18 ديسمبر، 2024 10:04 م

المنزل ، البيئة الاولى التي تصقل الانسان ، فقد صدق من قال : (التعلم في الصغر كالنقش في الحجر) ، وعندما يواجهة المجتمع ، يكون اما جوهرة ذات بريق اخّاذ ، او حصاة صماء لا نفع منها سوى شج الروؤس ! ، فما اندر الجواهر ، وما أكثر الحصى.
للطفولة العراقية في الستينات والسبعينات قصة طويلة محزنة ، خصوصا وان السلطات العراقية في تلك الفترة وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين ، سلطات دموية ، شمولية ، بوليسية ، دكتاتورية مبنية على عبادة الفرد وتأليهه ونعلم ما للسلطات من دخل تربوي كبير في نفوس الاطفال والمراهقين .
كان مستوى المعيشة للعوائل العراقية في تلك الفترة دون الوسط ، وكبقية اقراني اتذكر كيف كنت ارتاد المدرسة غالبا بلا مصروف ، معظم ملابسنا كانت من سوق الملابس المستعملة (اللنكات  أو البالة حاليا) ، وكنا ندعوها تندرا وتهكما بل وبمرارة انها انتاج شركة (لانكستر) ! .
كان المستوى الثقافي العام للآباء متواضعا ، لكن الحياة بسيطة ، وعرفت المثل الدارج آنذاك (لا أحد يموت جوعا) ، فكان ذلك ذريعة للاباء لتلبية غرائزهم دون حساب للمستقبل ، ولهم بذلك شيء من الحق ، فقد كان افق الترفيه عن النفس ضيقا للغاية بعد يوم مضن من العمل ، والمستوى الثقافي للامهات اكثر تواضعا ، فكانوا لا يملون من ( أكل الحصرم ) ، ليتركوا لنا عسر الهضم !.
كانت السنوات الاولى للمدرسة مرعبة حقا ، نظرا لقسوة المعلمين اللامتناهية ، واسلوب الشتائم والضرب بالعصي والصفعات الذي يفوق عمرنا بكثير ، وبنفس الوقت كنت اشعر بالاشفاق رغم صغر سني ، على المعلم الطيب المتساهل لكثرة ما يلاقيه من فوضى وقلة ادب من قبل التلاميذ المشاغبين في الدرس ، فأين الخلل ؟ ، ومن الذي على حق ؟ ، انها حلقة مفرغة .
كان المعلم يلجأ الى اسهل الطرق ، العقوبة الجماعية ، بسبب بضعة مشاغبين ، وهم بذلك كمن يسجن بريئا مع المجرمين ، فيحترق الاخضر واليابس .
كنا نخشَ معلمينا أكثر من احترامهم ، فأن شاهدنا احدهم على قارعة الطريق ، كنا نولي الادبار متوارين  عن انظارهم .
وفوق ذلك ، كانت الحكمة آخر ما يتحلى بها الطالب الضخم او القوي البنية ، وهكذا تحولوا الى مبتزين وبلطجية ! ، تلك هي الدروس الاولى في ثقافة العنف .
لكن ذلك لا يعطي مبررا للتنفيس عن الضغط باللجوء الى العنف مع الكائنات الضعيفة  ، فالجرو الصغير او الكلب المريض ، او القطة الصغيرة كانت تتعرض في الطرقات الى عنف وسادية تفوق التصور ومثيرة للاستغراب من قبل كل الاطفال في الشارع ، تكون حصيلتها ان تتحول الى اشلاء بعد تكالب (الطفولة) عليها ! ، او يدحرجونها بالعصي الى الشارع حيث السيارات المسرعة ، فيلتذون باصوات عظامها وهي تسحق ! ، وهكذا فقدت الطفولة برائتها.
اني لأعجب من امر ذلك البدوي المسكين الذي يبيع ملحا على بعيره ، فما ان يدخل مدننا مع البعير ، ذلك المخلوق المثير للفضول والذي لا نراه الا نادرا ، حتى تتكالب عليه (الطفولة) ، يرمون المسكين بما تصل اليه ايديهم من حجارة وعصي ، مرددين أهازيج غير مؤدبة على الاطلاق.
لم يكن ذوونا يسمحون لنا بالخروج ، فكنت اكتفي بالتفرج متسائلا عن سر ذلك البدوي ( ان بضاعة هذا الرجل لا تزيد على دينار واحد ، يقطع لأجلها مئات الكيلومترات ، ويلاقي لأجلها ما يلاقي )!.
ولم يكن المتسولون بأفضل حالا من ذلك البدوي ، الى ان قرر احدهم ان يضع حدا للتسول  بأن يعمل من عرق جبينه ، فأختفى عدة شهور ، ليظهر في الشارع كبائع متجول يدفع عربة لبيع (الداطلي) ، وضع فيها حاله وماله وسنين من التسول  والاهانات وهدر الكرامة ، ولكن ذكراه لم تزل طرية في ذاكرة الطفولة التي تكالبت عليه هو الاخر ، فرجموه بالحجارة كالشيطان ، وحطموا عربته بما تحمل ، ونثروا محتواها على الارض  ، فولّ هاربا لاعنا حظه العاثر ويوم ميلاده ، وسط صيحات الشياطين الصغار ! .
كان هم الاباء الاول هو كيف يحشون بطوننا ، وللاسف تركوا الجوانب الاخرى ،الوالدة تولول من وضع المنزل المتردي اقتصاديا ، وتسرد قائمة طويلة من الشكاوي عن تصرفات الاولاد على اسماع الوالد الصامت ، الذي يلوك همومه مع افطاره ،هكذا يبدأ يومه .
ودخلنا المتوسطة ، وهنا أطلت سطوة السلطة برأسها ، وبدأ غسل الادمغة بهراء الشوفينية نحو : الفضل يعود للسلطة كوننا أحياء ، السلطة هي التي البستنا الاحذية ، هي التي تؤمن لنا المأكل والملبس ، نحن مدينون للسلطة بحياتنا ، علينا ان نكون اول المضحين وأخر المستفيدين ، الوطن مقدس ، علينا ان لانبخل عليه دمائنا ، ولم يبق الا شعار واحد هو ان السلطة هي التي خلقتنا !.
وكنت اتسائل متعجبا رغم سني ، عن هذا الهراء : فانا غير مقدس في بلدي ، أهان كل يوم في طوابير الخبز ، والسلطة تتصيد الناس عند اقل زلة ، ليغيبوا الى الابد ، الكادح يحصل على اقل من نظيره في دول العالم ، ونعلم ان السلطة تسرقنا ، فمن اين اتت هذه القدسية ! .
وبدأت المضايقات من أجل زجنا في الحزب الواحد ، الى درجة كانت تصل الى التهديد بعدم قبولنا في المرحلة الدراسية اللاحقة.
كان (اتحاد الطلاب) ، واجهة الحزب ، ذو سطوة تفوق سطوة المدرسين وحتى المدير نفسه ، وأضطر المدرسون الى محاباة ومجاملة طلاب الاتحاد الذين غالبا ما يكونون ذوو مستوى دراسي ضعيف ، ولكنهم كانوا ينجحون دون جهد ! ، هكذا بدأ الفساد ينخر المؤسسات الاكاديمية في كل المستويات .
كنا نسمع الكثير من قصص العنف ، عن المصير الاسود لساسة العراق السابقين ، وكيف انتهوا بمنهى العنف والسادية ، من سحب لجثثهم في الشارع  من قبل شباب هم نفسهم الشياطين الصغار ولكنهم كبروا ! ، (فالتعلم في الصغر كالنقش في الحجر) ، والتعليق بالحبال في الميادين العامة ، وكانت الدولة تروج لاشاعات حقيقية عن مصير المعارضين ، من احواض (الاسيد) ، وطرق للتعذيب ينفر منها ابليس ، ومفارم البشر ، والتغييب الابدي في السجون .
وعند انتقالي الى مرحلة الاعدادية ، منتصف السبعينيات ، كانت العقبة الكبرى ، فالطريق الى غرفة المدير لتقديم اوراق الالتحاق ، تمر عبر غرفة الاتحاد .
كانت غرفة الاتحاد قذرة ، مليئة بالغبار والاوراق المهملة ، وقد زينت الحيطان بشعارات نحو  🙁 عملك شرفك ، فمن لايعمل فلا شرف له ، الواجبات اولا ثم الحقوق ، الطالب الجيد هو البعثي الجيد …..)، الى غير ذلك من الهراء .
تبجحوا كثيرا بمجانية التعليم ، وتحدثوا عنها وكأنها منة من السماء ، وعرضوا علي الانتماء الى الحزب ، فكنت اتهرب بشتى الوسائل من ان وقتي مخصص للدراسة ، وما دمت طالبا جيدا فأنا بعثي جيد وهذا تجسيد للشعار .. ، ولكن دون فائدة .
وعندا لمسوا مني موقفا متصلبا ، رموا اوراق التقديم جانبا قائلين بالحرف الواحد ) لن تدخل المرحلة الاعدادية في اي مدرسة ، الا بعد انتمائك للحزب ، ومشاركتك بمعسكر صيفي للعمل الشعبي!) .
وهكذا اضطررت صاغرا ان انتمي للحزب والمشاركة في المعسكر ، فأعطاني المسوؤل استمارة مثيرة للعجب ، كتب فيها ( اني الطالب ــــــــــــــــــ اود الانتماء الى صفوف حزب البعث ، نظرا لرغبتي الملحة ) ! ، فلا حول ولا قوة الا بالله .
هكذا بدأ كذبنا على بعصنا في كل مفاصل الدولة .
كانت الاجتماعات الحزبية سمجة ومملة ومضيعة للوقت والجهد الى ابعد حد ، وكان توقيتها مزعجا في نهاية الدوام ، وغالبا ما كنا نتهرب من الحضور ، فكان المسوؤلون الحزبيون (يصطادوننا) عند بوابة الخروج .
وفوق ذلك كانت الخطورة تكمن في هذه الاجتماعات ، فكانوا يشجعون ضعاف النفوس على الوشاية والتجسس على اقرانهم ، بل وحتى افراد عائلته ، وكانت مجموعة من التعميمات المريضة من قمة الهرم تتلى علينا ( لا تستمعوا الى الاذاعة الفلانية ، استمعوا الى الاذاعة الفلانية ، ابلغوا عن اي مشبوه ، تحركوا على الطالب (فلان) ، لينتمي لصفوف الحزب ، راقبوا فلان ، اقرؤا كتاب الرفيق الفلاني ).
ولم تكن (البلطجة) غائبة على الاطلاق ، فكانت تعطى التوجيهات الى طلاب محددين (لضرب فلان) ، للاشتباه بانتمائه الى الحزب الشيوعي ! ، او اي حزب اخر .
كان مفهوم (الشرف) لدينا ضيقا للغاية ، فقد كان يعني ( العفة ) ، اي نقيض (الزنا) لا أكثر! ، ولم نكن نعلم ان مئات المفاهيم الاخرى كالنزاهة والصدق والامانة واتقان العمل والايثاروالرجولة الحقة والنبل  تندرج تحت عنوان الشرف ! .
وبذلك ضيعنا (المشيتين) كما يقول المثل العراقي ، فلم يعف شبابنا ، ونادرا ماكان يتصف بالقيم القياسية للشرف ، لانه لا يعرفها ، وان عرفها ، فبعد فوات الاوان !.
فماذا سيكون مصير مجتمع ما بهذه العقلية ؟ ، وفوق ذلك كانت كل التصرفات الدونية كالمخاتلة والخيانة والتخريب والتزلف وحتى السرقة ، صفات تضفي على صاحبها هالة من الاعجاب ، ما دامت بغير علم الدولة ورب العمل ، انه نوع من ( الانتقام ) من النظام لاشعوريا ، دون علم انه انتقام من الذات ! ، فيقال عنه (سبع) او( ذئب ) ، يعرف كيف ينتزع  حقه !.
انها ولا شك عقلية خطيرة ، وهي متفشية في كل المجتمعات العربية وان كانت بنسب متفاوتة .
هكذا كان الشباب يتحلون بالشرف امام الناس ، ولكنه شرف كاذب امام الذات وامام الله .
وترى القيادي لدينا متعاطيا للخطابة البليغة ، والكلمات النارية ، والعبارات الحماسية  ومتهافت على الاضواء ، وفي الواقع فانها وعود كاذبة ، وكلام اجوف ، يكذب علينا ويسرقنا دون كلل ، نحن نعرف ذلك ، وهو يعلم بذلك ، فنصفق له ، ويعالج المشاكل من نهاياتها دون التقرب على الاطلاق من بدايات الجذور ، هذه هي مصيبتنا نحن العرب ، ولذا صرنا ما نحن عليه في الدرك الاسفل من التخلف ، استهلاكيون فقط كالدواجن  ،اضحوكة بين الامم ، نتصرف بالثروات التي انعمها الله علينا ، لنتخم كروشنا ، وننفق الباقي على مومسات اوربا وصالات القمار ، اما الفائض ، فكنا نشعل به الحروب المجانية ! ،  فأي شرف ، ذلك الذي نتبجح به ؟ ،لقد ماتت عندنا منذ قرون ، روح البحث والمغامرة ، واحترام الحياة والابداع الخلاق ! ، ومن بقيت لديه هذه الصفات ، يصطدم بجبال جامدة من بيروقراطية الدولة ، ورؤساء متخلفون ، تختارهم السلطة بعناية ! ، وصرنا متقولبين بقالب واحد جامد غير متحرك ، يجعلنا نرغب في نسف من يحمل افكار معارضة .
اني لأشتعل غيرة ، من الدولة التي لا ثروات لها ، ولكنها تتمتع بأعلى دخل للفرد ! ، تقيم الدنيا ولا تقعدها ان تعرض احد رعاياها في اقاصي الارض الى مكروه ، واسأل نفسي ، هم بشر ونحن بشر ، فماذا دهانا ؟ ، ولكنها القيم التي شببنا عليها .
يذبحنا (القائد الاوحد ) كل يوم ، ولا نكف عن تقبيل قدميه ، اما مسح الاكتاف ، فهذا امتياز نتباهى به ! ، الى درجة الاعانة على الظلم انطلاقا من المبدأ الجاهلي :(انصر أخاك ظالما او مظلوما ) فتفشى بيننا المبدأ الفج ( اليد التي تخافها قبّلها ، وادع  لها بالكسر )!.
يلجأ هو الاخر الى العلاج الاسهل ، قتل مائة بسبب واحد مشكوك فيه ، وتستعر لدى  التسعة والتسعين الباقية الرغبة في الانتقام (هذا ان بقوا أحياء) ! ، انها عين الحلقة المفرغة .
فايهما أفضل ، انتخابات ( التسعات الثلاث ) الهزلية المبكية ، وبرلمانات ذات شرف زائف لا تكل ولا تمل من التهليل والتأليه للقائد الاوحد ، ام برلمانات ذات شرف حقيقي ، لا تتردد عن ركل مؤخرة سيادة رئيس الدولة الى خارج ( القصر الجمهوري ) عند اقل زلة ، فهو مجرد موظف ! ، والكفاءة هي الفيصل ، فالامانة ثقيلة جدا ، ولكن الامانة غائبة عن محتوى قيم شرفنا !.
اذا تحدثت مع اي عربي ، سلقك بلسان حاد ، عن النخوة ، والشجاعة ، والكرم ورفض الضيم ، والغيرة ، وكيف ان لدينا تاريخ يمتد لألاف السنين ، ويعطيك قائمة بشخصيات عاشت قبل الف عام ، فلماذا لم تصقلكم الحضارة ، ثم ان تاريخنا مليء بالدم والجور والفرعنة والطغيان والسخرة ، لماذا وليتم على انفسكم صعاليككم ، واراذلكم ، واقصركم نظرا ، سوى انهم (يتمتعون) بصفات لا تتوفر عند الرعية حقا ، انها الخبث والاجرام والغدر ، فبرز قائدا ، ذلك  هو المقياس ! ، ام انها (جينات) الجاهلية ، والعصبية القبلية ؟! ، فما ابلغ عبارة الامام علي ( كيفما تكونوا ، يولّ عليكم ) .
وهكذا اضاعوا (المشيتين) مرة اخرى ، فلا هم ملتزمون بمبدأ (الشورى) ، فأن اكتسح الموت احد قادتنا الجمهوريين ، اوصى بها الى ابناءه ليتلاقفوها كما يتلاقف الضباع الجيفة ، وكأن البلاد عقمت  عن انجاب القادة ، بل وكأن البلاد عرصة من ارث الذين خلفوهم ، ولا هم ملتزمون بمبدأ الملكية الدستورية  ، وتبقى (الشورى) ويبقى البرلمان ، اسم فقط .