19 ديسمبر، 2024 1:53 ص

طموحـات إيران النوويـة

طموحـات إيران النوويـة

مـن بين الإخطار التي تتهدد العالم اليوم ، يلوح شبح البرنامج النووي الإيراني فوقها جميعاً . وهذا طبيعي ، لأن إيران إذا ما تمكنت من حيازة سلاح نووي فقد تشكل خطراً على إسرائيل التي لا تعترف بوجودها أصلا وتبتز الدول الصغيرة المجاورة لها وربما قد تمنع الولايات المتحدة من الإيفاء بوعودها بتوفير ضمانات أمنية لدول المنطقة أو حتى بسط نفوذها على الخليج العربـي .
  وقـد تشجع إيران النووية كذلك على أثارة قلاقل سياسية في مختلف إرجاء الشرق الأوسط وعلى الأخص في الدول التي تضم أقليات شيعية كبيرة . أضف إلى ذلك أذا نجحت إيران في الاستمرار بتحدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومطالبات مجلس الأمن بالإيفاء بالتزاماتها المتعلقة بحظر انتشار الأسلحة النووية ، فأن فعالية نظام منع الانتشار النووي نفسه قد تضعف بشكل ينذر بالخطر ، إذ سيظهر المجتمع الدولي وبشكل خاص مجلس الأمن كما انه غير راغب أو غير قادر بوضع قوانين دولية حيوية موضع التنفيذ . وبذلك سيبدو العالم أكثر اضطراباً من أي وقت مضـى .
  إن رغبـة إيران بامتلاك تقنية محددة يمكن استخدامها لإغراض عسكرية تثير عدداً من القضايا المختلف عليها في المجتمع الدولـي . القضايا الخاصة منها تتعلق بوضع إيران الخاص كدولة انقلابية متهمة برعاية الإرهاب وتقع في منطقة جيو سياسية حساسة شهدت ثلاث حروب … وقد تضاعفت المخاطر لأن العلاقة بين الإرهاب والانتشار النووي والدول المارقة وأسلحة الدمار الشامل أصبحت القضية الأمنية الأكثر أثار للقلق منذ هجمات 11/أيلول . والحربان في أفغانستان والعراق من وجهة النظر الأميركية على الأقل تشهدان على حقيقة أن الانتشار النووي والإرهاب ودور الدول المارقة تشكل تهديدان ينبغي التعامل معها بسرعة وحزم . وبحسب وجهة النظر هذه تبدو العلاقة بين التطرف والتكنولوجيا على درجة عالية من الخطورة بالنسبة للاعبين قد لا يمكن ردعهم . وقد تمثل الرد الأميركي في الشرق الأوسط على نحو خاص على شكل هجوم دفاعي وضربات استباقية وتغيير الأنظمـة …
  إمـا القضايا العامة التي يثيرها سعي إيران لامتلاك التقنية النووية فتتضمن الانهيار المحتمل لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية والاعتراف بــأن هذه المعاهدة تسمح للدول بالاقتراب من حيازة أسلحة نووية … لهذا السبب تثير الحاجة لسد الثغرات في المعاهدة وتقوية إجراءات فرضها تحديات سياسية كبرى إمام المجتمع الدولـي .
  لا تكمـن صعوبة المسألة ببساطة في أن الدول التي تسعى لامتلاك التكنولوجيا التي تقربها من صنع قنبلة نووية هي دول شريرة وخارجة عن القانون بل في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية نفسها لأنها كانت دوماً معاهدة ذات وجهين ، فهي تشجع التكنولوجيا النووية (الفقرة الرابعة) وحظر انتشار الاسلحة النووية في آن واحـد ..
  مـن هنا ، فأن سعـي إيران للحصول على التكنولوجيا النووية يتكشف فـي مكان وزمان فائقي الحساسية . وبسعيها هذا ـ بالرغم من ادعائها الرسمي بالالتزام بالمعاهدة واستخدام الدبلوماسية وتبني خطاب دولة مظلومة مسلحة تسليحاً غير نووي تطالب ببساطة بحقها بموجب المـــــــادة الرابعة من المعاهدة ـ تضع إيران المعاهدة ومؤيديها معاً تحت الاختبـار .
  اكتـشفت الجمهورية الإسلامية الإيرانية فائدة الطاقة النووية في نهاية حربها مع العراق ، فسعت لإعادة أحياء مشروع بو شهر النووي غير المكتمل بالرغم من قصفه من قبـل العراق وتخلي الخبراء الألمان عنه . وعندما رفضت ألمانيا بضغط من الولايات المتحدة الأميركية استئناف بناء وإنهاء المشروع تحولت إيران إلى الاتحاد السوفيتـي ( السـابق ) وكانت الفكرة هي محاولة دمج التكنولوجيا السوفيتية النووية مع الأساسات الموجودة المنشأة من قبل ألمانيـا .
  وهكـذا أصبح الاعتماد على المساعدة السوفيتية والصينية لاحقاً جزءاً من برنامج إيران النووي خلال التسعينيات . فـي تلك الإثناء وضعت إيران برنامجاً طموحاً وطويل الأمد من اجل بناء مصانع للطاقة النووية مع أعطاء سبب جوهري لذلك ، وهو التوصل إلى الاكتفاء الذاتي من الطاقة … علماً أن إيران كانت على اتصال مع شبكة عبد القدير خان منذ الثمانينات بغية إعطاء برنامجها الناشئ مساراً جديـداً .
  لقـد تأثرت نظرة إيران إلى الاسلحة النووية بالدروس التي استقتها من حربها مع العراق وخاصة فـي ما يتعلق بالاعتماد على الذات .. كما أن التدقيق فـي رد فعل المجتمع الدولي على حالة كوريا الشمالية فـي العام 1994 قدم لها درساً آخر إذ لم يوح رد مجلس الأمن على تلك الأزمة بوجود أية مخاطر زائدة فـي ما يتعلق بتطوير أسلحة نووية أو مجتمعية مجابهة ذلك بجبهة موحدة في ذلك المجلس . ومن حسن حظ إيران أن إصدارها خلال التسعينيات على أن الاتهامات الأميركية المتعلقة ببرنامجها النووي كانت ناجمة عن عدائهما المتبادل بدا معقولاً للبعض حيث قوبلت محاولات الولايات المتحدة لإيقاف التكنولوجيا النووية إلى برنامج إيران النووي السلمي كما تدعي بمجرد انفتاح غير منسجم من قبل موسكو وبكيـن .
  إن أعـادة تفعيل البرنامج النووي الإيراني في منتصف الحرب العراقية ـ الإيرانية وتحت ظروف معاكسة كانت بسبب دوافع أمنيـة . لكن التهديد النووي لـ صدام حسين أزيل أو تم احتواءه على الأقل بحلول العام 1991 أي قبل فترة طويلة من انطلاق البرنامج الإيراني مما يوحي بأن الدافع المستمر وراء هذا البرنامج كان ناتجاً عن رغبة حذرة وغامضة بتحصين الذات ضد مستقبل غير مضمـون .
  وفـي التسعينيات عندما فقدت الثورة الإسلامية بريقها بالنسبة لمؤيديها في الداخل والخارج على حد سواء ، ظهر الخيار النووي كمخرج لأزمة النظام مسألة يُحشد حولها الرأي القومي مما يمنح النظام الشرعية اللازمة لدوامـه ..
  إن البـرنامج النووي الإيراني كان بمعنى من المعاني يمثل بحثاً عن سبب جوهري تطور مع الأيام من التحصين ضد العراق إلى الاستقلالية في مجال الطاقة ومن الهيبة الإقليمية إلى ردع الولايات المتحدة …
  زادت إيـران من وتيرة العمل في برنامجها النووي فــــي العام 1999 ، وفـي منتصف العام 2002 ، انكشف الدافع غير المصرح به للتخصيب أو امتلاك القدرة النووية من خلال المعلومات المفاجئة التـي كشفت عن وجود مرافق غير معلنة لإنتاج دورة وقود نووي في إيران وهذه المرافق ذات قيمة عالية بالنسبة لتصنيع الاسلحة النووية رغم أن فائدتها الاقتصادية غير أكيـدة .
  إن المعـلومات التي كشفت عن أنشطة إيران السرية حفزت الوكالة الدوليــة للطاقة الذرية على التحرك ، فزار مديرها العام طهران في شباط/2003 ، وتلت الزيارة عمليات التفتيش . وفي أيلول طالب مجلس محافظي الوكالة الدوليـة إيران بضمان الامتثال الكامل لاتفاقية السلامة عبر اتخاذ كل الإجراءات اللازمة بحلول نهايـة ت1/2003 .
  وطُـلب من إيران تعليق كل أنشطة التخصيب النووي والمصادقة على البروتوكول الإضافي وتنفيذه من اجل عمليات التفتيش المعـززة .
  وتـحت الضغط والتهديد بالإحالة إلى مجلس الأمن واحتمال قيام الولايات المتحدة برد عسكري قبلت إيران اتفاقاً مع النرويكا الأوروبية في طهران فعلقت التخصيب طوال مدة المفاوضات ووقعَّت ونفذت البرتوكول الإضافي . بالمقابل سعت إيران إلى تطبيع علاقاتها مع الوكالة الدولية والى سحب ملفها النووي بسرعـة .
  لقـد تعاونت إيران مع الوكالة الدولية لكنها بقيت مصرة على استئناف التخصيب وحافظت على عدم شفافيتها بخصوص بعض جوانب برنامجها النووي . وعندما سعت طهران إلى تعريف حقوقها لتشمل أنشطتها المتعلقة بتخصيب اليورانيوم التي يعتبرها شركاؤها في المفاوضات معلَّقة ، جاءت اتفاقية باريس في تشرين الثاني/2004 ، لتحل محل اتفاقية طهران في ت1/2003 ، فسدت كل الثغرات المتعلقة بالأنشطة التي لها صلة بالتخصيب . وفـي حزيران/2005 ، سلمت إيران إخطارا بنيتها استئناف أنشطة التحويل ورفضت مجموعة واسعة من الحوافز المقترحة من قبل الدول الأوروبية واستأنفت أنشطتها في شهر آب من تلك السنة . علاوة على ذلك ، تبنت الحكومة الإيرانيـة الجديدة لهجة أكثر عدوانية من سابقتها . وفـي كانون الثاني/2006 استأنفت إيران أبحاثها في مجال التخصيب متجاهلة قرارات قوية من قبل الوكالة الدولية تهدد بإحالة ملفها إلى مجلس الأمن فقررت الوكالة الدولية أن تحيل ملف إيران إلى مجلس الأمن فـي آذار/2006 .
  إن سعـي إيران لامتلاك قدرات نووية بطريقة سرية ليس مستغرباً في منطقة لا تعرف ثقافتها الشفافية وحيث الغموض والنفاق هما النمطان السائدان . هذا ما يجعل استخلاص الحقيقة من الادعاء والدليل من الحيلة في هذا الخصوص أمرا صعباً إلى حد مـا . فتخمين نوايا إيران أكثر صعوبة من تخمين غاياتها لأن الأخيرة تحتاج فقط إلى أعادة النظر في دوافعها وتجاربها ورؤيتها إلى العالم . كما أن إثبات إيران تسعى لامتلاك قدرات نووية أسهل من أثبات إن هذا القرار قد تم اتخاذه بشكل قطعي وبغض النظر عن الإثمان . كما أن من غير السهل التأكد مما إذا كان البرنامج النووي الإيراني قد وصل إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي أو إذا كانت لها مرافق سرية هامة أو معرفة المدق التي استغرقتها انجاز كل ذلـك .
  وأخيـرا من الصعوبات بمكان أن يتأكد المجتمع الدولي مما إذا كان القرار قد اتخذ من اجل امتلاك أسلحة نووية أم من اجل امتلاك هذا الخيار فقط . ودليل الباحث على ذلك هو أن إيران كانت بالرغم من إصدارا تعَّدل قراراتها تبعاً لتغير الظروف . وإضافة إلى ذلك فليست هناك حالة إستراتيجية طارئة تبرر امتلاك أسلحة نووية غير أن النتائج التي ستتمخض عنها المفاوضات هي التي ستقرر ما أذا كان هذا البرنامج سيستمـر أم لا .
  وقـامت إيران في الحقيقة يتميزون بفهم دقيق لموازين القوى ولما يمكن أن يقدموا عليه من أفعال دون إن يستلزم ذلك أية تبعات . وهم يرون بان ميزان القوى الإقليمي منذ 2004 ، وميزان القوى الدبلوماسي منذ العام 2005 ، يتحولان بشكل متزايد لصالحهم . فبعد أن كانت علاقات إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفاوضاتها مع الترويكا الأوروبية ، يغلب عليهما الطابع الدفاعي ، أصبحتا لعد ذلك تتسمان بالهجومية والثقة بالنفـس .
  وتحـاول إيران كذلك استحالة الدول النامية عن طريق تصوير الضغوط عليها على أنها غير عادلة وتحرمها من حقوقها التي تنص عليها معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية . كما أنها تسعى عن طريق التعاون الرسمي مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ـ وان بشكل انتقائي ـ وتجنب استفزاز الغرب بشكل فاضح وتكييف أفعالها بحيث لا تتعدى بعض الإجراءات المحدودة التي تحول دون تعرضها لرد عقابي كبير لتقليل فرص تعرضها لضغط دولي جماعي إلى الحد الأدنـى .
  كمـا تشجع إيران وتكرس الانقسامات بين القوى الكبرى من اجل الاستمرار في برامجها ، في سبيل ذلك تعتمد طهران على انشغــال الولايات المتحدة (العراق ، أفغانستان ، أسعار الطاقة ، الأعاصير ، الانتخابات …) وانقسامات وهموم الاتحاد الأوروبي (الانتخابات ، الإرهاب ، الهجـرة ، المشاكل الاقتصادية …) كي تعيق أي تقدم باتجاه العقوبات . ومع غياب أي دليل على أنشطتها وتصريحاتها العلنية حول استعدادها للتفاوض ، تتوقع طهران أن تتقلص الدوافع لإحالتها إلى مجلس الأمن لسببيـن :
الأول ـ لأنها تعتقد بـان نتيجة هذه الإحالة ليست أكيـدة .
الثانـي ـ لان تهديـداتها بالرد بقوة إذا ما أحيلت المسألة إلى مجلس الأمن قد رفعت سقف المخاطر إلى حد كبيـر .
وإذا مـا ظهر مجلس الأمن وجود انقسام فيه فان ذلك سيوحي بعجزه لكنه حتى لو توحد ذلك لن يحدث إلا فـي حالة واحدة ، وتتجلى تلك الحالة بتخفيض مطالبه ، وذلك سيظهره بمظهر الضعيف ، ولهذا السبب ما يزال غير واضح حتى الآن أية كلفة ستكون الدول الكبرى مستعدة لفرضها على دولة يُشتبه بمحاولتها تصنيع الأسلحة النووية وأية كلفة ستكون تلك الدولة إيران مستعدة لدفعها من اجل الاقتراب من امتلاك قدرات تمكنها من صنع أسلحة نوويـة .
  كمـا أن إيران تستغل الاستياء من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والعداء لأميركا في الشرق الأوسط من اجل تحقيق غاياتها لأنها تعمم قضيتها وتعزز من فعالية دبلوماسيتهـا . ومـع أنها لا تمتلك أي شريك استراتيجي هام أو حليف يمكنها الاعتماد عليـه ـ مما يضطرها لتحقيق أهدافها لوحدها الأمر الذي يتناسب مع طبيعتها المتحدية والانتهازيـةـ إلا أنها تستطيع الاتكال على مصلحة وتساهل  كل من روسيا والصين والهند في ما يتعلق ببعض طموحاتهـا .
  لـكن حجم وثقل إيران يجعلها منافساً أكثر صعوباً من الدول الأخرى المعتبرة كدول منتهكة لمعاهدة حظر انتشـار الأسلحة النووية . هذا يجعل من مهمة أعاقة وصول إيران إلى التكنولوجيا النووية وحشد التحالفات الدبلوماسية اللازمة لغرض العقوبات عليها ومواجهة مبادراتها الإقليمية أكثر صعوبة من هو الحال مع كوريا الشمالية أو ليبيـا ، وبصفتها دولة مزَّورة بالنفط والغاز واقعة على مفترق طرق بين بحر قزوين والخليج العربي فان إيران لا تفتقر إلى الإمكانيات اللازمة للتطـور .
  تتـعلق مسألة القدرة النووية الإيرانية بشكل رئيس بإيـــران والنظام الإقليمي في الشرق الأوسط . أن امتلاك إيران للقدرة النووية سيمنحها الثقة والجرأة لإعاقة وتحدي النفوذ الأميركي خصوصاً والغربي عموماً في الشرق الأوسط . كما أن القدرة النووية ستشكل ضمانة فعالة ضد محاولة تغيير النظام بالقـوة .
  إن امتـلاك إيران للتقنيات الحساسة بحد ذاتها ليس هو ما يبعث على القلق بل أن طبيعة النظام في طهـران وسلوكه وتوجهه هي التي تعطي التهديد بعده العالمـي … لان إيران إذا أصبحت دولة نووية فأنهـا ستكون منافساً خطراً وعاملاً مزعزعاً للاستقرار في منطقة جيو سياسية شديدة الحساسية . كمـا أن تـزامن وجود إيران قادرة نووياً مع عراق ضعيف ومفكك واقع تحت النفوذ الإيراني سيعقد من المشكلة أكثر وينتشر الاضطراب في المنطقـة .
  مـن هنا ، فالتركيز على القـدرات النووية الإيرانية ينبغي إلا يغفل النظر إلى مصدر القلق الأساسي : السيـاسة الإقليمية لإيران . لم يكن لُينظر إلى إيران كما يُنظر إليها اليوم لو أنها كانت تسعى لتحقيق أهـداف أكثر اعتدالاً وتوازناً في المنطقـة .
  فـلو كانت إيران اقل عداءاً تجاه الغرب واقل عداءاً تجاه إسرائيل واقل تصميماً على إنتاج نظام إقليمي مختـلف ، فمن المؤكد أنها كانت ستكون اقل تهديـداً . ولو كان نظامها مختلفاً لما شكل مصدر قلق بقدر ما هـو عليه الآن حتى لو كان يسعى لامتلاك نفس القدرات النوويـة .
  هـذا يعني بان البحث فـي طموحات إيران النووية هو في الأحيان بحث في طبيعة النظام الإيراني ويطـرح مسألة ما إذا كان من المناسب أن يحل نظام آخر محل النظام الحالي في القريب العاجل أم أن يغير النظام الحـالي سلوكه إلى درجة مقبولة . في الحقيقة لم تضطر إيران حتى الآن إلى الاختيار بين الحفاظ على نظامها وبين سياساتها الإقليميـة . ولكن في نفس الوقت رغم أن إيران ترى في توسيع نفوذها جزءاً مكملاً لشرعية النظام إلا أنها في الأوقات الصعبة لا تتردد في تخفيف طموحاتهـا …
  إن عمليـة صنع القرار في إيران تتم بإجماع النخبـة إلا أن هذه النخبة ليس كتلة واحدة موحدة ، بل أنهـا منقسمة على ذاتها كما هو الحال بالنسبة لبقية المجتمع . ففـي حين يعتقد أعضاء النخبة بان من واجب إيـران أن تسعى لتطوير تقنية نووية شأنها في ذلك شأن الدول الكبرى فأننا نجد أن الآراء تختلف حـول طريقة الوصول إلى هـذه التقنية وحول الحكمة في مواجهة المجتمع الدولـي . وتحدي مجلس الأمن ، كمـا أن النخبة منقسمة بحدة اكبـر حول الرغبة بالتواصل مع الولايات المتحدة والسعي لعقد صفقة كبرى وتبني العولمة والتصرف كدولة عادية وغير نوويـة . أي أنهم منقسمون حول الشروط التي سيتخلون بموجبها عن الدافع لامتلاك قدرات تمكنهم من إكمال دورة الوقود التي ستمنح إيران الفرصة لصنع أسلحة نوويـة .
  لقـد ازدادت حدت التوترات التي تحتمل تحت السطح في إيران منذ انتخاب محمود احمدي نجاد رئيساً للبـلاد في حزيران من العام 2005 . فقـد عاد هذا الأصولي بالبلاد إلى المبادئ الأصلية للثورة من جديد حيث لاقى خطابه الثـوري وتعصبه القومي المترافق مع مطالباته بتحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية صدى الفئات المهشه في إيران . لكن احمدي نجاد بدمجه اثنتين من سمات إيران المعاصرة : القومية العسكريـة والتحدي الثوري ، فانه يضيَّق مساحة المناورة إمام إيران ويجعل من قضية صعبة في الأساس أكثر صعوبة للحـل .
  يعتبـر تحليل شاهرام تشوبين مؤلف الكتاب ، أكثر التحاليل شمولاً في ما يتعلق بكيفية تأثير القوى المؤثـرة المحلية في إيران ومصالحها الإقليمية ونظرتها إلى العالم على عملية صنع القرار في مسألة التكنولوجيا النوويـة .
  ويـأتي كتاب ـ طموحات إيران النوويةـ ليكمَّل هذا التحليل الشامل بما يقدمه من تقييم للمحاولات التي يجب أن يقوم بها المجتمع الدولي من اجل دفع إيران للإيفاء بالتزاماتها المتعلقة . بمنع انتشار الأسلحة النوويـة فكانت النتيجة معالجة متوازنة ووافية للتحدي النووي الإيرانـي .
  ويصـف تشوبين مؤلف الكتاب ببراعة تضارب السياسة الغربية التي تعكس الاختلافات بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا من جهة أخـرى ، الممزقة بين تأييد الحوار البناء والتواصل البناء والحوافز التشجيعية من جانب والاحتواء والعقوبات وتغيير النظام من جانب آخر . حيث يؤكد بشدة أن إيـران لن تغير موقفها طالما أن المجتمع الدولي لا يطبق سياسة أكثر توازناً قادرة بنفس الوقت على أبطـال مفعول التهديد الإيرانـي وكذلك على تقديم حوافز تشجيعها على التغيير والقبول بالتشويـه . ولتحقيق هذا التـوازن ينبغي على الدول الأوروبية وروسيا والصين أن تظهر استعداداً اكبر لتطبيق ضغط سياسي واقتصـادي أقوى على إيران بالتعاون مع الولايات المتحدة في حين ينبغي على الولايات المتحدة أن تظهر استعـداداً صادقاً لبناء علاقات ايجابية مع حكومة إيران الدستورية . ولا يمكـن للدول التي تتفاوض مع إيران أن تجد المزيج المناسب بين العزل والتعاون ، الضغط والمكافأة ، ما لم تأخذ بالحسبان الانقسامات ضمن إيران والمصالح المتباينة التي تعكسهـا .
  ينبـغي على أية سياسة تتعامل مع دوافع وظروف إيران الخاصة إلا تستتبع تشجيع الانتشار النووي أو الانتقاص من شروط معاهدة منع انتشار الأسلحة النوويـة . غير أن ابتكار سياسة فعالة تجاه إيران يتطلب فهماً جيداً لطموحاتها ووجهات نظرها إذ أن امتلاك إيران للقدرة النوويـة سيزيد من ثقتها ويعزز من رغبتهـا في إعاقة المبادرات الغربية وسعيها للعب دور إقليمي اكبـر .
  إن الهـدف الأول من هذه الدراسة هو تقييم الدوافع التي تحث إيران على امتلاك قدرات نووية لا تتمايز تقريباً عن الأسلحة النوويـة … فالمؤلف ناقش الأسباب التي تجعل من هذا الأمر مثيراً للقلق لدى المجتمع وقيّـَم نوايا إيران وتكتيكاتها في المفاوضات الحالية كما حلل الردود الدولية … فقد اهتم المؤلف بشكل أساسـي بما تقوم به إيران وبنواياها وبكيفية تعاملها مع الأمر وبما تأمل تحقيقـه .
  إن هـذه الدراسة تركز بالضرورة على التحليل والاستنتاج اللذين يتضمنان مناقشة أمور كثيـرة من بينهـا : أسلوب وتكتيكات التفاوض ، والمؤلف يعتقد بان هذه القضية لن تحل بشكل نهائي في المستقبل القريب وان الفهم الجيد للدوافع والحجج والتكتيكات سيبقى ضروريـاً مهما حدث من تطورات في السنوات القليلة القادمـة .
  هـذا الكتاب مرجع جديد يمكن أن يكتسب منه كل من صناع القرار والباحثين والدارسين فهماً أعمق وأفكارا انجح تفيـدهم في التعامل مع مصالح الشعب الإيراني ومصالح المجتمع الدولي في آن واحـد .
  صحيـح إن إيران لن تُزعم بالتهويل على الخضوع لسياسات لا تتناسب وتاريخها ومصالحها وتقديرها لذاتهـا ولكن في الوقت نفسه للمجتمع الدولي مصلحة كبرى وشرعية في منعها من حيازة أسلحة نووية ولذلك ينبغي السعي لتحقيق هذا الهدف بقوة وعزم وذكاء ….
  قـدم الكتاب أفكارا قيمة حول كيفية تحقيق ذلك ، انـه مزيج نموذجي من الفهم التاريخي المعاصر والعلاج السياسـي .

* الكتـاب : طموحات إيران النووية ، تأليف – شاهرام تشوبين ، ترجمة – بسام شيحا ، ط1 ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت ، 2007 ،208 صفحة
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات