طه التميمي.. شاعر الضمير الشعبي وصوت الطبقة الكادحة

طه التميمي.. شاعر الضمير الشعبي وصوت الطبقة الكادحة

في بساتين الشعر الشعبي العراقي، حيث تنمو القصيدة على ضفاف الألم والأمل، ينهض اسم الشاعر طه جواد كاظم التميمي كوردة برّية لا تخشى العواصف. ولد عام 1948 في مدينة سدة الهندية من محافظة بابل، وفي بيت تشرّب الشعر كما يتشرّب القصب ماء الفرات، إذ أن جميع إخوته الخمسة شعراء، ولكل منهم في دفتر الحلة صفحة وبصمة. من هناك، بدأت حكاية طفل جسور، كانت الجرأة قرين صوته، والشعر نبرته المبكرة.

ظهر طه التميمي في ستينيات العراق شاعراً يكتب للفقراء ومنهم، ويغني للناس وبهم، فصار لسان حال الطبقة العاملة التي انتمى إليها عملياً وشعرياً، بعدما عمل في المصانع الحكومية، فحمل هموم العمال إلى قصائده، وألبس الكلمات بزته الزرقاء، وتغنّى بحبر الرفاق وسخام الأفران.

لم يكمل التميمي دراسته لأسباب اقتصادية، لكن الحياة منحته من معارفها ما لم تمنحه المدارس. قرأ كثيراً، ونهل من ينابيع الفكر اليساري ما شكّل وعيه الطبقي، وصار الشعر عنده طريقاً لمساءلة الوجود، وحفر المعنى، ومجابهة التسلط. كتب الفصيح والشعبي، ونشرت قصائده في مجلات وصحف عراقية معروفة كـ”طريق الشعب” و”الراصد” و “كل شيء” و”صوت الفلاح”، وغيرها.

في عام 1972، أصبح عضواً في جمعية الشعراء الشعبيين، وسرعان ما انتُخب عضواً في هيئتها الإدارية، وكان لاحقاً من بين الفاعلين في إعادة تشكيل اتحاد الشعراء الشعبيين بعد سقوط النظام عام 2003. وعلى الرغم من أن جلّ دواوينه لم تر النور إلا متأخرة، إلا أن من قرأ مسوداتها — ومنهم النقاد والباحثون — وجد فيها نضجاً شعرياً وموقفاً إنسانياً نادراً.

ديوانه “غنه السماچ”.. حين تغني الضفادع باسم الحرية

في مقدمة ديوانه “غنه السماچ”، يقول الباحث صباح محس جاسم: “يفصح الشاعر طه التميمي عن تجربته المميزة في بواطن الشعر الشعبي العراقي من حيث جدة المفردة وكثافة المعنى وحسن تراكيب الكلمات… والقصائد تقدم اقتراحاً جمالياً يتخذ من العمل بطلاً ومن التحدي سياقاً شعرياً، حيث تضج النصوص بتفاصيل أرض ما بين النهرين المتفائلة بالغد المشرق والمستقبل الطافح بالخبز والوفاء.”

الإهداء وحده يلخّص مشروعه الشعري: “إلى بذلتي الزرقاء وعيون الزوجة الرفيقة”. هكذا، يصوغ شاعرنا الهوية الشعرية من قلب المعاناة لا من رخام الترف، ويغزل القصيدة من أنوال العرق ودموع الحبيبة المكافحة.

 

يتعمد أن يبدأ ديوانه بـ”السؤال”، وينهيه بـ”لا تتعجب”، وكأن بين الافتتاح والخاتمة حياةً كاملة من الذكرى والانكسار والمجابهة، بين ولادة القصيدة وصرخة العامل، بين الحب والخذلان، وبين الحلم واصطدامه بجدران الواقع.

الناقد علي الربيعي يضعه في طليعة الجيل الستيني الذي أغرق القصيدة الشعبية في حداثتها، قائلاً: “جيله الستيني أغرق القصيدة الشعبية بحركة وجماليات وانتقالات، وتحرّرت معه من كلاسيكيتها الشكلية والمضمونية.”

ومثلما كانت قصائد الجواهري مرآة للوجدان القومي، ومثلما كان مظفر النواب رسول المظلومين، فإن طه التميمي ظلّ صدى لضحكة الأطفال المقهورين وصرخات الأرامل والعمّال. حين يكتب عن الحب، يكتبه كتحدٍ للفقر. وحين يكتب عن الوطن، لا يرى فيه شعاراً، بل بيتاً تقف فيه الأم على الباب، وتحمل فيه البنت دفاتر المدرسة وهي تمشي بين حفر الحرب.

الشاعر الذي يخاطب الضفادع وينام على صوتها

في نصوصه، لا يكاد يخلو بيتٌ من رمز أو صورة أو انزياح. لا يهرب من الواقع، لكنه يحلّق في أحلامه، يتكئ على صدى الطبول في ساحة المصنع، ويحاور الضفادع في غناءٍ صوفيّ يشبه تمتمة الرهبان. يشتاق، لكنه لا يئن. يتألم، لكنه لا يستسلم. وفي قصائده نجد دعوة للمقاومة النبيلة، ورفضاً للعدمية، وتغنياً بالحب كقوة مغيرة.

وعندما يصرخ في آخر ديوانه:

    “لا تتعجب … لو ظهرك من همك حدب… لا تتعجب”

    فهو لا يطلق صرخة يأس، بل يشير إلى مفارقة عراقية غائرة: أن الخيبة قديمة، لكن الأمل لا يموت، وأن العظم قد ينكسر لكنه لا يركع، وأن الشاعر، في النهاية، هو عين الناس ولسانهم وحارس بوحهم.

مؤلفاته.. ترسيم لهوية شعرية وطنية

لم يكتفِ التميمي بديوان أو اثنين، بل نسج عدة مجاميع شعرية توزعت بين المطبوع والمخطوط، منها: غنه السماچ، السديات، أحلام الفرات، أطياف ناعسة، عطر الطفوف، هوه جويريد، كلثوميات عراقية، أبجدية الأمثال في الأدب الشعبي.

وكلها تشترك في ملمحين ثابتين: انحياز واضح إلى الإنسان البسيط، وصياغة شعرية عالية تغتني بالصور والمجاز والتقنيات الحداثوية.

طه التميمي.. شاعر لا ينتهي

طه التميمي ليس مجرد شاعر شعبي عراقي، بل هو صوت ينقش الشعر على جدران المعمل، ويرسم القصيدة بعرق الكادحين، ويضيء بالحرف عتمة الواقع. هو ناي حزين في سوق مزدحم، وجرس إنذار لا يعرف الصمت، وضمير شعري لا ينفصل عن همّ الناس، وهمّ الوطن.

لقد كتب كما يعيش، وعاش كما يكتب: مشتبكاً مع الحياة، شاهداً على زمنٍ متقلّب، ومصرّاً على أن يجعل من الشعر فسحةً للفرح، حتى لو كان الفرح مؤجلاً.

وحقٌّ له، كما قال في ديوانه:

    “احنه نهر ألما يجف فد يوم مايه”

    فهو وشعره، ماؤه العراق، وضياؤه تلك الأغنية التي لم تكتمل بعد، لكنها لا تتوقف.

ومن شعره قصيدة بعنوان (خبز فقره) تناول فيها الوضع الراهن في العراق والمعاناة الشعبية جراء الفساد المالي وضعف القيادات الحكومية في أدارة البلاد، وفيها كثير من الصور الناطقة عن طبيعة أوضاع العراقيين والمأساة التي يعيشونها في ظل الوضع المتردي والإهمال المتعمد منها:

حط ماي وملـــــــح لو شفت حيــــة بيت*وأمن ما تضرك هــــاي بالفطره

وگالوا عن حرامي مـــــــا يخون الـــزاد*من ياكل أبيتك يحفــــــظ العشره

شفنــاهه وسمــعنه اقريـــنه بالأمـــــــثال*درس نافع وره رحلات المــغبره

طبيـــعة گاعــــــنه مسكـــيه بالـــــنهرين*واكتار النـهر مشهوره بالخضره

يعني الخير عدنه وأحنه أهـــــــــل الخير*وتنور السلف ما بيـه غني وفقره

يشــور زادنـــه بيـه الملـــــــح والمــــاي*ويعثر أعراگنه كلمـن سرق تبره

نفطنه بالوصايــه أو حصص جــــسمتوه*وما حصلنه من كبش النذر وذره

لأن نحچي الحقيقة وردنه خيــــر الناس*وشخصنه العگارب سوده وصفره

وگلنـــه يــا حرامي البيت مـــا نحــــتاج*دعمك للبطاقة أو واضـحة الشفره

أنتــه أعــرف بنفسك خنت ملـــــح الزاد*وأنته أعرف أبيتك ما يضم وأدره

جنسيتين عندك لــــــو صـــرت مطلوب*حضرت الجواز وناوي عالـطفره

أبطوس الوطن ما يحلب ولائك صــــاغ*طعم اللبن يبقه أبمــــــعدن الخثره

أحگوگ الناس لــو ضاعت تريد حلوگ*وأحنه أحلوگهه وكل بايگ نخبره

وقصيدته الأخرى “تهاده الليل” عبر من خلالها عن نزعته الى المناظر الطبيعية الخلابة ويصف فيها منطقته وما يحيط بها من أنهار وأشجار:
تهاده الليل واترامه السكون    ايداعب الشاطي بحلم نسمه
انه واشباچ همي انسافر المشحوف  من شح الضحك بسمه
واجـــــن طــــــــــــــيور فضيات
ما يقرن غــــــزل مكتوب أميات
واحد ريشة مـــــــــــــــــــن بلور
واحــــــــــــــد فوگ راسي ايدور
واحد ظل يغني وياي نفس الطور
يا مي النهر گاعـــك حسدها البور
يا ماي النهر تعبت چــــم ناعور
يا مي ….. وسكت وياي
             من شاف الليالي ادور
صاح ومحد يفهمه
مدري الروجة خرسه وماحچت اسمه
مدري النسمة
نزعت ثوبها النسمه
مدري السمچ يتثاوب ضحك طرشان
ما لم الشبچ جسمه!…

أحدث المقالات

أحدث المقالات