23 ديسمبر، 2024 1:10 ص

طريق الهلاك والقبور المفقودة… الجزء الرابع

طريق الهلاك والقبور المفقودة… الجزء الرابع

هذه القصة مقاربة احداثها لاحد الحالات التي عاشت في في مدينة الموصل اثناء الحرب..
وبعد حلول الظلام وتحديداً الساعة الحادية عشرة من مساء ذلك اليوم الأغبر في حياة ابو طارق وعائلته ودع الحاج عبدالله ضيوفه ابوطارق وعائلته الى مصير مجهول لا يعلمه الا الله وفي ظلام الليل سار بعائلته الى المجهول وأثناء سيره بهذا الطريق البري وجد قسم من العوائل قاصدة نفس الاتجاه الذي يقصده السيد توفيق وأصبح لدى الجميع العزيمة بتشجيع بعضهم البعض سارو مسافة من الطريق في منطقة بين حي تل الرمان واطراف حي المأمون الحي الذي يعتبر آخر حي في اطراف الموصل حتى وصلوا الى المجمع السكني المسمى عين العراق هذا المجمع قبل عام 2014 كان معروض الاستثمار من قبل إحدى الشركات ولكن الحرب أوقفت كل شيء وهدمت الجزء الأكبر منه .
أرادوا الاستراحة قليلاً هناك ولكن لهفة الوصول إلى القطعات العسكرية باتت اكبر من التعب ومواصلة السير أصبحت ضرورية جداً وخاصة قبل الشروق وهم يسيرون مكشوفون في العراء .ولم يعرف الجميع وهم خمسة عوائل تقريباً أن الموت أصبح قريب جداً منهم .

تقدموا خطوات عن المجمع السكني ليتفاجؤ بوجود قناصين فوق أحد سطوح المباني في هذا المجمع وهم يحصدون أرواح تلك العوائل .وكانت أول رصاصة من احد القناصين تخترق جسد أم طارق الطاهر جسد هذه المربية الفاضلة التي خرجت الأجيال من الطلاب لخدمة هذا الوطن ولم تعرف اننا في بلاد لا يحترم العلم ولا العلماء بل لا يعرف اي معنى للإنسانية

سقطت على الأرض ودمائها الزكية تغطي وجه أبناءها ..ورائحة الدم تفوح على رائحة الارض …سقطت ربة الأسرة تاركة خلفها عائلة لا تعرف عن مصيرهم المجهول شيء .وهي لا تعرف أن الفاصل الزمني بين الحياة والموت واحد وقريب جداً. قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة كانت تصرخ أبنائي أحضروا لي يا أبا طارق امانتك الاولاد اريد أن اخذهم معي حتى اطمأن عليهم من وحوش الدنيا بني البشر الذين لا يعرفون الرحمة والشفقة ..اريد ان اذهب بهم معي الى مكان آمن لا يوجد فيه جوع اوعطش .يسكنه الجميع في جوار ظلال الرحمن ..
نترك هذه الدنيا بنفاقها وخدعها وكذبها وشهاداتها ونترك قصورنا واموالنا يا ابو طارق وها أنا أغادرها برصاصة طائشة لا يزيد وزنها عن الغرامات صنعها الانسان لقتل نفسه .
الوداع يا حبيبي الوداع ياتوفيق والى الملتقى بلغ عائلتي وعائلتك اننا اخترنا طريق النجاة من الحرب ولكنه تبين لنا أنه طريق الموت والهلاك ….

أبنائي طارق وتيسير امانتك وانت أهلاً لها ..ولفظت انفاسها الأخيرة وعيونها شاخصة ً على أبنائها …. .لقد سقطت الشهيدة نادية ومن معها برصاص هذا القناص الأرعن وفارقت روحها الحياة والاستاذ توفيق زوجها لا يعرف ماذا يفعل وهو يحضن اطفاله التوأم طارق وتيسير .صرخ صرخة مدوية ياالله لقد قتلت نادية .لقد قتل الشر الخير قتلت شريكتي في الحياة زوجتي الصالحة وبسرعة قام من معه بالانسحاب الى المجمع السكني وهم يسحبون جثث الشهداء معهم كانت الليل قريباً من بزوغ الفجر وضعوا الجثث في إحدى الغرف وبدأوا يبحثون عن أي آلة يستطيعون حفر الأرض المخصصة في تلك العمارة كحديقة لكي يدفنون قتلاهم . فوجدوا في العمارة المجاورة آلة حفر متروكة تعود لعمال تركوها منذ سنوات فحفروا الحديقة واودعوا الجثث كأمانة فيها لحين انتهاء الحرب .في هذه الأثناء كان الاستاذ توفيق يمر في حالة من الهستيريا فيهذي تارة ويضحك تارة أخرى وهو غير مصدق أن زوجته قد ذهبت عنه إلى غير رجعة .

كان البقية اكثر منه صبرا فذلك الأب دفن ابنه والآخر دفن آخاه وهم مؤمنين بقدرهم هذا القدر الذين جمعهم ولايعرف أحدهم الآخر جمعهم طريق الموت والخطورة وفقدان المحبين.

ما أصعب اقدارنا المختفية عنا .

الأقدار التي نحملها معنا دون أن نعرفها كالموت والخطورة والمرض والنجاح والصحة والعافية والرزق والعمر المحدود .

اتفق الجميع أن يبقوا جميعا في النهار في هذا المجمع وان يتقدمون في السير في الليل وعلى شكل فردي وليس كلهم دفعة واحدة على أمل أن لا يكشفهم القناص الذي يتواجد في بداية المجمع ولايستطيع التحرك خوفاً من اكتشافه من قبل الطائرات المسيرة للجيش.

أما أبناء الاستاذ توفيق يعتبر اليوم الثاني بالنسبة لهم وهم لم يتناولو شيء من الطعام .كان صراخهم يملأ المكان وهو يبحثون ويسألون عن والدتهم فيصبرهم من معهم بوعود فارغة وبما أن صوت صياحهم في الليل سوف يكون مكشوف للعدو اقترح أحد الموجودين بإعطائهم علاج مسكن حتى ينامو من وقت مبكر ولا يشعرون بمرارة الطريق وما سوف يحدث من مأساة تنتظرهم فهو طريق ملغوم بالقناصين والعبوات الناسفة التي تحصد الأرواح بلارحمة اوخوف اوحياء من أحد ..

خيم السكوت على الجميع وكان الوقت قبل مغيب الشمس وتم إعطاء كل الاطفال مادة علاجية مسكنة كان يحملها أحد الآباء الذي استشهد ابنه مع أم طارق والتي تبين أنها نوع من المسكنات الحادة التي تبقي الطفل في نوم عميق .

وصلت الساعة التاسعة مساءً وبدأت اول عائلة بالخروج وبعد ما يقارب الساعة تقريباً لم يسمعوا اي إطلاق نار فخرج الاستاذ توفيق وهو يحمل طفلين أحدهم على ظهره والآخر في حضنه ودع قبر زوجته ولايستطيع أن يقدم لها أي شيء فهو لاحول ولاقوه سار مسرعاً يدعو الله ان يعينه على محنته وبمسافة ليس بالبعيد شعر بوجود دماء تسيل على ظهره فتوقف قليلا فوجد أن ابنه طارق الذي يحمله على ظهره قد اصيب برصاصة غادرة وفارق الحياة وضع أبناءه على الأرض والليل ظلامه شديد والدنيا أصبحت أكثر ظلاماً في عيون الاستاذ توفيق ودماء طارق تغطي الجميع .وبدأ يهيل التراب فوق رأسه وهو يلعن حظه العاثر .يا إلهي بالأمس دفنت زوجتي واليوم أدفن ابني .كان ينحب بسكوت من الخوف حتى لا يسمعه أحد نظر واذا بجانبه حفرة صغيرة ولكنها عميقة فوضع ابنه فيها وغطاها في التراب وحمل ابنه الثاني تيسير الذي كان في سبات عميق وما أن صعد على تلة ترابية حتى بدأ له منظر ضوء عجلات تبعد عنه مسافة اكثر من نصف ساعة ولكن التعب أنهكه وبدأ يسير بخطى بطيئة.
وبعد ساعة تقريبا وصل إلى الشارع العام الرابط بين مدينة الموصل والعاصمة بغداد ركض إليه الجنود ورحبوا به وعندما وصلوا إليه ضمهم الى صدرة وبدأ بالبكاء الذي حبسه منذ يومين في صدره ولم يبطل نحيبه الا عندما سمع صوت أحد الجنود وهو يتصل بتلفونه الجوال مع آمر الوحدة ويقول له سيدي لقد لجأ الينا أحد أبناء المدينة وعمله معلم حسب ما يدعي ويحمل معه طفل متوفي نتيجة إصابته بطلق ناري يدعي أنه ابنه ما أن سمع السيد توفيق ذلك حتى صرخ صرخة تدمي القلوب لا مستحيل فهذا تيسير والمقتول طارق لم يفهم الجنود ما يقول وبعد التهدئة تم جلب له قليلاً من الماء فشرب وشرح لهم ما حدث في الطريق وعن اصابة ابنه طارق برصاصة طائشة وأنه دفنه تحت تلة قريبة من هنا ولكنه يبدوا أن الحزن والهموم أفقدته صوابه فدفن ابنه تيسير بدلا من طارق وان الاثنان كانوا تحت تأثير المادة الدوائية المخدرة هرع الجنود إلى سيارة الإسعاف وابلغوا طبيبهم العسكري في ذلك وبعثوا برقية الى مراجعهم وحصلت الأوامر وأخذوا عدة الحفر والاسعاف وتوجهوا الى مكان الحادث الذي دفن فيه ابنه قبل أكثر من ساعة وعندما وصلوا المكان حفروا القبر فوجدوا الولد قد فارق الحياة فحصه الطبيب داخل الإسعاف وتبين أن وفاته بسبب الاختناق من التراب هنا سقط السيد توفيق مغشياً عليه وفقد الذاكرة والوعي ولعدة شهور رقد في المستشفى الفرنسي الخاص في ناحية حمام العليل والتي تبعد20 كيلومتر جنوب مدينة الموصل وهذه المستشفيات تم تجهيزها وانشاءها من قبل منظمات دولية لإغاثة اهل الموصل من الجرحى بعد المعارك التي سوف تشهدها مدينة الموصل.