دساتيرها والقوانين التي تلائم ظروف بيئتهم.

أما الدولة الدينية، فهي التي يختار رأسها الله سبحانه وتعالى، كتمليك طالوت في بني إسرائيل، كما في قوله تعالى ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ) البقرة 247، أو داود عليه السلام كما في قوله تعالى ( ِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) البقرة 251 ،أو سليمان عليه السلام كما في قوله تعالى (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي )ص 20 ،والدولة التي أقامها الرسول محمد صلى الله عليه و آله، كما في قوله تعالى ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) النساء 59 ويجب ان يبقى رأس الدولة الدينية على اتصال بالسماءطيلة حياته، وطاعته واجبة كما في قوله تعالى (ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ ) الحشر 7 بعكس الدولة السياسية أو المدنية، التي يقف على رأسها شخص عادي كبقية البشر، فلا وحي ينزل عليه، وليس له صلة بالله سبحانه وتعالى.

ويطلق مثقفوا أوربا وصف الدولة الدينية، على الدولة الثيوقراطية (الكهنوتية )التي حكمت أوربا في القرون الوسطى عصر الظلام، عندما كانت الكنيسة مسيطرة على مقاليد الأمور؛ فاوهمت الشعوب أن الحاكم أو الملك هو ظل الله في الأرض، وهو الناطق باسم الذات الإلهية ولا يجوز مخالفته وعصيانه مهما كانت الأوامر الصادرة منه، وتعد أوامر إلهية لايجوز مناقشتها.

والإسلاميون يتنكرون بشدة لهذه الدولة، ويقولون أن الدولة الدينية في الإسلام ليست كما هي الدولة الثيوقراطية في أوربا، فيقول محمد عبدة (الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية التي عرفتها أوربا فليس في الإسلام سلطة دينية إلا سلطة الموعظة الحسنة والدعوى إلى الخير والتنفير من الشر وهي سلطة خولها الله تعالى إلى كل عباده ادناهم اعلاهم والأمة هي التي تولي الحاكم وهي صاحبة الحق في السيطرة ) .

وهذا القول جميل جدا في جانبه النظري ،ولا أعتقد يختلف عليه اثنان، مهما كانت منطلقاتهم الفكرية والعقدية ،ولكن في الجانب العملي والتطبيقي، لم نرى فرقا ذي أثر بينها وبين الدولة الدينية في الإسلام ، وأي متصفح في التاريخ ،يجد أن نظام الخلافة في الإسلام أشد وطأة واكثر دموية من محاكم التفتيش في أوربا ،فإذا كانت محاكم التفتيش في أوربا تصدر أحكام القتل والحرق على العلماء بحجة الهطرقة، كانت الخلافة الإسلامية تصدر أحكام القتل والصلب على العلماء بحجة الزندقة كما حدث مع ابن المقفع والحلاج والسهروردي ،وكان وعاظ السلاطين يصدرون الفتوى، بعدم جواز الخروج على السلطان الجائر حتى وإن (جلد ظهرك وأخذ مالك فاسمع له وأطع ) ،والتي منعت أي معارضة للسلطة حتى وإن كانت هذه السلطة بعيدة كل البعد عن الدين ،والمعارض لها يجسد الإيمان بكل معانيه، بل هو الإيمان بذاته ، فقتل الامام الحسين بن علي عليهما السلام،لأنه رفض بيعة يزيد بن معاوية، وعذب الإمام مالك لمجرد أنه المح إلى عدم صحة مبايعة المكره ،وسجن الإمام أحمد بن حنبل ،لمجرد قوله إن القرآن الكريم أزلي غير مخلوق .

والأمر لايختصر على حوادث تاريخية حدثت في الماضي، بل ان دموية الدولة الدينية اليوم أشد فتكا بمعارضيها من السابق، وما سفك من دماء خلال الخمسين عاما الأخيرة، في تجربة الدولة الدينية في السعودية أو إيران أو أفغانستان أو مصر في عهد الإخوان ، أكثر مما سفك من دماء عبر التاريخ الإسلامي منذ أربعة عشر قرنا ،وفاق التعذيب الجسدي والنفسي حد التصور،فلم اسمع بالتاريخ الإسلامي أن أحد حكم عليه بسمل العيون، أو بالحرق أو تقطيع الاوصال ،وفي عصرنا الحالي، عصر النهضة والتنور حدثت مثل هذه الأحكام مراراً.

علما ان ادعاء الإمامة العامة للمسلمين بدون نص سماوي، هو في حكم ادعاء النبوة بغير وحي من السماء، بدليل قوله تعالى ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) البقرة 124أي أن الجعل لامامة إبراهيم عليه السلام من الله سبحانه وتعالى، ومن بعد ابراهيم عليه السلام، لايوجد تخويل

للأمة باختيار ائمتها ،بل اقتصر هذا الحق فقط على المعصومين اللذين لا يظلمون أحد من الناس ،هم وحدهم ينالون عهد الله.

لقد أصيبت الأمة الإسلامية بمرض خطير هو فصام الشخصية، وكان أشد ظهورا في الإسلام السياسي، حيث جنح إلى انتخاب بعض حوادث الماضي وغفل عن معظمها، أو قطع أوصال التاريخ فقدم بعضها وضرب بالنسيان عن الأخرى، مما اوقعهم في لجج الاحلام، والحذر من مواجهة واقع السياسة الدولية والعالمية، بل دعو إلى تغيير هذا الواقع، بدعوى أن الإسلام لديه الحل لكل مشاكل العالم، مع علمهم انهم عاجزون عن حل مشكلة واحدة من مشاكل المسلمين المزمنة كالطائفية مثلا ،هذه الأسباب وغيرها اغرت الإسلام السياسي بطرح نظام الخلافة الإسلامية كنظام حكم يجب تطبيقه، وكفر كل من يعارضه من المسلمين، وافتى بجهاد العدو القريب وهو حكومات الدول الإسلامية؛ قبل العدو البعيد وهو الصهيونية والدول الغربية.

وفي الأصل لم يدعو القرآن الكريم ولا السنة المحمدية للخلافة الإسلامية ، بل إن هذة النظام هدر وعبر قرون من قيامه، كل مبادئ الشريعة الإسلامية والحرية والعدالة والمساواة، ثم صيره إلى نظام وراثي، أسوء من حكم القياصرة والاكاسرة في التفريط في حقوق الناس والظلم والطغيان والاستبداد.

وقد اتفقت كلمة الشيعة وعبر قرون، على عدم مشروعية أي دولة في زمن الغيبة من الناحية الدينية، بدليل عشرات الروايات، منها ما رواه النعماني في كتاب الغيبة (كل راية ترفع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله )وكذلك (كل بيعة قبل ظهور القائم فإنها بيعة كفر ونفاق وخديعة )،إلى أن رفض الإمام الخميني هذا المبدأ، فقال في كتابه الحكومة الإسلامية ص86 (اذا كنا نعتقد ان الأحكام التي تخص بناء الحكومة الإسلامية لاتزال مستمرة، وأن الشريعة تنبذ الفوضى، كان لزاما علينا تشكيل الحكومة الإسلامية، وأن العقل يحكم بضرورة ذلك. … ).

وأقول أن أحكام الزكاة والنكاح والارث والحدود والديات والقضاء وغيرها موجودة في القرآن وتزخر كتب الحديث باحكامها ،ولكن أحكام الحكومة الإسلامية غير موجودة لا بالقرآن الكريم ولا في السنة المدونة حاليا ،فلا وجود لنوع النظام الإسلامي هل هو جمهوري أو ملكي، هل هو برلماني أو رئاسي،أو كيفية اختيار رأس الدولة بالانتخابات أو غيرها، ولانعرف القوانين الساندة أو المقومة لهذا النظام، كقانون الجنسية والتجنيد والتأمين والضمان الاجتماعي وغيرها ، ولانعرف ماهي حدود هذه الدولة،كل ذلك لا يعلمه إلا المعصوم ،أما تعطيل الأحكام فهو قائم حتى اليوم في إيران وغيرها، مثل اقامة الحدود وكذلك صلاة العيد والجمعة، فهي واجبة في زمن الظهور، أما اليوم فهي مستحبة، أي ان عدم المشروعية قائم، وإطلاق تسمية الإسلامية على حكومة ما، لا يضفي عليها الشرعية الدينية، وهذه الحقيقة لا تلغى بشنشنة الصياغات اللفظية ولا طنطنة التركيبات الكلامية ،وأقصى ما يستطيع فعله المؤمنون اليوم ، هو عدم تشريع قانون يخالف نصوص الشريعة الإسلامية.

[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب