22 ديسمبر، 2024 10:44 م

طقوس في الشعر والصداقة

طقوس في الشعر والصداقة

كما هي ” الأزهار تورق داخل الصاعقة ” كذلك هي الصداقات الحقة ، تنمو وتزدهر في أشد الظروف حرجا ً وقسوة ، وذلك حينما تجمعها المباديء الصادقة المؤمنة بالانسان وحريته ، وهذا ما أكدته علاقة الشاعر الراحل ” علي الشباني ” بالشاعر الكبير” مظفر النواب ” ، تلك العلاقة الطيبة والمميزة التي امتدت لأكثر من أربعة عقود، حيث جمعت بينهما في منتصف ستينيات القرن الماضي جدران سجن الحلة المركزي، وكان ” الشباني ” حينها حديث التجربة السياسية والشعرية مما ساعد وجوده في السجن فرصة لتطوير تجربته السياسية والثقافية ، ظل الشباني يستذكر بشرف تلك الايام االتي كان فيها رهين السجن المذكور حيث حكم عليه بالاعدام ولكن لصغر سنه ولكونه طالب انذاك فقد خفض الحكم الى المؤبد ، التقى فيها لأول مرة بالنواب عند وصول الاخير منقولاً من سجن نقرة السلمان فأقام له السجناء ولرفاقه أمسية رائعة في ساحة السجن وقد قرأ النواب في حينه قصيدته الرائعة ” ابن ديرتنه حمد ” . استمرت علاقتهما متوهجة بالثقة والمحبة ويستذكر ” الشباني ” ثقة النواب به حينما اطلعه يوماعلى سر النفق الشهير الذي هرب منه النواب ورفاقه السجناء والتحاقهم بخنادق الثورة الملتهبة في المدن والارياف والاهوار الجنوبية . ولم تنقطع تلك العلاقة حتى بعد خروج مظفر من السجن اثر العفو عنه ، التقاه الشباني في داره الواقعة على نهر دجلة بعد ان اعيد للتدريس في تلك الايام ، يذكر الشباني ( كنت فرحاً ومهووساً بكتابتي ” خسارة ” قصيدتي المعروفة ، قرأتها في جلسة ضمتنا مع مظفر انا وعبدالرحمن طهمازي ويوسف الصائغ حيث أثارت القصيدة اعجاب طهمازي وحماسة الصائغ ، واعتبرت مسارا جديدا ومختلفا عن الانشاءات الشعرية المتواجدة ) . وبعد خروج النواب من العراق استمرت علاقة الاثنين عبر مراسلات مشحونة بالعاطفة والاماني الطيبة بالخلاص من الطغيان واللقاء مجددا ً، عواطف كانت تعبر عن قلق الوطنيين الشرفاء على وطنهم الذي اهلكته الحروب وخيمت عليه ظلال الموت والخوف ، كانت هذه الرسائل تعبر الحدود من خلال العراقيون القلة الذين كانت تسنح لهم فرصة الدخول والخروج حيث تجد فيها اسمى معاني الوفاء والصدق نقرأ في رسالة النواب الى الشباني والمؤرخة في 14/9/1999 ( زاوية لك في القلب مازلت اوقد فيها الشموع .. لايمكنني اتصورك قد كبرت .. كبر قلبك نعم .. كبرت نظرة عينيك .. كبر حبك .. علي مشتاق لك ودمعة في قلبي ) بهذه اللغة الجميلة والعواطف المهذبة كان يكتب النواب لصديقه ورسالة اخرى من النواب مؤرخة في 11/11/2000 ( كم اريد ان اراك بعد كل هذه السنين ، لقد طعنت في عشق الناس ولاتزال محبتك في نفس مكانتها بالقلب ، نتحدث انا ورياض ونتحدث عن العزيز كاظم غيلان لست ادري كيف اكتب له ، لك محبتي واحس اننا سنلتقي ) . وكانت اعز امنيات الشباني ان يتحقق هذا اللقاء وتتكحل عيونه برؤية النواب مجددا لما يعتمر في قلبه من حب وتقدير لصديقه ورمزه الكبير ولهذا وبعد سقوط النظام كان اول ما قام به الشباني هو السفر الى سوريا مع عدد من الاصدقاء للقاء النواب بعد الفراق الطويل . وحينما عاد من تلك الزيارة وجدته مهموما جدا وقلقا مما وجده في صحة النواب من تراجع وذبول وظل قلقا في متابعة اخباره رغم ان صوت النواب ظل يصله عبر الهاتف بين الحين والآخر . وقبل اشهر قليلة من رحيل الشباني وفي احدى الاماسي التي اعتدت فيها اللقاء به يوميا جاءه اتصال من شاعرة عراقية مغتربة وكانت قريبة من النواب تخبره فيه انها تروم ارسال حوالة بمبلغ من المال وتطلب منه اقرب صيرفه له وكان هذا الموقف بالتأكيد بايعاز من النواب ، عاش الشباني في تلك الدقائق سعادة غامرة كان مبعثها هو اصالة النواب ووفائه لصديقه الذي ظل متابعا لاحواله الصحية والحياتية وتلك هي اخلاق الكبار، ويسدل الستار على هذه العلاقة الرائعة برسالة التعزية المؤثرة التي بعثها النواب لأسرة صديقه الراحل ” علي الشباني ” وكانت مثالا حقا لأخلاق النواب ووفائه لصديق ورمز من رموز القصيدة الشعبية عاشا وتشاركا معا اياما صعبة وقاسية لم تفك من عرى صداقتهما المسافات والازمان .
[email protected]