وهذا رجل كان قد جرب شظف العيش واذاقته الحياة من كاس ذلها وعذاب فقرها ،وهو امر يذوقه كثير من خلق الله وليس بدعا في زمن ولا حكرا على بلد او قوم . لكن الانقلاب غير المنتظر في الاحوال ، ورزق الله الذي لم يخطر لاحدهم على بال ،يهز توازنه ويربك ضميره ويشوش سريرته.
فبين رجل تكسبه النعمة المحدثة ثوب الشكر ولسان الذكر وتفقد الاصحاب والتقرب من الاحباب ، وتجد عليه علامات الرضا والسرور ، والترحاب والحبور ،يلقاك وقد انبسطت اساريره من فرج الله عليه ،واقبال الدنيا اليه ،فيبادرك بالسلام ويصدق الناس في المحبة والوئام ، يعرف منة الله عليه ، ويدري انما الارزاق والاحوال بين يديه. وهذا نادر فيمن غيرت الدنيا عطاءه وماله ، ولم تغير خلقه وحاله .
ومرد ذلك انه كان قبل ذلك وفي وقت ضيق رزقه صادق الود مع الناس ،لم يبيت في نفسه لهم الا خيرا ،ولم يرمقهم حسدا او يكتمهم غلا ، كنت تراه ودودا على ضعف حاله ، وعسرة عيشه وعيش عياله. فلما رزقه الله واكرمه ، “قال رب اكرمن” ولم يكن يشعر قبلها ان ربه اهانه او الدنيا اذلته ، بل كان صابرا محتسبا كريم الخلق صادق الرضا ثابت القناعة ، فلما توسع حاله وحضر رزقه اظهر احسن ماعنده لله ولاهل بيته وللناس.
اما الاخر-وهذا الشائع بين الناس- فقد اندهش مما هو فيه من بعد سنوات العسر والضيق ، وصار لايكاد يعرف جارا او اخا او صديق. ما ان وجد رزقا في بيته ومالا في جيبه وامن-كما يظن- على القادم من سني عمره بتجارة مربحة مستحدثة او وظيفة جيدة جديدة حتى تنمرد واختلف جلده ولسانه ، وقلبه وجنانه ، ووجهه وبنانه .تراه غير ذاك الذي عرفته يوما ، وذلك الحاضر البشاشة دوما ، فاللسان اليوم لايكاد يرد لك السلام بعد ان كان يتحين الفرص ليسرق من مجالستك ساعات او مواقفتك دقائق وهنيهات ، تشاركه فيها الحديث والمودة . فصار الوجه لايكاد ينظر اليك حين تخاطبه ولايقبل عليك ، بعد ان كان من فرط فرحه بك يكاد يقبل يديك.
وهؤلاء نفر من الناس يجعلون الرجل متحيرا واللب متغيرا ، تفكر في حالهم وانت تطيل النظر اليهم وهم يتحركون من حولك لايدرون بما يظهر على وجوههم وطباعهم وخلقهم من امور تنفر النفس الحميمة والفطرة السليمة. تراه متعاليا منتفخا واضح التغول ولعله لايشعر بنفسه انه كذلك. تعجب كيف تحول هذا الشاب الودود المتلطف في الحديث المترفق في الاستماع والحوار الى رجل لاتكاد تكمل جملتك معه حتى قاطعك دون ادبه المعهود ولطفه المحمود في سالف ايامه ، وبادر الى الرفض بالغلظة و الرد بالجلف ليرد لك طلبا كنت يوما اول المبادرين لاجابته له ايام عوزه او دنو مكانته ، او بساطة وظيفته.
غبت عن بيئتي ووظيفتي سنوات قليلة بداعي الدراسة والعمل وشؤون اخرى اضطرتني لترك الناس ممن اعرف ومن زملائي وطلبتي ، وطلبتي الذين صاروا لاحقا زملائي ، واصدقائي واخوتي . وقد كنت دائم الذكر وانا في غربتي لكثير منهم ، اذكرهم فآنس مع نفسي واستذكرهم فاخفف وحشتي بأمل العودة واللقيا وتبادل المودة والمحبة مع هؤلاء “الاصلاء” وانا اقول لنفسي : إيه ، اين فلان وفلتان واين اولئك الاصلاء الاحباء الذين ابعدتني عنهم الايام ولا اجد لهم مثيلا في بلاد الاعاجم الذين لايعرفون اصول الرفقة كما يعرفها ابناء جلدتي الطيبون.
وعدت السنون فعدت اليهم واذا بي اصدم باناس كاني لم اعرفهم من قبل ولم نجلس او نتسامر ونتحاور يوما ، ذلك الزميل “المعدم” الذي كان يسعد بتفقدي له وجلوسه معي صار يتهرب من سلام يهديه او سؤال يلقيه ، وذلك الطالب الذي صار زميلا والذي كان دائم الحفاظ والوفاء لما بيننا من قديم الامر ، صار يرد بتعجرف على طلبي الذي كنت البي له مثله واكثر في سالف ايامنا واول تحوله لمزاملتي ودعمي له وتشجيعي اليه ، ويشيح بوجهه عني ، كانما يخشى ان يضع عينيه بعيني.
ظننت اولا ان فلانا اصيب بعقله او لربما فجع باحبته فقلت لالتمس العذر ، واذا بالاخر مثله ، واذا بالثالث اسوأ ، ولما وجدت الامر مستشريا في الجميع ولم يسلم منه احد ، فزعت الى رجل كان زميلنا وتقاعد فسالته متحيرا عن الاسباب ، قال: “لا اسباب يا استاذ ، هؤلاء رزقهم الله بعدك بوظائف واعمال ، درت عليهم بعض المال ، وانتشلتهم من الفقر المدقع والخلق المنتحل الذي تركتهم عليه ، الى الغنى وسوء الخلق الذي وجدتهم عليه. فهؤلاء الذين تسمونهم انتم اللغويون “محدثي النعمة”.
فتحسبت الله وترحمت على بلاد الاعاجم.