حين أطلقت العاصمة الفرنسية باريس اسم “البيشمركة” على أحد طرقها في حديقة أندريه سيترون، لم يكن الأمر مجرد احتفال بروتوكولي أو خطوة رمزية عابرة. لقد كان إعلاناً صريحاً عن اعتراف دولي بالدور المحوري الذي لعبه الكورد، عبر قوات البيشمركة، في حماية القيم التي يتقاسمها العالم الحر: الديمقراطية، الحرية، وحق الشعوب في العيش بكرامة.
الحدث الذي حضره الزعيم الكوردي مسعود بارزاني ورئيسة بلدية باريس آن هيدالغو، مثّل لحظة تاريخية أعادت إلى الأذهان صفحات من التضامن الفرنسي – الكوردي الممتد منذ انتفاضة 1991، حين فتحت فرنسا أبوابها لدعم مطالب الكورد المشروعة بالحماية والحرية. واليوم، يأتي هذا التكريم كتجسيد لتلك العلاقة، ورسالة واضحة بأن نضال الكورد لم يعد محصوراً في جغرافيتهم، بل تحول إلى ذاكرة إنسانية مشتركة تتجاوز الحدود.
التحالف المسيحي في العراق وإقليم كوردستان، في بيانه بالمناسبة، وضع الأمور في سياقها الأوسع، مؤكداً أن إطلاق اسم “البيشمركة” في قلب باريس هو تكريم لشهداء حاربوا داعش نيابة عن العالم كله. وقد استعاد البيان كلمات الرئيس مسعود بارزاني خلال الحرب ضد التنظيم، حين خاطب المسيحيين قائلاً: «كوردستان هي بلادكم… إما نموت معاً أو نعيش معاً بكرامة وسلام». هذه العبارة لم تكن مجرد شعار، بل تحولت إلى عقد اجتماعي يؤكد أن التنوع الديني والعرقي في كوردستان ليس مصدر ضعف، بل أساس صمودها.
المشهد في باريس حمل أيضاً دلالات رمزية بالغة الأهمية، إذ شاركت السيدة لارا يوسف زرا، مديرة ناحية ألقوش، بزيها الكلداني التقليدي ضمن الوفد الرسمي، لتؤكد أن هذا الحدث لا يخص الكورد وحدهم، بل يشمل المسيحيين من كلدان وآشوريين وسريان وأرمن، الذين يشكلون جزءاً أصيلاً من النسيج الكوردستاني. إنه تجسيد حي لفكرة الشراكة والمصير المشترك التي طالما تحدث عنها بارزاني وأكدها في سياساته.
لكن ما يتجاوز الرمزية هو الرسالة السياسية الأعمق: باريس لم تكرم البيشمركة فقط بوصفهم مقاتلين شجعان، بل بوصفهم مدافعين عن القيم الإنسانية في لحظة مصيرية من تاريخ العالم. فحين انهارت جيوش أمام زحف داعش، صمدت البيشمركة وحولت جبهات القتال إلى جدار يحمي ليس كوردستان فقط، بل الشرق الأوسط وأوروبا أيضاً من موجة إرهاب كانت تهدد كل شيء.
افتتاح طريق البيشمركة في باريس يكرّس سردية جديدة: أن نضال الكورد لم يعد قضية محلية تبحث عن اعتراف، بل قصة إنسانية تتقاطع مع تجارب شعوب أخرى في سعيها إلى الحرية. وهو أيضاً تذكير للمجتمع الدولي بأن الحلفاء الحقيقيين يُختبرون في لحظات الخطر، وفرنسا كانت ولا تزال في طليعة الداعمين.
في النهاية، الحدث ليس لوحة حجرية تحمل اسماً جديداً، بل رسالة للعالم بأن التضحيات لا تُنسى، وأن دماء الشهداء يمكن أن تتحول إلى جسور صداقة بين الشعوب. وبينما هنأ التحالف المسيحي شعب كوردستان في هذا اليوم التاريخي، أعاد تأكيد التزامه بمسيرة السلام والديمقراطية، مجدداً الشكر لفرنسا، ومثمناً قيادة الرئيس مسعود بارزاني التي جعلت من البيشمركة عنواناً للإرادة الحرة والتعايش المشترك.