إنَّ الرزق مشغلة النفوس، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان، ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة، لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس. (قطب، في ظلال القرآن، 2728)
قال إبراهيم عليه السّلام: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]؛ بيّن لقومه بأن يلتمسوا من الله الرزق لا من عند أوثانهم، بذلك يصلون إلى الحقيقة، وقد دلهّم على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، فالرزق بيد الله تعالى، فهو مالكه ومقدّره وميسّر أسبابه، والخلق لا يملكون من ذلك شيئاً إلا بأمر الله تعالى، والله تعالى هو الذي بيده وحده توسعة الرزق وقسمته وفق مشيئته، وليس ذلك لأحد من الخلق، فطلب الرزق وابتغاؤه لا يكون إلا من عند الله تعالى؛ لأنَّه وحده القادر عليه وهو بيده سبحانه، فهو المستوجب للعبادة والشكر وإليه المرجع والمصير.
وكل مخلوق قد قُدر رزقه وعُلم عند الله تعالى، وهو سبحانه يهيئ لخلقه أسباب حصولهم على رزقهم ووصوله إليهم، وفق تلك الأسباب التي جعل أمر تلمسها والبحث عنها والأخذ بها من العبادة له جلّ جلاله، وقد تلغى هذه الأسباب كلّها أو بعضها بمشيئته سبحانه في حق بعض خلقه لحكمة يريدها، ولكن ذلك ليس هو القاعدة، بل هو استثناء منها، فالقاعدة هي الأخذ بالأسباب.
لا أحد يستطيع أن يأتي بالرزق للناس إن أمسكه الله تعالى، وهذه حقيقة يجب أن يعيها كلّ مسلم؛ لأن مصادمتها أو الإعراض عنها حمق ونفور عن الحق المبين، قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} ]الملك:21[.
إنّ قضية الرزق خطيرة ودقيقة في حياة الإنسان، وأحداث الماضي والحاضر توضح أن لقمة العيش قد يستعبد الإنسان بسببها لغيره من بني الإنسان، ولذلك جاء القرآن في هذه القضية بالبيان الشافي تحريراً للإنسان من العبودية لسواه من بني الإنسان، فهو ليس عبداً إلا لله تعالى خالقه ورازقه، فبيّن القرآن أن الله تعالى هو الحقيق بأن يعبد دون سواه لأنه خالق الخلق ومالك الرزق، فلا يُبتغى الرزق إلا عنده ولا يُعبد بحق ولا يشكر بحق إلا هو جل جلاله فمنه البداية وإليه النهاية. (الرزق في القرآن الكريم، د. سليمان الصادق البيرة، ص73)
وقد قَرن القرآن الكريم بين الرزق وبين العبادة، قال سبحانه: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وهذا دليل على خطر الرزق وأثره في حياة الإنسان، وبيان أن من ملك رزق الخلق من الجن والإنس فهو الجدير بأن يعبد، وقد نصّ القرآن الكريم على من يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} ]النحل:73[. (الرزق في القرآن الكريم، د. سليمان الصادق البيرة، ص73)
من أسماء الله “الرازق – الرّزاق”:
وَرَد اسم الله سبحانه “الرازق” في القرآن الكريم بصيغة التفضيل خمس مرات من ذلك بقوله تعالى: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} ]المائدة:114[، وقوله سبحانه: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ]المؤمنون:72[، وقوله تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ]الجمعة:11[.
وأما اسمه سبحانه “الرزاق” فقد ورد في القرآن مرة واحدة، وذلك في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ]الذاريات:58[، والمعنى في حق الله تعالى: هو المتكفل بالرزق القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وسع الخلق كلهم رزقه ورحمته، فلم يختص بذلك مؤمناً دون كافر، ولا ولياً دون عدو، يسوقه إلى الضعيف الذي لا حيلة له ولا متكسب فيه، كما يسوقه إلى الجلد القوي ذي المرة السوي، قال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ]العنكبوت:60[، وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ]هود:6). (ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص496)
وقال السعدي: الرزاق: لجميع عباده فما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها ورزقه لعباده نوعان؛ رزق عام شامل البرّ والفاجر والأولين والآخرين وهو رزق الأبدان، ورزق خاص وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان، والرزق الحلال الذي يُعين على صلاح الدين، وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم منه بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته. (ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص497)
المصدر:
د. علي محمد الصلابي، إبراهيم السّلام خليل الله، ط.1، دار ابن كثير، ص 524-628.