طريق الهلاك والقبور المفقودة…. الجزء الخامس والاخير
هذه القصة مقاربة احداثها لاحد الحالات التي عاشت في مدينة الموصل اثناء الحرب..
وبعد ان تماثل للشفاء افتقد عائلته وعرف أنهم جميعاً اصبحوا في إعداد الموتى وان مدينته تحررت بالكامل وأنه مصاب بفقدان بسيط في الذاكرة.
خرج من المشفى ولايعرف اين يذهب ولكن ذاكرته قادته إلى بيت الحاج عبدالله هذا الشخص الطيب الذي ضيفهم في منزله وعند وصوله المنطقة التي يسكنها الحاج شاهد الخراب والدمار قد غير معالم تلك المحلة وبعد أن
وصل دار الحاج عبدالله طرق الباب ولم يخرج له أحد وبقي يطرق ويطرق دون جدوى فسأل أحد الشباب الموجودين هناك فأجابه بأنه لم يلاحظ أحد في هذا المنزل منذ تحرير المدينة وربما قد سافر اهلها أو ذهبوا الى المخيمات فطلب من الشاب أن يذهب معه إلى دار ابن الحاج عبدالله الواقعة خلف داره ودخل اليها وثم من خلال الباب الخلفي الداخلي دخلوا الى منزل الحاج عبدالله فوجدوه قد فارق الحياة وهو راكع فوق سجادته وجسده قد أصابه التفسخ فصرخ السيد توفيق بأعلى صوته لماذا تركتني ياحاج اين اذهب الآن. هدأ الشاب من روعته وأبدى له المساعدة وأخذه إلى منزله في الحي المجاور له ..ابلغه أنه ترك سيارته في هذا المنزل فنظر واذا هي ركام حديد أمام المنزل فعرف بأن كل السيارات قد اتخذها العدو خط صد في المعركة.
وبعد أن أفرغ الاستاذ توفيق كلامه قام الشاب واتصل بأحد أصدقاءه وهو ضابط في الجيش وموجود قريباً منهم .وبعد دقائق من غلق الهاتف جاء الضابط بسيارته العسكرية مبدياً تقديم المساعدة للأستاذ توفيق بعد أن قدمه له صديقه الجديد جيران الحاج عبدالله بعدها ذهب الشاب إلى أقرب جامع ليساعدوه في إخراج جثة الحاج عبدالله ويقومون بواجب الدفن في المقبرة القريبة منهم ..اما الأستاذ توفيق والعسكري الضابط الذي عرفه للتو فقد استقلوا سيارتهم وتوجهوا الى المجمع السكني الموجود في اطراف حي المأمون وعند وصولهم مقر المجمع شاهد أنه تحول إلى ثكنة عسكرية فابلغهم السيد الضابط بأنهم لديهم جثة مدفونة في أحد بيوت المجمع السكني ويريدون إخراجها فابلغه آمر الوحدة بأن سيارة الإسعاف قامت بنقل الجثث الموجودة الى الطب العدلي ومن هناك ابلغوهم بأن دائرة البلدية قامت بدفن كل الجثث التابعة لناس مفقودين. زادت حيرة السيد توفيق ومصيبته وتوجه بعدها للوحدة العسكرية التي أخذت جثث أبناءه طارق وتيسير ولكن عاد بخفي حنين ولم يجد جواب افضل من الجواب السابق حيث قامت سيارة الإسعاف بعد أن نقلوه الى المشفى بنقل جثث الاطفال إلى الطبيب العدلي وثم تسليمهم الى دائرة البلدية لدفنهم ..قدم شكره السيد الضابط الذي لم يقبل تركه وهو في حالة هستيريا وذهب معه إلى الطبيب العدلي وكان مقر دائرة الطب العدلي خارج حدود المدينة وهناك وجد اسماء وصور الآلاف من الضحايا وقد دفنتهم دائرة البلدية في أماكن مختلفة ويصعب عليه ايجاد اي قبر من قبور عائلته فأصبحت قبورهم مفقودة يجهل مكانها .
نعم إنه الاستاذ توفيق الذي خرج للهروب من الحرب والقتل ولكنه لا يعرف انه ذاهب إلى طريق الموت الذي أفقده كل افراد عائلته وحتى قبورهم أصبحت مجهولة وهل تم دفنهم في مقبرة واحدة أم أن القدر فرقهم في الدنيا وشتت قبورهم بعد الممات..
عاد إلى منزله بعد تحرير المدينة وقبل دخوله المنزل خرج جيرانه يسألونه عن عائلته وعن زوجته ام طارق والأولاد فلم يجيب إلا أنه وقف أمام داره وبدأ يتذكر اللحظات الجميلة التي عاشها مع عائلته بدأ يصرخ لماذا تركتموني يا أم طارق…
خرج جيرانه يقدمون له المواساة في هذه المصيبة ولكن الصدمة بفقدان عائلته كانت كبيرة جداً . ولايستطيع حتى التكلم معهم . اجتمعوا حوله والجميع قد أغرقت عيونهم بالدموع كان أحد جيرانه ويدعى ابو حيدر القصاب من أعز أصدقائه فعانقه وهو يقدم له التعازي والمواساة وأبدى استعداده للذهاب معه لانتشال الجثث من تحت الأنقاض ..هنا انتبه السيد توفيق لهذه العبارة وأبلغ صديقه أن دائرة البلدية قد دفنتهم جميعاً ..ولكن صديقه ابوحيدر سأله متى هذا الكلام وقبل ساعات من هذا اليوم أتى أحد جيران أهلك وأبلغه أن الجثث مازالت تحت الأنقاض .صرخ السيد توفيق عن ماذا تتكلم يا ابو حيدر فقال عن جثث عائلة والدك واخوانك وعوائلهم ..هنا سقط السيد توفيق مغشياً عليه مرة أخرى وبعد إفاقته تبين أن أحد جيران منزل والده في منطقة الميدان في الموصل القديمة يأتي يومياً إلى منزله ليبلغه أن جميع أفراد عائلة والده والبالغ عددهم أكثر من عشرين شخص قد لقوا حتفهم في معارك تحرير المدينة وان منزله حل به الدمار بالكامل وكل جثثهم مازالت تحت الأنقاض. أما هو فكان يظن أن جيرانه السيد ابوحيدر القصاب يقصد عائلته الشخصية زوجته أم طارق وأولاده طارق وتيسير ..
يالها من مصيبة جديدة فهو الآن وحده يصارع هذه المصائب وكيف تناسى عدم سؤال أهله عنه طيلة فترة رقوده في المشفى ..
لقد تحررت مدينة الموصل وفقد السيد توفيق كل عائلته وعائلة والده وكل عوائل اخوانه وانطفأت انوار هذه العائلة الموصلية العريقة الى الابد ..اطفأتها الحرب بنيرانها الملتهبة ..وفي فتره زمنية قصيرة انتهت عائلة كبيرة ورحلت عن الوجود عائلة الحاج ابو توفيق كانت من عوائل المدينة القديمة المعروفة على مستوى مدينة الموصل …عائلة قدمت للوطن اكثر من عشرين شهيد عند تحرير المدينة في عام 2017 …فهل رضيت أيها الوطن وانت تأخذ دمائنا الزكية وتجعل الموت يحصد ارواحنا الطاهرة .لم يبقى يسكنك من هذه العوائل الا السيد توفيق ذلك المعلم التربوي الفاضل وهو يعاني من مرض نفسي شديد وتركض الأطفال خلفه ويظنون أنه من المجانين في الشوارع .كيف لا وهو فعلا من المجانين بضحايا الحرب يتنقل يوميا بين حي المأمون وتل الرمان والمدينة القديمة يقف عند أبواب المعسكرات ويذهب إلى الدوائر الخدمية يبحث عن أهله عسى أن يجد أحدهم وهو يعرف أن الجميع في ذمة الله وتم دفنهم في مقابر مجهولة الهوية…
نعم انها الحرب التي تفرق بين المحبين وتحصد أرواح الناس الطيبين ولاتعرف حرمة شيخ وامرأة وطفل .. الحرب التي يحتفل بنصرها الطبقات السياسية ويحصد مأساتها الناس الفقراء وطبقات الكادحين .
الحرب التي دفعت بأوزارها خيرة شباب العراق عامة ومدينة الموصل خاصة إلى الموت…
الحرب التي ولدت الدمار الشامل والخراب التام في مساكن نصف المدينة وشلت حركة الحياة فيها …
ومن لم يسمع عن اكثر من مليون شخص يعيشون بالمخيمات ونازحين الى المدن الأخرى …الحرب التي استخدمت فيها كل الأسلحة المتطورة ودمرت كل البنى التحتية للمدينة وقطعت كل الجسور التي تربط الجانبين الأيمن والايسر للمدينة انها الحرب الطريق السريع للموت والمقابر المفقودة..انقل احداث هذه القصة للعالم اجمع ليعرفوا ماعانينا منه نحن اهالي مدينة الموصل ومازالت الجثث تحت الانقاض رغم مرور اربعة سنوات على وقف الحرب.. ……………….