بعد التظاهرات التي خرجت من أغلب محافظات العراق ونداء المرجعية العليا للضرب بيد من حديد على الفاسدين في كل مكان وبأي لون , بدأت الأصوات تتعالى لمساندة توجهات المتظاهرين وتأييد حملة الإصلاحات , وامتلأت القنوات الفضائية الشريفة والمأجورة بتصريحات وحملات مؤيدة للقضاء على الفساد والفاسدين وإعطاء الحقوق المسلوبة للشعب , وهذه الأمور مفرحة بحق ويحق التفاخر بها لأنها تظهر بان الجميع ضد الفساد , ووسط هذه الدعوات التي يطلقها القادة الحاليون والسابقون والسياسيون البارزون وغير البارزين وشخصيات مختلفة الاتجاهات وأسماء لامعة ملأت مناخ العراق خلال هذه السنين , يحق لكل مظلوم ومتضرر ماديا أو معنويا من أحداث السنوات الماضية أن يسال إذا كنتم بهذه الصفات والمواصفات والحماسة في القضاء على الفساد فما الذي أبقاكم ساكتين كل هذه السنوات ؟ , وإذا كان هذا الإجماع ضد الفساد موجودا فمن هو الفاسد إذن ؟ وهل يعقل أن تتغير النوايا بين ليلة وضحاها لتتحول إلى ألوان زاهية بعد أن عرفت بعضها بقباحتها اوعدم انسجامها مع أذواق عموم الشعب .
وإذا كان الهدف من التصريحات المؤيدة لحزمة الإصلاحات التي ربما سوف لا تتوقف عند حد معين هي الإعلان عن التوبة بحياء , فان التوبة ليست ممنوعة وإنما يجب أن تقترن بثلاثة شروط أولها الاعتراف بالخطأ أو الذنب وثانيها إرجاع أموال الشعب وثالثها الخضوع إلى القضاء العادل , وفي توبة من هذا النوع يسمح بأن تكون الأحكام العقابية مخففة عدا الإهدار بالدم العراقي , لان الهدف ليس الانتقام وإنما إحقاق الحق وإعادة المال المنهوب والمهدر بطريقة قصدية أو بسبب نقص الكفاءة فهناك من تورطوا أو وقعوا تحت الإغراء , فالانتفاضة التي يشهدها بلدنا اليوم تتميز بانضباطها وأهدافها السلمية لذا فإنها تحظى باحترام الجميع , فالشعارات لم تخرج عن الحد المسموح به والغرض ليس إسقاط العملية السياسية وإنما تصحيح انحرافاتها وإعادتها إلى الطريق الصحيح , ورغم الادعاءات بأنها توجه من قبل جهات معينة فان ما يظهر للعيان هو عفويتها وإنها لم تجير لحد الآن لأية مصلحة غير مصلحة الشعب , لا سيما المظلومين من الفقراء والعاطلين عن العمل وذوي الدخول المحدودة والمحرومين من الخدمات وممن يعانون كبر السن واليتم والأرملة وغيرها من المظلوميات , فالكهرباء لم تكن الغاية النهائية ولكنها الشرارة التي كسرت حاجز التردد في الوقوف الجمعي بوجه الظلم .
ولكي نحافظ جميعا على شرعية وأغراض هذه الاحتجاجات بشكلها السلمي ونستثمرها لخدمة بلدنا العزيز وأهله الطيبين , لا بد من سرعة انجاز مطالبها وعدم التسويف بها , فقد عقد مجلس الوزراء جلسته الاستثنائية واصدر حزمة من الإصلاحات للمرحلة الأولى , كما أعلن رئيس مجلس النواب بعد تشاوره مع الكتل عن تأييده للإصلاحات , وفي الوقت نفسه تظهر أصوات تزايد على المطروح فالبعض يبحث عن دستوريتها أو يقول إن هناك حاجة للمزيد أو أنها كانت خارج المشاورات , وللحقيقة نقول إن ما تم طرحه من إصلاحات هذه الأيام قد يرضي المطالبين والمرجعية العليا التي تقف إلى جانب الحق كمرحلة أولى للإصلاح , لذا فمن الأفضل المضي قدما بهذه الحزمة كجرعة منشطة تتبعها خطوات أخرى , أهمها وضع الشخص المناسب في المكان المناسب , وحسب ما يتم تداوله في الأوساط النظيفة فانه يمكن الاستعانة بالتكنوقراط لغرض الاضطلاع بمختلف المسؤوليات , وإن من أكثر الفوائد التي يمكن جنيها من الانطلاق في التطبيق دون فلسفة وتصريحات , هو قطع الطريق على من يحاول اختراق الاحتجاجات من الفاسدين والمتضررين والحاضنات وغيرها من المسميات , دون أن يغفل أحدا إن هذه التظاهرات ربما تخرج الكبت الذي عانى منه العراقيون خلال أربعة عقود من الظلم والحروب والحصار والفشل وليس حصيلة 12 عاما فحسب .