23 ديسمبر، 2024 5:11 ص

«طشّار» حزبي يأخذ العراقيين إلى الانتخابات

«طشّار» حزبي يأخذ العراقيين إلى الانتخابات

اختارت الصحافية والروائية العراقية، الزميلة إنعام كجه جي، لروايتها الثالثة عنواناً مُختصَراً للغاية ومُعبِّراً تماماً، هو «طشّاري». هذه كلمة من اللهجة العراقية منحوتة من كلمة «طشّار» التي تعني التشتّت أو التفرقّ أو التناثر، وترد في مقولة شعبية متداولة في الحياة اليومية على نسق الأمثلة السائرة: «صار طشّارهم ما له والي»، أي أنهم أصبحوا شذرَ مذر.
كجه جي جسّدت في روايتها الجميلة هذه محنة العراقيين الذين «صار طشّارهم ما له والي» منذ أربعينات القرن الماضي تحت وطأة التمييز الجائر، الديني والقومي والمذهبي والسياسي، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية والخارجية الطاحنة.
عنوان رواية كجه جي هذه يُمكن استعارته الآن لإيجاز ما آلت إليه الحال السياسية في العراق عشية الانتخابات البرلمانية والمحلية المُفترض إجراؤها في مايو (أيار) المقبل. كل الانتخابات السابقة كانت تشهد عمليات تمركز وتركيز على أساس طائفي (شيعي، سني)، أو قومي (عربي، كردي، تركماني، كلداني – آشوري). لكنّ الانتخابات الجاري التحضير لها الآن تتميز بـ«طشّار ما له والي» بين القوى السياسية، فالائتلافات الشيعية تشرذمت هذه المرّة، وكذا السنيّة والكردية، بل إن الطشّار ضرب التيار المدني الأحوج من الآخرين إلى الائتلاف والوحدة، والأضعف تمثيلاً في العملية السياسية التي أنشأها الأميركيون والبريطانيون بعد إسقاطهم نظام صدام حسين على قاعدة المحاصصة الطائفية – القومية.
الثلاثاء الماضي أعلنت المفوضية العليا للانتخابات أنها سجّلت رسمياً لغرض خوض الانتخابات 27 تحالفاً تضمّ 143 حزباً وكياناً سياسياً، وهما رقمان قياسيان نجما عن عملية تشرذم واسعة النطاق ضربت الائتلافات والأحزاب التي خاضت الانتخابات السابقة (أربعة برلمانية وثلاثة محلية) وكانت فيها موحدة إما على الأساس الطائفي أو على الأساس القومي.
هذا الطشّار يُمكن ردّه إلى عاملين اثنين رئيسيين، الأول: زيادة عدد الطامعين في الوصول إلى مصادر السلطة والنفوذ، وفي الغالب فإن الهدف من مسعى الوصول هذا ليس الانخراط في خدمة الشعب والوطن، إنما الحصول على المال، فقد بقي المال العام في العراق على مدى الأربع عشرة سنة الماضية سائباً، مما تسبّب في التشجيع المفرط على السرقة، بل النهب المعروف في اللهجة العراقية بـ«الفرهود»، حتى أصبح العراق في مقدمة الدول التي تفشّت فيها ظاهرة الفساد الإداري والمالي ليس فقط على وفق ما يتردّد دورياً في تقارير المنظمات الدولية ذات العلاقة (الأمم المتحدة، منظمة الشفافية الدولية، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، بل كذلك باعتراف قادة العملية السياسية. ومن القضايا الكبيرة التي تُعلن الحكومة هذه الأيام الاهتمام بها، بمساعدة هيئات دولية، تقصّي مصير ما يزيد على ثلاثمائة مليار دولار في الأقل من عائدات النفط كانت مخصّصة لبرامج التنمية والخدمات العامة، اختفى كل أثر لها.
أما العامل الثاني لهذا الطشّار السياسي – الحزبي فيكمن في أن العملية السياسية التي اعتمِدت على أساس المحاصصة الطائفية – القومية قد أثبتت فشلها الذريع ووصلت إلى طريق مسدودة، فبدلاً من أن تجلب الوحدة إلى مكوّنات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية، وتحقّق الاستقرار والتنمية للعراق الذي طبع العنف الدموي تاريخه على مدى أكثر من نصف قرن، صارت هذه العملية السياسية الهجينة من العوامل المحرضّة على الصراعات والنزاعات الطائفية والقومية والسياسية الدامية، وكان نجاح تنظيم داعش الإرهابي في اجتياح ثلث العراق، بمدنه الكبيرة ومساحاته الواسعة، بسهولة شرب الماء، إعلاناً صارخاً بفشل هذه العملية السياسية، بل عدم صلاحيتها في الأساس وخطر الاستمرار بها. هذا بالذات ما أدى إلى ارتفاع نبرة المطالبة بالتغيير والإصلاح في أوساط المجتمع العراقي وحتى داخل الأحزاب الحاكمة نفسها. وعكست نزعة التغيير عملية الانشقاقات الداخلية للأحزاب والائتلافات السياسية، وكذا الحركة الاحتجاجية التي انطلقت في أواسط 2015 وتستمرّ حتى اليوم في العاصمة بغداد وسبع محافظات أخرى في الوسط والجنوب.
هذا الطشّار ليس إيجابياً بالمطلق ولا هو سلبي بالمطلق كذلك. السلبي فيه أن أصوات الناخبين ستتشتّت أكثر من ذي قبل لتتوزع على 27 ائتلافاً و143 حزباً وجماعة، وستكون الكتل في البرلمان المقبل أقل قوة، مما يزيد من مشقّة تشكيل الحكومة المقبلة لصعوبة تحقيق التوافق وتأمين الأغلبية السياسية، فيما العراق في الظرف الراهن تمسّ حاجته إلى حكومة قوية تشرع في الحال بعملية الإصلاح السياسي والإداري المطلوب ومكافحة الفساد وإعادة إعمار المناطق المُدمّرة وتوفير الخدمات العامة وإعادة الحياة إلى الاقتصاد شبه الميّت لاستيعاب البطالة الكبيرة في صفوف الشباب خصوصاً والتخفيف من مستويات الفقر المتفاقمة.
لكنْ في المقابل، فإن الإيجابي في حال الطشّار الراهنة أنها تدفع مستقبلاً في اتجاه تفتيت القوى والأحزاب الطائفية – القومية التي فرضت ديكتاتوريتها «التوافقية» في السنين الأربع عشرة الماضية لصالح القوى والائتلافات الوطنية العابرة للطائفة والقومية، فسيكون لزاماً على القوى الحاكمة من الآن فصاعداً، للبقاء على قيد الحياة، تنظيف أنفسها من الداخل وتبنّي برامج سياسية وطنية، أي نابذة لمبدأ المحاصصة الطائفية والقومية الذي سمّم حياة العراقيين في العهد الجديد بمثل ما كانت عليه الحال في عهد صدام، وأزهق من أرواح العراقيين بقدر ما أزهقت حروب صدام، ودمّر بقدر الدمار الشامل في ذلك العهد.