كان مضطراً للالتزام بالسرعة القصوى رغم أنه تأخر في مغادرة البيت، تقديره للوقت يجعله يشعر بأنه سيصل متأخراً عن موعد بدء الاجتماع، وهو لا يحب أن يسجل عليه مثل هذا التأخير، رغم أن من يسكنون في رام الله يأتون بعده في العادة وهو القادم من نابلس. تأخر لأن طفلته أرادت منه أن ينتظر حتى تحل واجباتها المدرسية وتريد منه أن يتأكد من أنها قامت بحل التمارين بشكل صحيح. قال لها أنه سيفعل ذلك عند عودته، لكنها أجابته بأنه ربما سيصل ليلاً وتكون قد نامت، وما الفائدة إن لم تعرف خطأها وتصلحه، فغداً صباحاً لن تستطيع ذلك فالوقت سيكون ضيقاً للفطور وتحضير نفسها للمدرسة. امتثل طائعاً لطلبها، ورجاها أن تركز على الحل عندما حاولت أن تحدثه بأشياء أخرى. اضطر للالتزام بالسرعة القصوى لأن الشرطة قد خالفته في المرة السابقة على الرغم من أن سرعته لم تزد عن السرعة القصوى سوى خمسة كيلومترات في الساعة في هذا الشارع، ولم يجادل الشرطي في ذلك لأنه كان يريد الخلاص من الأمر سريعاً ففي جيبه أوراق وبيانات ستؤدي لاعتقاله لو فتشوه. بعد الخروج من منطقة السرعة المحددة بخمسين كيلومتراً في الساعة، ضغط على دواسة البنزين ليكسب الوقت ويصل في الوقت المناسب للاجتماع التنظيمي، شكراً لسيارة الفولكس فاجن الخنفساء الحمراء التي لا تخذله، إذ تستجيب لضغط قدمه وتنطلق بأقصى سرعة.
انتهى من تعرجات الطريق الصاعدة ووصل الحاجز العسكري لجيش الاحتلال فوجده مفتوحاً والجنود لا يوقفون السيارات رغم أنهم متواجدون على الشارع وخلف المكعبات الخرسانية وفي البرج. اعتبر ذلك حظاً جيداً، لقد كسب الوقت الذي كان يمكن أن يخسره في الانتظار على الحاجز. وصل بداية الشارع الذي يخترق السهل وقرر أن يستغل الفرصة بزيادة السرعة لأنه سيضطر لتخفيفها عندما يبدأ الطريق المتعرج القادم بالصعود، استعد للانطلاق وتجاوز السيارة البطيئة التي أمامه، نظر في المرآة الخلفية، فرأى سيارتين عسكريتين، فتراجع عن قراره بتجاوز السيارة التي أمامه وتباطأ ليترك المجال للسيارتين بأن تتجاوزاه. لم تفعلا ذلك رغم أن سرعته أقل من المعتاد. استمر الوضع وبقيت السيارتان خلفه بمسافة ثابتة رغم أن الشارع مفتوح، ف”لعب الفأر في عبّه”، “هل أنا ملاحق؟”. بعد مسافة تجاوزته السيارة الأولى وبقيت الثانية خلفه. أصبح أقرب إلى التأكد من أن في الأمر فخاً، إذن سبقته الأولى وبقيت الثانية خلفه، ربما ستقوم الأولى بإيقافه بعد مسافة وتكون الثانية خلفه وتطبق عليه المصيدة. تحسس الأوراق في جيبه، قرر سريعاً التصرف. أخرج الأوراق وبدأ بمضغها بما أوتي من قدرة، لحسن حظه كانت قارورة ماء بلاستيكية على أرضية السيارة عند المقعد المجاور، تناولها بحذر وشرب، ثم أتى على بقية الأوراق. لحسن حظه كانت غالبية الأوراق من الورق الشفاف باستثناء نسخة البيان الذي ستتم مناقشته. انتهى من الطريق الجبلية المتعرجة والسيارة الأولى أمامه والثانية خلفه، فكّر “إذن سيطبقون المصيدة عليّ عند المستوطنة ليكون الأمر سهلاً عليهم بإدخاله هناك وتفتيشه وتفتيش السيارة على راحتهم”، وتخيّل فشلهم في العثور على شيء، الشيء صار في بطنه. تجشأ وأحس بطعم الورق يملأ فمه.
قبل المستوطنة بمسافة تجاوزته السيارة التي كانت خلفه، ولحقت بالسابقة، وعند اقترابهما من مدخل المستوطنة أعطت إشارة بالانعطاف يساراً، ثم انعطفت السيارتان ودخلتا المستوطنة. فكّر فيما إذا كان قد تسرع في قراره بالتخلص من الأوراق، ولكنه طمأن نفسه أن كل المؤشرات كانت تشير إلى مصيدة وأن الاحتياط كان واجباً وعليه ألاّ يلوم نفسه ولن يسمح لأحد أن يلومه.
وصل الاجتماع، لم يكن آخر الحضور، قالت الرفيقة التي ستقود الاجتماع لننتظر خمس دقائق حتى يصل الرفيق المتأخر، قال دون أن يسمعه أحد، ولكنه سمع نفسه “الرفيق المعتاد على التأخير، المتعود” وابتسم ثم ضحك بصوت مكتوم متذكراً عادل إمام في مسرحية شاهد ما شافش حاجة “متعودة، متعودة”. سألوه عمّا يضحكه، فأجاب أنه سيحدثهم حين يأتي المتأخر.
اكتمل الحضور، أخبرهم بما جرى معه، وحاول أن يتذكر جميع الاقتراحات التي كانت تحتويها الأوراق، ولخص التعليقات على البيان، وطلب أن يستأذن بالعودة مبكراً حتى لا يتأخر على الحواجز الثابتة وربما ستكون هناك حواجز متحركة أو طيّارة كما تدعى. ولكن أحد الرفاق سأله “وما المضحك في ذلك؟”، قال بأنه تذكر أن طعم الورق في هذه المرة يختلف عن طعمه في مرة سابقة، فسألوه بفضول “وما المرة السابقة؟”، ضحك وقال “سأحدثكم عنها في مرة لاحقة”.
خرج من الاجتماع وعرّج على محل الحلويات المعتاد على الشراء منه، اختار نوع الحلويات الذي تحبه زوجته، وأخذ قطعة عسى أن يتغلب على طعم الورق الذي ما زال يملأ فمه. في طريق العودة، قاد السيارة على مهله مستمعاً لأم كلثوم من راديو السيارة، متذكراً المرة السابقة التي ملأ طعم الورق فمه وفم رفيقه الذي كان يشاركه السكن قبل أن يتزوج.
استيقظا فجأة على صوت طرق شديد على باب العمارة، ثم ملأ صوت الجنود وكلماتهم العبرية سمعهما، وعندما هدآ أدركا أن الشقة المستهدفة شقة جارهم. كانا يستمعان لصوت الجار وزوجته يجادلان الضابط بأن طفلتهم نائمة وعليهم الهدوء. وضعا احتمالاً بأن الدور سيأتي عليهما، وهناك احتمال أن يداهم الجنود شقتهما في أية لحظة، تشاورا فكان القرار أن يتخلصا من الكتب والمنشورات الكبيرة بوضعها في الخارج في وعاء القمامة الموجود عند الباب الخلفي للشقة حتى إن وجدها الجنود ينكرون صلتهما بها، أما الأوراق الصغيرة فقررا التخلص منها بابتلاعها، وكان لا بد من تمزيقها قطعاً قابلة للمضغ والبلع. بدآ بالمضغ وشرب الماء مع التركيز على كل صوت من الشقة المجاورة، استمرا حتى أنهيا كل الأوراق الصغيرة وجلسا. تجشأ بصوت عالِ فسأله رفيقه ساخراً “شو أكلت منسف؟”، وما أن أنهى كلماته حتى تجشأ هو الآخر، فانفجرا في نوبة ضحك حاولا أن يكتماها.
هدأت الأصوات، ثم سمعا أصوات الجنود يخرجون من الشقة وجارهم يوصي زوجته على طفلتهما.
بعد أن سمعا صوت السيارات تغادر الشارع، فتحا الباب، كان صاحب العمارة يقف في الفسحة بين الشقتين، ويواسي زوجة الجار، انضما إليه في المواساة وشد عزيمتها وتمنياتهما بعودته سالماً في أقرب وقت وأنهما مستعدان لتقديم أية مساعدة.
عادا إلى الشقة، بقيا ساهرين يتجشآن ويضحكان من باب شر البلية ما يضحك، وعند انبلاج أول ضياء الصباح خرجا وأعادا الكتب والمنشورات، وحضرا القهوة لمحاولة التغلب على طعم الورق.
عاد طعم الورق إلى فمه، فتناول قطعة حلوى أخرى من العلبة التي كان قد تركها مفتوحة على المقعد المجاور.