طريقنا الى التقدم يبدأ باحداث تغيير حقيقي في مناهج تفكيرنا، واسلوب عملنا فثورتنا العلمية لن تتحقق بالآمال او الاحلام او الشعارات، بل تبدأ وتنحو وتنطلق من تغيير مناهج التفكير، والتسلح بمنهج علمي يتيح لنا التعايش مع العصر والتأثير فيه.
والمشاكل التي تعترض الوصول الى هذا المنهج كثيرة.. اهمها عدم الاتفاق اصلاً على مفهوم العلمية او الاسترشاد بمنهج علمي.. فهناك من يعتقد ان العودة الى تراثنا العريق، كل الاتجاهات الفكرية والعلمية الوافدة كفيل بتحقيق التقدم المنشود، ويرون ان الدعوة الى منهج علمي او تطوير فكرنا، هي دعوة تستهدف تدمير هذا الفكر ولا سيما في جانبه الاسلامي، ونشر الانحلال والالحاد، الى آخر قائمة الاتهامات المعروفة.
وعندما تطرح قضية اي منهج يتعين الاسترشاد به اذا شئنا الارتفاع بمجتمعنا الى مستوى التحديات المعاصرة، فان هناك ثلاث اجابات اساسية تنطلق من ثلاث اتجاهات مختلفة هي:
الاتجاه الاول- ويعبر عن التنظيمات الدينية بمختلف اشكالها، ويرى العودة الى تراث السلف، وسد المنافذ الفكرية في وجه التيارات الفكرية العالمية، للحفاظ على نقاء الفكر الاسلامي.
الاتجاه الثاني- يندفع نحو الحضارة الغربية، يؤمن بكل منجزاتها، وينفصل تماماً عن تراثنا العربي الاسلامي. ويرى ان هذا التراث عقبة في طريق التقدم العلمي.
الاتجاه الثالث- يؤمن بان التطوير والتحديث الفكري والمادي، ينبغي انطلاقه من المواءمة بين الفكر العالمي بشتى منابعه، وبين تراثنا العريق ، ويعتقد انه بدون التفاعل الايجابي مع الفكر العالمي، نهرب من عصرنا، ونعجز عن مواكبة ما يجري فيه من تطورات متلاحقة.
كما يؤمن بان تجاهل تراثنا العريق يؤدي الى ضياع ثقافتنا وشخصيتنا العربية، وبالتالي قبول التبعية الفكرية والتسليم بمنطقها المدمر لامتنا العربية.
والواقع انه في ظل ثورة الاتصالات المعاصرة، اصبح عالمنا جد صغير، وتداخلت العديد من مشكلاته. ولكن هذا لا يعني ابداً طمس القوميات والحضارات التي لا تقدر على التنافس في ضوء المعطيات الحالية. على العكس، فقد يعني تحريرها من القهر وتهيئة المناخ الملائم لها كي تمنح الانسانية فكراً وفناً وقيماً، مطلباً لا يمكن التفريط فيه بالنسبة لمستقبل هذا العالم.
ان الحل المطلوب لمشكلات العالم هو حل للبشرية كلها، وبالتالي لا يمكن الا ان ينبع من تراث وخبرة كل البلدان. هذا لا يعني ابداً التعسف وخلق النعرات الشوفينية ولا يعني ايضاً ان تكون النظريات النابعة من الواقع رفضاً لكل ما هو ايجابي من الحضارات والنظم الاخرى، ولكنه يعني ان تجاهل الحضارات الاخرى – الماضية والمعاصرة – او عدم اخذها بما تستحقه من دراسة واستيعاب، والتسليم بما هو ايجابي فيها، لن يؤدي الا الى المزيد من المشكلات العالمية والمزيد من ظواهر التخلف والتبعية.
والحقيقة اننا يجب ان نعترف باننا سواء في العراق او في وطننا العربي، اقرب الى التسليم امام تفوق النمط الحضاري الغربي، واغفلنا حتى الان البحث عن النقاط الايجابية في حضارتنا العربية وبالتالي نسينا ان نحدد بأنفسنا اهدافاً حقيقية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
نقطة البدء اذن في طريق التقدم العلمي العراقي والعربي، هو المنهج. والمنهج المطلوب لا بد ان تتوفر فيه عدد من الشروط، اهمها النظرة العلمية الموضوعية لكافة مشاكلنا.
كما يشترط هذا المنهج، النظرة الاستقلالية البعيدة عن تقديس الحضارة الغربية – اي كل ما يجري من تقدم في العوالم المتقدمة – ان علينا ان ناخذ من تراث الاسلاف وعناصره الايجابية المعبرة عن اصالة شخصيتنا العراقية (العربية)، وباعتبارها احد المنابع الاساسية لتكوين كياننا الوطني والقومي، الثقافي العلمي، ونأخذ من منطق العصر ما يتيح لتراثنا النمو والازدهار، وبذلك يكون لفكرنا اصالته ومعاصرته في آن واحد، ويكون الانسان فوق ارضنا (عريباً) حقاً ومعاصراً حقاً، بلا تعارض يفصل احد الجانبين عن الآخر.
[email protected]