الشعوب لا تطالب بالمستحيل وليس لأحد حق في مصادرة إرادتها.. لكنها السياسة،تلك الممارسة التي لا تنفك عن التلاعب في مقدرات الأمم ولا تنفكّ عن التحايل وخلق جميع المشاكل ؟ ربما لأن نزعة الاستبداد غريزة في البشر، وأن الصراع مكتوب على البشريّة بمنطق جدل الحياة والديمومة.. أمّا التاريخ فليس له شأن أكثر من تدوين الوقائع ليترك لنا بصمات آثار العظماء خصوصا الملوك منهم . هنا نقف على حافة وجودنا لننظر الى الأمام فنترك ما نعجز عن استيعابه لنسجّل صفحتنا الحضاريّة بطريقة شاذة عن المألوف الذي أتخمنا بالأساطير وسحر صياغة الأكذوبة . في زماننا تبدلت قوانين الأحلام.. المقدّس فقد معيار وزنه فلم يعد أكثر من عامل كيل سياسي لا يختلف عن الصاع الذي دسّه يوسف النبي في رحل أخيه ليبرر احتجازه، أمّا قصة الخداع فهي لم تنهي عند مصر التي تكاثر في ربوعها بني اسرائيل ليعبرون فيما بعد الى سيناء..ثم تستمر الرحلة بعد الضياع ليستقر وكما يزعمون( شعب الله المختار على أرض الميعاد) ضمن سلسلة تاريخيّة تفصلها أسفار العهد القديم بطريقة كهنوتيّة تعجن دماء الكثير من الأقوام اللذين كانوا يرتعون في روابي وسهول الشرق الأوسط . إن قضيّة الصراع بين اليهود والعرب أشبه ما تكون بالحرب الأهليّة لمن يدرس تعقيدها التاريخي ولا ترقى لأبعد من ذلك.. وموضوع تأسيس ماتسمى دولة إسرائيل لا يعدو أكثر من استقلال مكوّن طائفي تم استجماع شتاته من داخل وخارج المنطقة وفق مشروع يسمح بالتوسّع الجغرافي على حساب وجود مكونات أخرى ويثير القلق الدائم والأزمات بما يخدم أهداف القوى الاستعمارية التي خططت له وتدعم وجوده، هذا هو الفارق الذي يلخص ثنائيّة اليهود كطائفة دينيّة أو اليهود كشعب تمثله دولة إسرائيل حاليا، وما تزال إسرائيل هذا الكيان المغتصب يعيش ازدواجية، كونها وكما تدعي دولة ديمقراطية ليبرالية أو دولة دينيّة يهودية ؟؟ هذه الازدواجية لا تقتصر فقط على إسرائيل وإنما تشمل غالبية الدول التي تحيط بها.. فهي أنظمة هجينة سياسيا متناقضة فقيرة التجربة ومضطربة تتقلب في داخلها منذ تأسيسها من قبل الاستعمار.. بدون أدنى شك إن الاستعمار لم يخرج من الشرق الأوسط رغم سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول المنطقة وما رافقها من خدع الاستقلال الذي رتبته دول الاستعمار بتجنيد وكلائها من الحكام اللذين يجيدون تمثيل أدوار البطولات العنترية، تلك الأدوار المخزية التي نفذوا خلالها مسلسلات من السياسات المرسومة تفاصيلها بدقة وقائعها والنتائج المطلوبة منها ضمن إستراتيجية بعيدة المدى لا تزال المنطقة تشهد كوارث ما ترتب عنها، إن الحقيقة التي تشهر نفسها كالبدر في تمامه هي أكذوبة استقلال دول الشرق الأوسط.. من هذه الحقيقة سنفهم بأن مجمل الصراعات تدخل في حيّز ترويض الشعوب وتسخيرها وفق إستراتيجية غربية طويلة الأمد تهدف الى تحقيق نظام عالمي يكون مركزه في الشرق الأوسط.. بعبارة أكثر إيضاح لا توجد حكومة تملك إرادة مستقلة إلا بحدود ما يُسمح لها ضمن مساحة تُتيح للحكومات أن تخدع شعوبها.. فلو استعرضنا سجال صفحات العداء العربي الإسرائيلي سنكتشف أن أغلب الحكام العرب على علاقة وطيدة بقيادات إسرائيلية حتى من قبل اعلان إسرائيل (كدولة).. ربما كان من الأنسب لأصحاب القرار أن لايستغفلون المجتمع ولا يقحمون الشعوب العربية في سخرية العداء والمواجهة مع إسرائيل ويبادرون منذ البداية بتطبيع العلاقات كما يفعلون اليوم وبشكل علني واضح للعالم وبالتحديد للجماهير العربية ، هذا لو كان الهدف هو منح اليهود وطن بحدود رمزية لا تتجاوز ما كانت عليه السامرة واليهودية قبل السبي البابلي.. لكن مشاريع السياسة تختلف وتحقيقها يتطلب مراحل وأجندات لكل مرحلة بتفاصيل سيناريوهات مسبقة يتم تنفيذها أو تمثيلها على أرض الواقع … قطعا لا توجد مشاكل بين الشعوب، فالعراقي والمصري الذي كان ضحية للشحن السياسي ضد الاستعمار البريطاني كان ولا يزال يحلم بالعيش في لندن تحت ضلال تاج المملكة العجوز، لكنه بالمقابل يرفض تدجينه ليكون عبدا حيال إلوهية العِرق الإنجليزي في وطنه، كذلك هو اليهودي الذي جمع مدخراته حالما بأكذوبة أورشليم محبته وأمل وقوفه أمام الحائط المتبقي من الهيكل الذي يثبت هويته ومجده الإنساني . حقا أن الحكمة الإلهيّة تمتحن غباء البشر وغفلتهم عن سر التقاء عقائد التوحيد الثلاثة.
في القدس يرقد هيكل سليمان تحت ثرى أطلال التاريخ، وكنيسة القيامة تخفي وجهها خجلا من بهاء السيدة العذراء.. وفي القدس تشمخ قبة الصخرة بصدى تكبير آذان المسجد الأقصى، أما التلال والروابي والسهول فهي تحكي قصص الإنسانية بروعة صهيل خيول أقوام كانوا يتعانقون بالسيوف فيرحل بعضهم ويبقى آخرون . حتى اليوم ومنذ تهجير اليهود عن بلاد الرافدين، مازالت شعوبنا أسيرة في قبضة مخططات السياسة الاستعمارية الخبيثة.. لم تنتهي القصة بيهود العراق ولا باقي مكوناته التي تتمزق في تفاصيل مأساة لا تزال مستمرة وسوف تبقى ما لم يتوقف الإرهاب العالمي بكل أشكاله وألوانه الذي يرسم البشاعة على جدران السياسة.. متى يعي ساسة الغرب بأن الهجرة التي تهدد نسيجهم الاجتماعي وتقذف إليهم القنابل البشرية أنها من صنع أيديهم كرد فعل عمّا يرتكبون من أفعال بحق شعوب الشرق الأوسط ؟ إن المكر السيئ يحيق بأهله والسياسات الخاطئة تعقبها كوارث.. لا شيء يستقر بدون توازن ولا يمكن تحقيق السلام إلا من خلال العدل .