طارق حسين شاعر الطفولة والوجدان العراقي.. رحلة بين النقاء والوعي

طارق حسين شاعر الطفولة والوجدان العراقي.. رحلة بين النقاء والوعي

في مدن العراق وقرى نواحيه، حيث تتداخل الأصوات وتتصارع الألوان، يولد الشعر كنبع عذب ينبعث من أعماق الحياة اليومية، لا يتوقف عن التدفق إلا ليشربه من يشتهي الجمال والكلمة الصادقة. من تلك البقعة الصغيرة في ناحية المدحتية، بزغ نجم شاعر قلّما تجد له مثيلاً في بساطة لغته وصدق وجدانه، هو طارق حسين كاظم خضير ، الذي ولد في الأول من يوليو عام 1955، وحمل في روحه لهيب الشعر وشغف الكلمة، ليرسم لوحة عراقية نقية تحمل من الحلم والوجدان ما يشد القارئ والقارئة على حد سواءمتأثراً بشقيقه الصحفي الراحل عدنان حسين الذي بدأ مسيرته الصحفية كاتبا لحكايات الاطفال .

كانت البدايات معه أشبه بنبضةٍ خفية تتسلل إلى القلب، حين بدأ ينسج انشوداته للأطفال، لا مجرد كلمات تُغنى أو تُلقى، بل رسائل منبرية تنضح بحب البراءة والحرية والعلم، مستلهمة من طفولته العراقية المليئة بالأمل والتحدي. قصائده التي حملت عناوين مثل «القمر والحرية» و«المدرسة» و«بالعلم والعمل» لم تكن مجرد أبيات عابرة، بل كانت منارات ضوء هادئة في ظلمة زمنها، فازت بجوائز عدة من إذاعة بغداد ووزارة الثقافة ودار ثقافة الأطفال، تؤكد أن صوته لم يكن هماً هامساً، بل صار زاخراً بالعطاء والالتزام الثقافي.

في تلك الحقبة، كان طارق حسين يخوض معركة موازية على جبهات الصحافة الأدبية، حيث عرفته الأوساط الثقافية محرراً ومراسلاً، لا يكتفي بالكتابة بل كان جزءاً من منظومة ثقافية كبيرة في مجلة «مجلتي» وصحيفة «طريق الشعب»، يحرص على رفع صوت الأدباء الشباب، ودعم التجارب الجديدة، وكان عضواً في لجنة فحص النصوص الشعرية لأكثر من خمسة عشر عاماً، مما يدل على مكانته الراسخة وموثوقيته في الوسط الأدبي.

ولعلّ أزهى فصول تجربته الشعرية، كانت مجموعة «ما لم يقله البهلول» الصادرة عام 2020 عن دار كيان بدمشق، التي عبرت عن صيرورة ناضجة لشاعر جمع بين الحكمة والفلسفة، بين الماضي والواقع، بين لغة الشعر القديمة والهموم المعاصرة، فتجلّت فيها صورة عراقية نابضة بالحياة، وبصورة إنسانية مدهشة. هذه المجموعة لاقت ترحيباً واسعاً من كبار النقاد والأدباء، منهم جبار الكواز وريسان الخزعلي، الذين أثنوا على تمكنه من صياغة القصيدة بمهنية عالية، وبساطة رصينة، جعلت قصائده جسر تواصل حقيقي بين القارئ والنص.

لم يغب نقد الشعر عن تجربة طارق حسين، فقد حظي باهتمام ملحوظ من قبل النقاد الذين وقفوا عند خصائص شعره الفنية والوجدانية. يقول الناقد جبار الكواز عن شعره: “في قصائد طارق حسين نجد مزيجاً رائداً بين لغة نقيّة وبسيطة، وبين عمق المعنى الذي يلامس قضايا الإنسان والطفولة والوطن. إنّه شاعر لا يغرق في تعقيدات اللغة، بل يختار كلمات تنبض بحياة القلب، فتصبح قصيدته صدى صادقاً للمشاعر والهموم.”

كما يرى الشاعر والناقد ريسان الخزعلي أن: “ما يميز طارق حسين هو قدرته على الجمع بين الأصالة والحداثة، بين التقليد والابتكار، فهو يكتب شعراً تقليدياً بلا تقليدية، وينسج نصوصه بأسلوب دافئ يحمل نكهة إنسانية تجعله قريباً من القارئ مهما اختلفت أجياله. في شعره تلمس صدق التعبير وشفافية المشاعر التي تلامس وجدان الإنسان.”

ويشير الدكتور صباح نوري المرزوك إلى أن: “شعر طارق حسين يمتاز برهافة حسه الشعري، فهو لا يكتفي بوصف المشهد أو الحدث، بل يغوص في أعماق النفس الإنسانية، في طفولة العراق وأحلامه، متجاوزاً حدود الشكل إلى جوهر التجربة الشعرية، مما يمنحه قيمة فنية وإنسانية عالية.”

وقد أشار عدد من النقاد إلى مكانته الخاصة في شعر الأطفال، معتبرين أن: إنجازاته في مجال الشعر الموجه للأطفال تمثل إضافة مهمة، حيث لم يكن الأمر مجرد كلمات سهلة، بل رسائل تربوية ووجدانية تنبع من تربة عراقية أصيلة، تحفز الأطفال على حب المعرفة والقيم الإنسانية.”

كل هذه الآراء توضح أن تجربة طارق حسين ليست سطحية أو نمطية، بل هي تجربة متكاملة، تحمل بين ثناياها هموم الوطن والإنسان والطفولة، وتقدم نموذجاً ملهماً لشاعر عاصر تفاصيل الحياة بصدق ووعي.

عبر سنوات عمله الصحفي، لم يكن طارق حسين مجرد كاتب أو شاعر، بل كان مرآة للواقع العراقي، يكتب بما تقتضيه الضمائر الحية، وبقلم يختزن حكايات الناس وأحلامهم، فتراها تنبثق بين سطوره كما لو كانت أنفاس الوطن نفسه. هذا التزاوج بين الفكر والشعر، بين النقد الذاتي والاحتفاء بالتراث، يرسّخ موقعه كأحد أهم الأصوات الشعرية العراقية الحديثة، التي تمتلك مفتاحاً لفهم تفاصيل الحياة اليومية وتعقيداتها من خلال لغة شعرية شفافة وبليغة.

هكذا، يبقى طارق حسين نموذجاً شعرياً عراقياً متكاملاً، يجمع بين الأدوار الإبداعية المختلفة، ويشكل صوتاً ملهماً يتجاوز حدود القصيدة ليصل إلى عمق الإنسان العراقي، إلى طفولته وألمه وأمله، في لغة تأبى إلا أن تكون صادقة، تنساب بلا تكلف، وتخترق القلوب بسحر الكلمة البسيطة، فتبقى ذكراه وشعره نوراً ينير دروب الثقافة العراقية، ويحث الأجيال القادمة على حمل المشعل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات