23 ديسمبر، 2024 10:08 ص

طالب العلم وطالب الشهادة

طالب العلم وطالب الشهادة

مصطلحات ليس لها مصداق ووجود في عالم اليوم الا في العراق وبعض الدول التي تمنح شهادات تجارية كأوكرانيا وماليزيا والهند وبيلاروسيا وفي بعض جامعاتها فقط وليس كلها واليكم الطريقة للتمييز بينهما ومساءي وجود هذا الفرق الشاسع بين المصطلحين.
رغم التغيير ورغم الاعتماد على الشهادة في التعيين والترقية والترشيح للمناصب وغيرها الا ان النظرة الدونية الى الشهادة او العلم في الحقيقة لا زالت قائمة فبعد سنين الحصار العجاف وما سبقها من حروب طويلة لم تميز بين عالم وجاهل في حصاد الارواح وملء الخنادق في حدود الوطن وخارجه، بعد كل هذا ساد بين الناس نظرية ان العلم لا يغني عن صاحبه شيئاً بل قد يكون وبالاً عليه حين يصل الى مرحلة التطلع للحقوق والواجبات والحلم بحياة انسانية كريمة وقد اوصل العلم عند البعض اصحابه الى حبال المشانق وحفر المقابر الجماعية او غيرها من المصائر السوداء مما دفع الكثير من ابناء الوطن الى اعتماد اسلوب اخر للمعيشة غير التدرج العلمي والدراسي الرسمي في الاعمال الحرة وترك الدراسة مبكراً هرباً من التجنيد العسكري او من المصاريف الباهظة في ظل الحصار الاقتصادي. كل هذا قاد المجتمع الى اهمال اهمية العلم في التوعية والرقي الفكري والتطلع الى غد افضل وجعل العلماء من جهة يتكلمون في سماوات احلامهم الوردية بعيداً عن الواقع البائس المرير للشعب الجائع الفقير او الغاضب على الوضع كله، كل هذا حصل قبل عام 2003. وبعدها ورغم التغيير لم يتغير في قناعات الناس شيء كثير فرغم المنزلة الرفيعة للشهادة في عراق اليوم الا ان النظرة الدونية للعلم الذي تحتويه الشهادات ما زال سائداً وبكثرة ولا ادل على ذلك من فتح الدراسة الاهلية والمسائية وتقليل الشروط للعمر والمعدل شيئاً فشيئاً حتى اصبح بمقدور كل انسان ان يحصل على اية شهادة يريدها بدون مراعاة الاحقية والفوارق الفردية والحاجة الفعلية لما يدرس.  فبعد ان ادرك جل الشعب العراقي ان العلم لا طائل من وراءه ولا ينفع صاحبه في العراق بدون واسطة ومسؤول عرف او اقارب او تملق لأصحاب القرار وبعد ان ادرك الناس بأن التعيين بالواسطة والفلوس والمعارف وغيرها وان القيمة الاجتماعية هي بمقدار قوة العشيرة او الحزب الذي ينتمي اليه الشخص او المركز الذي يشغله بغض النظر عن تدينه وعلميته وعقليته واخلاقياته وغيرها من مقومات التفاضل بين البشر في الدنيا والاخرة اقول بعد هذا كله انحطت نظرة الناس للعلم (الذي زيادته ونقصانه لا تفيد بشيء في العراق -حصراً-) وارتفعت نظرتهم للشهادة (الورقة التي تمنح بعد اكمال الدراسة للدلالة على ان صاحبها تجاوز الامتحانات بنجاح( ومن هنا انبرى اصحاب رؤوس الاموال الى الاستجابة لطلب جماهيري متزايد (الشهادة ) ففتحوا الجامعات الاهلية والمدارس الاهلية وكلها كما نعلم مشاريع استثمارية ليس للعلم والفهم والتطور فيها حصة ابداً ابداً وبدل ان تضع الوزارة حداً لمثل هذه المسخرة والاستهزاء بالعلوم والفنون والعقول سارعت الى الاعتراف بها (خدمة للخراب  العام( وليس هذا فقط بل اخذت الوزارة الموقرة (التربية والتعليم من جهة والتعليم العالي من جهة اخرى) تعترف بأي جامعة وكلية اهلية يفتحها تجار العلم الحديثين وتقلل من شروط التقديم للدراسة داخل وخارج العراق وتقلل من سقف المستوى العلمي للجامعات التي تعترف بها خارج العراق بل وتصل السفاهة بقوانين اليوم الى احتساب شهادة من يحصل على الماجستير والدكتوراه قبل الاعدادية! وبشروط مضحكة من قبيل ادخاله امتحان كفاءة يعلم الجميع انه سيجتازه بنجاح عن طريق بيع الاسئلة او توسيط احد لدى المراقبين او غيرها من اساليب الغش التي اصبح العراق الاول بها عالمياً.
قد يتهمني البعض بالتشاؤم والتهجم والتعدي على الغير بغير وجه حق ولكن الدوائر امتلأت اليوم بأصحاب الشهادات (الاهلية او الماليزية والهندسة والاوكرانية او غيرها)  واسألوا عن مستوى (اغلبهم حتى لا نظلم العلميين منهم وهم كالملح في الطعام) ولاحظوا مقدار الضحالة الفكرية والعلمية التي يتمتع بها هؤلاء ومقدار التضخيم والتبجيل والتعظيم الذي يتمتعون به في نفس الوقت!!؟؟ ما هذا التناقض !!؟؟ لا لا انه ليس تناقض انه العراق الجديد ………………………… فمن يملك المال ليحصل على شهادة بفلوسه يملك المال ايضاً ليتعين بفلوسه ويملك المعارف والواسطات وقابلة التملق للتسلق الى اعلى الهرم او دون القمة بقليل!
هذا احد جوانب الفساد العلمي والذي يقود الى الفساد الاداري والمالي والوظيفي واخيراً الحكومي ومالم نقضي عليه فلن نتقدم خطوة بل سنتراجع للوراء وبسرعة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً فإذا كان صاحب معدل 95 في سنة 2003 لم يقبل في كلية الطب وتنحدر المسألة الى ان يقبل صاحب معدل 53 في كلية الطب في اوكرانيا لنا ان نسأل ما هو مستوى المادة العلمية التي يستطيع ان يستوعبها هذا الفطحل صاحب معدل 53 في السادس العلمي واي طب سيطبقه ان عاد الى ارض الوطن بشهادة الطب (وليس بعلم الطب!)؟؟

اعذار واهية
يدعي المنظرون لهذه الظاهرة المتزايدة من تسهيل الشهادة لكل من هب ودب وبلا قيد او شرط وبلا تفضيل لأحد على احد وبلا مراعاة للأحقية والفروق الفردية ان العراق خرج من مرحلة مظلمة اضطرت الكثيرين الى ترك الدراسة لتحصيل المعيشة او لم تتح لهم فرصة اكمال الدراسة لسوء ظروفهم حينها وان الكل له الحق في تحصيل العلم من المهد الى اللحد. كل هذا جميل ولكن تحصيل العلم له شروطه والتي منها قابلية الاستيعاب والفهم وتجاوز الامتحانات بنجاح وليس اتباع سياسة البكاء طيلة سنين الدراسة بحجة ان الباكي كبير العمر وكثير المسؤوليات وبطيء الفهم وانه موظف وانه لا يريد ان يفهم بل يريد ان ينجح فقط! ليزيد راتبه او يحسن وضعه المعيشي وبلا احقية للنجاح فأين العدالة في هذا واين الحق في وضع الشيء في غير محله فالمساهم في هذا لا يختلف شيئاً عن المفسدين في الارض الذين يخربون ولا يصلحون وحين تسأل عن نوعية المواد التي تدرس في هذه الكليات تراها مهزلة لا تقارن بالمناهج للكليات المقابلة لها حكومياً وحين تسأل عن المعدلات والسعي ترى ان خريجي الكليات الاهلية التي نسبة نجاح طلابها 100% سنوياً فلا وجود للرسوب فيها وبمعدلات تفوق بكثير معدلات اقرانهم من الجامعات الحكومية بحيث ان خريجي الحكومي يتعرضون للظلم حين يدخلون امتحان الكفاءة العلمية سوية لإكمال الدراسة مع خريجي الاهلي او ماليزيا وغيرها.

العلم في اتجاه ونحن في الاتجاه الاخر!
يميل العلم في الوقت الحاضر الى التخصص والتعقيد والتفرع والتشعب بعد حصول الثورة العلمية والصناعية والتكنولوجية الكبرى منذ قرنين من الزمن ونتيجة لصعوبة وتعقيد العلوم المختلفة اخذت اطراف العلوم تنضج وتكبر الى ان تصبح في مصاف العلوم الاصلية الامر الذي شجع ارباب التعليم والتدريس الى ابتكار اساليب تدريس مختلفة تتناسب مع المستجدات والتعقيدات وصعوبات التعلم في الوقت الحاضر. كل هذا يفترض ان يجعلنا نضاعف ساعات التعلم والقراءة والدراسة سواء الاكاديمية او الشخصية والفردية الا اننا نفعل العكس تماماً!
يقضي اغلب شبابنا ساعات يومهم في تعقب الموضة الحديثة والجري وراء الخزعبلات الشرقية والغربية ولا يأخذ العلم والتعلم من حيز تفكيرهم الا القليل جداً وحين تصل النتائج يتفننون في اختلاق الاعذار والتباكي واستعطاف المدرسين لنيل ما يكفي للنجاح او تهديد من لا يتعاطف مع اعذارهم من المدرسين وتستمر المأساة.

حلول مقترحة
لا يخفى على عاقل ان كثر الدق يفك اللحام وان تشديد شروط التعليم والنجاح واشتراط الفهم والعلم في الشهادة وعدم اعتماد الورقة (الشهادة ) فقط للتعيين بل اخضاع الخريج الى سلسلة اختبارات حقيقة لا يجتازها الا من فهم وتعلم كل ما مر به في حياته الدراسية كل هذا سيطبع في الاذهان اعادة التفكير في النجاح بلا حساب ويزرع الخوف في عقول الطلاب من الرسوب الذي نسوا الحديث عنه في ظل شيوع المثل الروسي (النجاح للجميع والعلم لمن يريده) والذي للأسف حتى بعض المدارس تكتبه على جدرانها كجزء من الشعارات التعليمية التي تشجع عليها. عند ذلك وبعد ان يرسب عدة طلاب في مرحلة من المراحل سينتقل الخبر كالنار في الهشيم بين بقية الطلاب مما يدفعهم الى الخوف من الرسوب والمسارعة الى الدراسة والتي حتى لو درست في وقتها خوفاً من الرسوب الا ان ما ينغرس في بال الطالب منها سيغير طريقة تفكيره في كل شيء وتتضح نتائجها على سلوكه وحياته فيما بعد وبذلك تنجح العملية التربوية والتعليمية في تنشئة جيل متعلم متفهم قادر على مواجهة الصعاب والتفاعل مع الظروف وتحويل التأخر والتخلف الى نهضة علمية وعملية واجتماعية تعيدنا الى مسار الحضارة والمدنية والانسانية حولنا ان شاء الله تعالى قريباً.