18 نوفمبر، 2024 3:16 م
Search
Close this search box.

طقوس المناسبات العراقية : استعراض للقوة واستنهاض للعنف

طقوس المناسبات العراقية : استعراض للقوة واستنهاض للعنف

ليس في وارد هذا الموضوع ولا ضمن اهتماماته ، تقصي الدوافع وتتبع البواعث التي تسوغ للإنسان العراقي – وهو المغمور بشتى ضروب الحداثة وما بعدها ، والمنغمس بمختلف إبداعات المعرفة وما فوقها ، الاستسلام لنوبات / هستيريا كبرياء شخصيته المدجنة وخيلاء ذكوريته المخصية ، كلما دعته الحاجة / الضرورة السيكولوجية للتعبير عن مشاعر الحزن والأسى حيال مصيبة ألمت به ، أو إظهار عواطف الفرح والحبور إزاء مناسبة طيبة حصلت له . بقدر ما تستحوذ عليه (= الموضوع) رغبة البحث عن إجابة تشفي غليل تساؤل ما برح إلحاحه يتجدد مع كل ظاهرة من ظواهر العنف أو حالة من حالات القسوة التي ما أنفكت تجتاح دفاعات قيمنا الاجتماعية وتستوطن تلافيف مخيالنا الرمزي ، وتؤطر مفردات لغتنا التحاورية ، وتحدد أنماط سلوكنا اليومي ، للحد الذي بتنا معه لا نشعر بالامتلاء الذاتي والارتواء النفسي ، إلاّ حين نطلق العنان لهوس افتتاننا باستعراضات القوة المتوحشة ومهرجانات التبجح بالفحولة المتبربرة . أكتب ذلك وفي ذهني تلك الكيفية التي من خلالها لم تبرح الغالبية العظمى من العراقيين – حين يتناهى إلى سمعهم حصول مناسبة معينة ؛ كأن يكون فوز المنتخب الوطني بكرة القدم أو إحياء حفل زفاف صديق ، أو بالعكس وقوع حدث ما يتعلق بموت / مقتل قريب –  يهرعون ، دون تردد ، لامتشاق كل ما يسرته لهم ظروف الفوضى وأوضاع الانفلات من حيازة وامتلاك مختلف أنواع الأسلحة الشخصية والرسمية ، متوخين بذلك توظيف دلالتها في تعزيز الحضوة القبلية التي ينشدونها ، والاحتماء برمزيتها في ترصين الاعتبار الاجتماعي الذي يفتقدونه من جهة ، ومتوهمين ، من جهة أخرى ، بأن مظاهر استعراض القوة / الرجولة عبر استخدام لغة الرصاص / العنف بدلا”من اللجوء إلى حوار الألفة في التواصل والحميمية في العلاقات ، هي الأصدق في التعبير عن لواعجهم الدفينة والأضمن في التنفيس عن تفجعهم المتوطن . وغير مدركين ، من جهة ثالثة ، مخاطر مثل هذا التصرف النكوصي أو غير مكترثين لعواقبه الوخيمة ، لا بالنسبة لعدد الإصابات التي عادة ما يذهب ضحيتها العشرات بين قتيل وجريح ومعاق من الناس الأبرياء – وهو ما يقتضي أن تتصدى بعض مؤسسات المجتمع المدني لدراسته وتقديم إحصائيات دورية عنه – جراء طقوس الرعونة وشعائر الزعرنة المصحوبة بالإطلاق العشوائي للعيارات النارية ، التي أضحت بمثابة كرنفالات منفلته يتبارى من خلالها المتنافسين في مضمار السخاء العنيف والكرم العدواني ، وإنما لطبيعة وحجم الآثار التخريبية التي تمارسها مثل هكذا ظاهرة على سيكولوجية الأجيال القادمة ، التي يفترض أن تكون بيئتها العائلية ومحيطها الاجتماعي من العوامل المشجعة على نبذ العنف بكل أشكاله وتحبيذ السلام بمختلف أنواعه . ودون أن يفرطوا ، من جهة رابعة ، بمنح أقرانهم في ذات البيئة التي يمارسون فيها طقوسهم المتخلفة ، الانطباع بأن سلوكهم هذا لا يعدو إلاّ أن يكون محاولة لإثبات (ذواتهم) المستلبة أمام عوامل مسخ كيانها وتسطيح شخصيتها وتأكيد (أناهم) الخانعة في حضرة القمع المتربص بها والخوف المسلط عليها .
والغريب في الأمر حقا”انه بالرغم من كل التجارب التي غالبا”ما يكون عنصر صيرورتها ، وكل الأحداث التي عادة ما يكون حطب وقودها ، فان الإنسان العراقي المسكون بهاجس الخوف المستديم والمحاط بهالة الرعب المعتق والمعفر بقلق الموت المجاني ، قلما يتّعض بالعواقب السلبية الناجمة عنها أو يستوعب الدروس الايجابية المستنبطة منها ، لكي يتجنب أضرار الأولى ويحول دون تكرارها ، ويستبطن منافع الثانية ويؤسس لديمومتها . إذ خلافا”لمألوف الكينونة الاجتماعية ، حيث التوق إلى الاستقرار كمحصلة لتجانس الحراك بين أطرافها ، والانشداد إلى عناصر التطور كدينامية لانتظام التفاعل بين مكوناتها ، فان المحنة المصيرية التي لم يلبث هذا الكائن العصيّ على التوصيف يكتوي بلظاها ، لم تسجل في أرشيف وعيه وبرنامج سلوكه أي حضور يذكر . وهو ما يعد في منظور الدراسات السيكولوجية والسوسيولوجية حالة من حالات الشذوذ في مقومات الشخصية ومؤشر من مؤشرات الافتقار للمعيارية . ولعل هناك من يعترض على مثل هذا الطرح / الرأي ، على خلفية تصور خاطئ مفاده ؛ إن هذه المظاهر تأتي في سياق التعبير عن مضامين الفولكلور العراقي الذي ينبغي الاعتزاز به والمحافظة عليه ، أسوة ببقية الشعوب التي لا تعدم وسيلة في إظهار غناها الرمزي وتنوعها الثقافي . والواقع إن الغاية التي يرمي إليها الموضوع هنا بعيدة كل البعد عن التأسيس لمثل هذه الإيحاءات العدمية (النهلستية) ، بقدر ما يحاول إزالة عوالق العنف واستئصال زؤان العدوان الرابضة بين ثنايا (الشخصية العراقية) ، التي لم تسلم فقط من آثارها مناسبات الفرح والانشراح فحسب ، بل وطالت حتى مناسبات الحزن والأتراح أيضا”. فلو استعرضنا ، على سبيل المثال ، عادات الشعوب – حتى الموغلة في البدائية –  حين تروم التعبير عن ذات المشاعر والعواطف ، التي تثير فينا نحن نوازع وتصرفات لا تمت لمظاهر التمدن وخصائص التحضر بصلة ، نادرا”ما تلجأ تلك الشعوب إلى سلوك مفازات العنف وانتهاج سبل التطرف ، لا في المناسبات المفرحة ولا في المناسبات المحزنة ، باستثناء الحالات التي تكون فيها تحت وطأة حمى الحروب السياسية المهيضة بوازع من الأطماع والهيمنة ، والصراعات الاجتماعية المسوقة بدوافع التعصب العرقي والتطرف الديني –  وهنا يستوي الجميع بهذه الخاصية – بل إنها تتخذ من ضروب التعبير الأخرى الملائمة وسيلة لإظهار عواطفها المفعمة بالبهجة والسعادة في الحالات التي تتطلب إبراز قيمة المناسبة المحتفى بها ، أو تجسيد مشاعرها الجياشة بالحزن والأسى في الحالات المغايرة التي تستلزم شحذ التعاطف الانساني والمواساة الاجتماعية ، دون أن تضطر – بالطبع – إلى استدرار صنوف المشاركة الوجدانية عن طريق استعراضات القوة ومهرجانات العنف ، التي باتت من أبرز معالم (السلوك العراقي) المولع بالتماهي مع قيم الخشونة وأعراف القسوة . فأهمية المناسبة وقيمتها لا تكتمل – في نظر المعني بها أو المشارك فيها – إلاّ من خلال ما تستقطبه من (كثافة نارية) تكاد تطغى على مظاهر المناسبة ومقوماتها الأخرى . بمعنى انه بمقدار ما تحظى المناسبة بتكاثر فوهات الأسلحة وتزايد سخاء رشقاتها ، بمقدار ما يعلو شأن صاحبها ويتعاظم سلطانه (حيا”كان أو ميتا”) . فالذي يساق إلى عش الزوجية حديثا”لا تكتمل رجولته ولا تظهر فحولته بغير أن يعمد بدوي الاطلاقات الطائشة التي – في بعض الأحيان – تحول المناسبة إلى كارثة تقلب الأمور رأسا” على عقب . كما وان الذي يشيع إلى مثواه الأخير لا يفلت ، في غالب الأحيان ، من هذه المراسيم العنيفة ، حتى وان كان هو ضحية لأعمال عنف همجي لا ناقة له فيه ولا جمل ، وكأن ميتته البشعة لم تشفع له الخلاص من ضريبة صوت الرصاص وفعله الدامي . والأمر ذاته ينطبق على (نتائج) لعبة كرة القدم دون أن يكون (لطبيعتها ذاتها) أي فعل تحريضي على سيكولوجية الجمهور المستثار ، وهو الأمر الذي يسوغ لنا القول بأن كوامن (التطرف) في الشخصية العراقية وليس بواعث (الحمية) الوطنية ، هي المسؤولة عن تمسك العراقيين بهذا الضرب من التصرف ، الذي يعد من مخلفات حقب المفاخر القبلية التي عادت لتوها بكل عنفوانها ، بعد أن استشعرت انحلال قوة الدولة واضمحلال هيبة القانون .
والحقيقة إن المشكلة ، في إطار هذه المسألة ، لا تكمن في استمرار تمسك البعض ، ممن تستهويهم مشاهد الفوضى ومظاهر العنف ، بهذا النمط من السلوك اللااجتماعي ، الذي لا ريب في تطفله على حياة الناس الآمنين وتجاوزه على سلامتهم ، لاسيما وان كوابيس رعب الصراع الطائفي الدامي لا زالت عالقة في أذهانهم وماثلة في نفوسهم ، بقدر ما تكمن في حصائل العدوى التي من المؤكد أنها ستصيب الكثير ممن لا زالوا يتأرجحون بين عادات اجتماعية وأعراف أخلاقية أوشكت على التآكل والاندثار من جهة ، وبين قيم هيترية لم تبرح تنشأ لها قواعد وتؤسس لها منطلقات في بنية الوعي الفردي ومنظومة السيكولوجيا الاجتماعية من جهة أخرى . ذلك لأن (( الفرد – كما أشار سيغموند فرويد ومن قبله غوستاف لوبون – في الجمع يجد نفسه في شروط تتيح له أن يفك أسر ميوله اللاشعورية المقموعة . والصفات ، الجديدة في الظاهر ، التي يتبدى بها عندئذ ما هي في الواقع سوى تظاهرات لذلك اللاشعور الذي تختزن فيه بذور كل ما هو شرير في النفس البشرية )) .
[email protected]

أحدث المقالات