المجتمع السعودي رسم لنفسه مستقبلا بالعلم والثقافة والصوت واللحن، أما جحافل التطرف أصحاب محرمات الصحوة، فهم كالطفيليات تعيش في الظلمة. الهدف معروف وهو تخلف المجتمع وتحكم الفكر المتحجر الواحد.
انتشر مقطع المحتسب المغمور “مشروع داعية سنة أولى” وهو يهاجم فرقة ماليزية بمعرض الرياض للكتاب الأسبوع الماضي كالنار في الهشيم. الهدف من هذا التصرف الأحمق هو تسلق سلم الشهرة وتوسيع مساحة الصدام بين المتشددين والمجتمع.
تكررت “غزوات المحتسبين” للمحافل الثقافية. في معرض الكتاب لعام 2011 اقتحم ثلاثون مشاغبا طفيليا المعرض للإخلال بالأمن ونشر الفوضى. تهجّم المحتسبون على وزير الثقافة والإعلام الأسبق عبدالعزيز خوجة واستوقفوه عدة مرات وتعرضوا إليه بألفاظ نابية. تطورت المشادة آنذاك إلى اشتباك بين الصحويين ورجال الأمن الذين طردوهم من المعرض شرّ طردة.
في عام 2012 وضع الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف الدكتور عبداللطيف آل الشيخ حدا للجدل المثار حول قضية الاحتساب وتَبَرُع البعض بهذه المهمة باجتهاد شخصي ودون الرجوع إلى الهيئة كشخصية اعتبارية متخصصة منوط بها هذه المهمة. نعم، فتبرع الطفيليات بالاحتساب في المناسبات الثقافية والاجتماعية التي ترعاها الدولة خلق حالات من الإرباك والفوضى.
أما معرض عام 2013 فشهد مسرحية هزلية من عدة فصول مضحكة. ظهر في الفصل الأول من المسرحية متشدد طفيلي مشهور برئاسته لحربة كتائب الاحتساب. المغامر المعروف بمخالفة أنظمة وقوانين الدولة، قام بجولة احتسابية في أروقة المعرض مع مجموعة شابة في العشرينات من أعمارهم. وجه الداعية (وأعوانه) لزائرات المعرض عبارات احتسابية عن الحجاب الشرعي وتغطية وجوههن كاملة، ولبس عباءات واسعة وغير مزخرفة ووضعها على الرأس بدلا من الكتف.
هذا ليس كل شيء، بل قامت كتيبة نسائية من المحتسبات أيضا بتوزيع حلوى مغلفة بمطويات ورقية صغيرة تحث على “مقاطعة المعرض ونصرة الدين” بدعوى الإنكار والاحتساب. كذلك دعت “الأخوات” إلى مناهضة الاتفاقية العالمية للمساواة بين الرجل والمرأة ووصفت الاتفاقية بأنها “إلحادية تغريبية”.
أما الفصل الثالث من المسرحية الهزلية فهو قيام شابين محتسبين بتعكير أجواء فعاليات المعرض بتصرفات لا مسؤولة أربكت الحضور والمنظمين. تصدى لهما رجال الأمن وأوقفوهما عند حدهما. الفصل الرابع كان مداهمة مجموعة طفيلية من المشاغبين الفندق الذي يأوي ضيوف المعرض مطالبين بالفصل بين النساء والرجال. اشتبك الصحويون الجدد مع الزوار بهدف إشعال حالة من الفزع والهلع والإرباك.
في عام 2014 تكررت مضايقات المحتسبين لزوار المعرض؛ اقتحم المشاغبون (الإيوان الثقافي) مطالبين كاتبة دنماركية زائرة تجلس في القسم المخصص للنساء، بتغطية وجهها. انسحبت الكاتبة عائدة إلى بلدها. استمر المشاغبون بمضايقة الزوار ودور النشر وضيوف المعرض.
في نفس موسم عام 2014، اعتذرت الدكتورة خولة الكريع عن المشاركة في ندوة ثقافية في المعرض بسبب إجبارها على الجلوس في مكان معزول لتلقي ورقتها كأنها في مـحجر صحي موبوء وليس من على المنصة كبقية المشاركين. خولة الكريع، كبيرة علماء أبحاث السرطان بمستشفى الملك فيصل التخصصي، وعضو مجلس الشورى، والفائزة بجائزة هارفارد للتميّز العلمي، وكرّمها الملك عبدالله كما كرمها العالم في أكثر من محفل، ومع ذلك يتم إقصاؤها من المنصة. لا ألوم الكريع لانسحابها، فهذا الإجراء التعسفي بحقها هو غياب عن العالم يتنافى مع مكانة المرأة ودورها في المجتمع.
في عام 2015، وجهت اللجنة المنظمة لمعرض الكتاب ضربتين استباقيتين للمحتسبين؛ الأولى منع المغامرين من توزيع المطويات والأشرطة المشبوهة على الزوار دون موافقة خطية من إدارة المعرض. أما الثانية فهي تأكيد إدارة المعرض على وجود جهات أمنية احترازية، تحسّبا لأي محتسبين مشاغبين قد ينشرون الفوضى داخل المعرض.
تعرض المحتسبون في معرض 2015 للأستاذ في جامعة الملك سعود معجب الزهراني بعنف لفظي غير مسبوق. حاول الزهراني التوضيح للطفيليات السائبة أن هناك فارقا كبيرا بين الآثار والأصنام، إلا أن المحتسبين رفضوا هذا المنطق ربما عملا بمبدأ “كله عند العرب صابون”. كذلك قاطع المحتسبون عرض أفلام سعودية صاحبتها موسيقى تصويرية على مسرح المعرض، بالتكبير والصراخ والتذكير بالآخرة وعذاب النار. إلا أن أكثر ما أثار غضب المشاغبين هو عرض فيلم “سكراب” للفنانة سناء يونس لوجود مشهد عن قيادة المرأة للسيارة.
لا أعلم إذا كان عنوان معرض الكتاب 2015 هو “تعايش” أم “تداعش”، فقد بدأ المحتسبون بملاحقة التشكيلية السعودية نجلاء السليم، طالبين منها بالعويل والصراخ ترك المكان (هكذا لله في الله)، وأن تتجه إلى الدور الثاني المخصص لتحجيم دور المرأة. حاولت السليم التوضيح لهم بأنها مشاركة في الندوة لكنهم رفضوا وجودها على المنصة. كذلك تعرضت الروائية أميمة الخميس لعملية فصل عنصري مشابهة. اعتذرت أميمة عن المشاركة في فعالية ثقافية بسبب إقصائها من المنصة الرئيسة. هذا ليس كل شيء، فقد تمنع النساء من حضور أمسية شعرية نظِمت في أحد فنادق الرياض ضمن فعاليات معرض الكتاب. بكل بساطة، رفضت اللجنة المُنَظِمَة حضور المرأة؛ أي “اقضبي الباب واطلعي بَرة”..
عودة إلى المعرض الحالي، المتحدث الرسمي باسم وزارة الثقافة هاني الغفيلي أكد أن اعتراض المحتسب على مشاركة ماليزيا بفلكلور شعبي في جناحها بالمعرض، هو اعتراض فردي وقد تم التعامل مع الحدث بصورة سريعة جدا من قبل الجهات الأمنية، وهو (أي الطفيلي المحتسب) رهن التحقيق.
في نهاية الأمر لا يصحّ إلا الصحيح. إطلاق الصحويين المتشائمين الدعوات لمقاطعة معرض الكتاب، بحجة “عرض كتب تشجع على تحرير المرأة والاختلاط”، مثل ذر رماد في العيون ووصفه أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل بأنه “دعوة من حاقدين وحاسدين”.
الصورة ليست كلها قاتمة. بالرغم من تلويح كتائب الصحوة بـ“لواء الفضيلة” واعتراضها على الموسيقى، إلا أن الفنانين محمد عبده وراشد الماجد أعادا في مهرجان موسيقي رائع ما افتقدناه على مدى ثلاثين عاما قاحلة. غنى محمد عبده “ردي سلامي”، و“أيوه”، و“علمتني وشلون أحب”، وأبدع راشد الماجد في ترديد “مسافر في سما النسيان”، و“ما أبي أسمع رجاوي”.
الجدل في أمور المجتمع السعودي ظاهرة صحّية، ولكن العنف والتطرف أمران مرفوضان ولن يقبلهما عاقل. المجتمع السعودي رسم لنفسه مستقبلا بالعلم والثقافة والصوت واللحن، أما جحافل التطرف أصحاب محرمات الصحوة، فهم كالطفيليات تعيش في الظلمة. الهدف معروف وهو تخلف المجتمع وتحكم الفكر المتحجر.
نقلا عن العرب