هو ابن غربته ، يودّ لو تقوم القيامة قبل موته حتّى لا يخسر النهارات الطيّبة .
أرخت المشارقُ ذهبها الطويل وانعكست نظرةٌ حزينة من النّهر في صمْت الشبابيك القديمة ، أفاقت المناجلُ مِن سُباتها في جدران دوم الطّين ، مُعاودةً رحلتها في سمرةِ الأكفّ ، تفضّ بكارة الحقول أواخر شهر آيار ، القرى خواتمٌ في اصابع التلال وهي تبسط كفّيها راكعةً تحت ظلال مكحول *: اجرد يستلقي امام جهة الغرْب مغلقاً ابواب الصحراء راسماً للشمس حدوداً مُطلقة وفواصل حادّة للغروبات!
.
في هذه الأثناء من العام ترفو الفلاحات عباءات التبن ويقشّن حضائر الطين الواطئة ويترددن بين البيادر والبيوت عدا عباءة ” فضّة ” فقد توفيت تاركة ” جدو حميد ” وحيداً ، بينما يتنقل الصعو ــ كعادته ـ ويرمّم دربه بين البيادر وشاطئ النهر .
بفيء الطارمة على حصيرة السُعُون ، جلس يعدّ حبات مسبحته وينتظر صحنَ الغداء . كان الدّيك واقفا بساقٍ واحدة قرب خزان الماء بعرفه الأحمر وريشه المسبوك بالأحمر المخضب بالأسود ، اختفت إحدى ساقيه في بطنه وإلى جانبه دجاجة ، تدخل منقارها تحت جناحيها وترتجف .
تفقد اللحظات صوابها فيصطدم عصفورٌ في شجرةٍ نائمة وسط باحة البيت المزروع على الجرف ، فيتكأ ” جدو حميد” على مخدته ; بتعبٍ ترعى عيناه في وادٍ ازرق حيث تمرُّ عرباتُ الشمس صوب انطفائها .
عند زاوية البيت ، يغسل حفيدهُ ” يعقوب ” وجهه بمشهد الشجرة التي انفرطت زينتها على عشب الحديقة ، هناك ، ليس بعيداً يعلو التلّ اليبيس ومِن فوق رأسه ترحل غيمة وحيدة في لا نهاية الاشكال ، فيمتلئ ــ من الربيع الفائت ـ بذلك الشارع المنطلق كالسهم في براري نينوى المضْروبة بزخاته الاخيرة . غصّ بأرتطام الاف الفراشات التي تعبر الشارع ، فكاد ان يصيح : توفقي لكنه صَمَت . أتكأ مشوشاً على الزجاج مفكّراً : ما جدوى المضي بهذه السرعة إلى الأمام !
* * *
أطراف الموصل ، قربَ سكّة قطار متروكة ، نبتت الحشائشُ في مفاصلها ، ثمّة بيت يفتح ياقته لغيوم الضحى المقبلة من خلف الجبال ، حيث هي .. واقفةُ عند سياجٍ قديم تأخذ تياراتُ الهواء صفات ثوبها ، تهدي البعيدَ لون نظرتين اخفّ مِن ريش ..
وعلى الطرف الأخر، يشتهي تبغ قميصها الأزرق . تسلبه الأقفال ، ويصرف أيامه في طريق النّهر / ينادونها سوزان ويسميها ” شبعاد ” عشيقته الملوّثة بما علّمها من صفات ، تحفظ مزاجه المعكّر بلون عينيها / شبعاد التراب / الضوء / الحجر وأعشاب المياه / يتذكّر الفيضان بين أربعة جدران ويرجع إلى نفسه حزيناً كما يجب ، يقطع النزهات اليومية متجهّما ، فيتجاوب فيه :
اللحاء ألم الاشجار
الماء المشمس ظلّي ..
الحصى موتي والطيور شكلي الأخر .
في الطريق نزولاً .. انتظم رفٌ من الخُضرات على اسلاك أعمدة الكهرباء ، تخطو كزرّافاتٍ فولاذية بمحاذاة الطريق نحو مضخّات ماء ، منصوبة على قناةٍ ضلّت عن النّهر . كان صوت الخضرات واضحاً مثل حنّةٍ في راحة العصريات القصيرة ، يندلق فوق القناطر الإسْمنتيّة المعْقودة بنبات النّعناع ، وصحون الحقول المفروشة بين أجراف النّهر ومنازل القرية .
عشرين عاماً ، تحت صريفةٍ من أعواد الزّل كان “جدو حميد ” يرعى المضخّات التي تغذّي خرائب الحقول . يفلّها ويدهنا بالزّيت ويشدّها وفي ليالي الصيف الحارّة يسبح في التيّار ويطلي جلده بالطين حدّ عنقه ليحتمي من البق ، أو يشعل الاعواد والرّوث اليابس في الظلمة ليستدرجها بعيداً عنه ، يسحب كيس التبغ من السقف ويجلس يلفّ السجائر . يطرد سحالي الغابات النهرية بموّالٍ ويأوي إلى صريفته مُتأخراً . بالكاد يتذكّر وجه ابيه ، مات وهو في سنّ العاشرة ، يقول انّه قتل عمّه وجاء من أعالي نهر سيروان في الشمال ، تزوّج هنا وعاش غريباً ، بقيت اللعنة واللغة تطارده إلى اخر أيامه .
في الطريق تكبر في روحه مديات أن يمشي ، فيمشي آلاف البشر في جسده الهزيل من اثر الموسيقا ، وعلى كتف نهاية الطريق شجرةٌ سدر وحيدة ، يمشي ..
يكسر العصرُ صناديق الهواء المجفّف ، وتكنس الريحُ قشورَ الأشياء ، براري من اجنحة تنطلق خافقةً في دمه السماوي ،وتحت خطاه أثارُ مواشٍ وحبوب حنطةٍ مُتناثرة من سنابل داستها الأقدام ، خيوط سوداء ترتبط بممالك نملٍ ومخالب محفورة على حواف غدران تكوّنت بعد طفح السواقي . يعلو مع الطريق وينعطف ، تترقرق التلالُ ملء عينيه . هنا . يحسُّ بطعم الحجر المطبوخ بجمر الازمنة في الوديان الرمادية . تغرّبه روائحٌ تنشر ذكرياتها فوق الأرض ، يقف ساحباً علبة السجائر ، وعلى بعد ضربة حجرٍ من مقلاعٍ شجيرات رمان وارفة ، تميل مجروحةً بالزهر ، يستدير عكس الريح الهابّة للحظة ، تتطاير من قميصه كلمات من كتبٍ غير منشورة وتقفز الى رأسه فجأة فكرةٌ : كم سيكون رائعاً لو اشعل النارَ في هذه الحقول المصفرّة !
ثم يبتسم … ويتابع راكباً على ظهر ثعبان تتلوّى بين حطام الحقول ، من فوق انفه يَشرِقُ النهرُ ببريق ملايين الامواج ، وشيشٌ كبير يرتفع ويحتلّ فضاء المضخّات الكهربائيّة ، فوق احواض قديمةٍ تصدّعت بمطارقٍ لا تُرى ، يسير بنعليه على تجاعيد وجهها المُدثّر بسحالة الأجراف المستسلمة للقِدم !
ــ الأيام دبقةٌ ، ولكن قلبي ليس مستنقعاً لتحوم فوقه الحشراتُ المُذهبة !
ــ مالذي يجعلك تقول ذلك ؟!
ــ من بشرة حواء عرفت ان الزغب ينبت تحت القميص .
ــ هي انصرفت . صار للحفيف في الأراضي بعدها طعم اخر .
شرق القرية ‘ تدور عصافير كحلية فوق الأرض المحروثة ، فلاحٌ يثبّت معوله في التراب ويلتفت ; تفلُّ زوجته لثامها ، تدنو على عشبٍ أخضر وتشرب الماء من ساقية تجري سعيدةً وسط برية جرداء .
الطريق تدقه الخطى .. وعلى جانبه يرتفع نبات الحلفاء مثل حزمة نشاشيب دقيقة . يهبط رفراف بغتةً ويرتعش على حطام شجرة ميتة . ومن بعيد يلوح منزل ” جدو حميد ” فارزة حجرية بين البر ونهر دجلة .
عند ضفّة النهر قاربٌ خشبي مربوط بوتدٍ ، يهتزّ ، دون نهاية ، تندفع إليه ، ترتطم بحواشيه ، موجة أثر موجة يائسة تنتحر .. فوق اللوحة الأخيرة حزمةٌ مبلّلة من الطرفاء . الصائد ، على الاغلب ، اختفى خلف طريدته من الطيور . على مسافةٍ من شريط العشب المشبع بالماء يرتكز قوري حزّمته النارُ بلحاءٍ من الفحم ، يمدّ عنقه نحو النهر وتهشّم النسمات زفراته الممزوجة بجذور السّوس ، على مقربة منه أمْشاط أسماك ورائحة استسلم لها المكان . الجو يبرد بين هذه المنحدرات حيث يتفرّع النهر بين جزر من الحجر تنتشر فيها اشجار الغَرَب القزمة ، وتعلو اصوات الطيور من الاوراق مخلوطة بضجيج قنوات النهر الدّافقة ، فيكاد ان يضيع قبل ان يلتقي مجدداً في منطقةٍ أخرى ، ابتعد قليلاً وراح ينظر إلى اللهب في أوصال الحطب المجمرة بين ألأثافي : ( النار جاثيةٌ تطفئ حزنَ الحطب /تنشده غناءها الحماسيّ / الحطب يستمتع بشغفٍ ، حتى نسي انّه كان شجراً .. ! )
ــ قديماً .. الفيضان يبتلع العشّ في الشوك !
ــ من طفولةٍ حامضة حتّى دمع ضحكةٍ توجع البطن ، تتذكّر من النهر النجاة ، والتشبّث بذيول الابقار العائمة !
تهبط شعلةُ الشمس فوق رأس ( مكحول ) ، فيحترق النهر بنار الغُروب ، نورسٌ ابيض يناحر الجريان تحت ظلال غامقةٍ على ارتفاع خيطٍ من الماء الذي يمسح صدره . أمواجٌ متوامضة ، تتشظّى ببطءٍ فوق صلعة شيوخ الحجر ، وملايين الشموس تشتعل ، تذوب ، تنطفئ ،ويسيل عسلها فوق انحدار الماء . يفتح صدره لنبال الأشياء ويقعي كجرحٍ لذيذ على حافة الموج , يشمُّ بكلّ مافيه رائحةَ الدّغل ونداوة العاقُول ، ويلحس بعينيه حلوى الضوء فوق الجريان . الهواء الطيّب يقشّر قلبه فيشتهي الطيران أو الغرق . يصير نسمةً عارياً من كلّ شيء . يحاول الانتماء إلى اللحظة فيبعده اللحاء إلى الهوّة ، فيُوجعه السقوط .. إلى السقوط إلى السقوط / مجنونة مَن أفزعها لتنْداح بلا بصيرةٍ في فضاء الأتي بلا انتهاء ؟ كلّما حاولت الامساك بها ارتمي في ظلال موتها ! مَن صاغ منك ذبول النهارات ؟ أيّ أخر سعيد تحيين به وانت يتيمةُ البداية والنهاية ؟ أمِن لحم الرؤى أم مِن دمنا المنهك بالحنين إلى ضجّة الضوء في دكْنة اشجار الجزر الحجريّة في دجلة ، الأشجار المحروقة بنار الخريف أبداً !
ــ مُغْرٍ . . مُغْرٍ الوقوف قرب شاطئٍ حتّى الأبد .
ــ يتكسّر الموج عند قَدَم الصّخرة ، موجة اثر موجة ..
ــ شبعاد تحميني من الذئب !
ــ شبعاد أغرقها الطوفان ، أنظر ! وهذا الموج يتكسّر ..
انت الحافي على كِسر الإشعاعات لن تدّرك انّ على نهاية الجرف الّذي تنْبشه مخالبُ الأمواج يجْرف الفيضانُ كلّ عام أعشاشَِ اليمام حاملاً
المخلّفات من أقدم المُدن وانّ العنكبوت يشمّ أنْثاه لتفترسه وانّ كلّ موسيقا حِطام ..
ولكن ….
” مكحول ” وحده يعرف روعةَ الوقوف أبداً فوق الجريان يسْخر من أعتى الفيضانات وترتمي تحت ظلاله المغاربُ !
كتلةٌ بيضاء من اللهب ، تندفع فوق الامواج ثمّ ترتفع عالياً ، يزعق طائر النورس وتستقرّ صرخته كالنشّاب في قلب الصمت :
( …. جــدو حميد ……)
تبتلع الأوديةُ العميقة الاصداء دفعة بعد اخرى وتغور عميقاً في الصخور الغارقة وتتلاشي …
متأخراً يركض أرنبٌ فوق الحصى الضاحك المزدحم في خصر نهرٍ مقطوع . يكتظّ صمْته بصرخة طائرٍ ، ودبيبُ ثعبانٍ تحت كثافة الطرْفاء ، هناك على حاشيةِ الشاطئ ، يقرفصُ رجلٌ يشبهني تماماً ، فلا افرّق أيهما انا ! يغْرف بيديه حفنة ماءٍ وينظر كيف تتسرّب من بين أصابعه . يغيم كمن تذكّر شيئاً قديماً يبرق بين الأحجار على جوانب طريقٍ يهرول بين النّهر و قلعة أشور . يغسل وجهه ، وينهض يخوّض في النهر فوق الركبتين ، يتلمّس الفاصل بين الحصاة والماء ، يحسّ بحدود الحياة ــ الحاضر / ــ الماضي .
ــ ليس له من غايةٍ يا طريق النهر ، في النهاية سيجلس . هناك من يأخذ بدوره ; كان يعتكف في غرفته ، يطيل النظر عبر الزّجاجٍ إلى ( جدو حميد ) مُتّكئاً على عكّازٍ من خشب التفاح بمحاذاة حائط الطين جيئة وذهابا من مضيف القرية .
ــ لا احد هنا ، من تحدّث ..؟
يرمي حجراً في النهر ، تتسع الدوائر ويلتئم الأثر ، فيلاحظ في السماء نجمة برّاقة تدمع ..
يجْفل طيرُ يعقوب أختلط لون ريشه بلون التراب والأحجار المرميّة بين نبات العاقُول ، ويفرُ عابراً النّهر باتجاه ” مكحول ” صوب الضفّة الأخرى .
* مكحول : جبل على نهر دجلة .