22 ديسمبر، 2024 8:44 م

طارق الدليمي: “الصديق اللّدود”

طارق الدليمي: “الصديق اللّدود”

كلّمــا اختلفـت معه ازددت محبّة لــه
” الصديق اللدود” ، عبارة كنت أذيّل بها رسائلي له حين تتباعد بنا السبل والمدن والقارات، وعندما كنت أزوره في منطقة الجسر الأبيض ” بداية حي العفيف” في طريق المهاجرين بدمشق، ولا أجده أترك له ورقة أكتب عليها ” صديقك اللّدود” ، وهي الإشارة التي كانت بيننا، أو كلمة السرّ التي تجمعنا، في حين كان هو يردّد “صديق الخلاف” وهو ما كتبه إلى لجنة حفل التكريم الذي أقيم لي بمناسبة منحي “وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي” (القاهرة ، 20 آذار/مارس 2003).
يقول طارق الدليمي” … وفقط من هذا المنظور الملموس، بدأت رحلة علاقتنا الإنسانية التي أخذت صفة (أصدقاء الخلاف).ومرّت هذه الأواصر بأجواء مفعمة بالتباين ومكتظّة بأنواع السجالات التي لا ترحم بالمعنى السياسي المجرّد، والذي يحتفظ علناً بقدراته على الإغناء والعطاء”. ويضيف: “… وكان شعبان لديه الطاقة الخاصة على المبادرة ضمن عقله الأكاديمي الجديد المنصهر في بوتقة الحياة الثريّة والمندغم مع المنظومة الفكرية التي رعاها مبكّراً وبشجاعة تثير الإعجاب. (من كتاب عبد الحسين شعبان – صورة قلمية : الحق والحرف والإنسان، إصدار البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان، القاهرة، 2004).
لم أجد أمتع وأجمل من الحوار مع طارق الدليمي، وبقيت أفتقد إلى ذلك حين تحرمنا الظروف من التواصل المباشر، على الرغم من التواصل الوجداني وعبر الانفعال الإنساني لكل ما نكتب أو نقرأ، فالجلسة معه لها نكهة خاصة وطقوس أكثر خصوصية وفضاء شديد الرحابة، فكل شيء لدى الدليمي ينبض بالحيوية والسؤال، خصوصاً حين تكون معه بضيافة على كأس عرق أو قدح نبيذ، حيث كان يتفنّن أبا زياد في صنع المازات اللذيذة شرقيها وغربيّها، وعنده تعرّفت على الأرضي شوكي ” الأنغنار” أو “الخرشوف”، و”الزيتون المكلّس” الذي لم أعرفه من قبل.
كانت شقته الصغيرة الجميلة مفتوحة لاستقبال الأحبّة في كل الفصول: في الشتاء والخريف حيث تجد الدفء يملأ المكان، وفي الصيف والربيع وبدايات الخريف أيضاً كان سطح شقته العامر هو المكان المناسب لأماسي الدليمي بنسماتها العذبة ، حيث يلتقي أدباء ومفكرون ومثقفون وسياسيون من شتى الألوان والأجناس: رجالاً ونساءً، عراقيون وسوريون وعرب، خليجيون ومن شمال أفريقيا في “منتدى ثقافي فكري جامع ومنبر مفتوح ومتنوّع تتعدّد فيه الرؤى والاختيارات”، وبقدر ما كانت همومه عراقية متميّزة كانت أجندته العربية مزدحمة باستمرار ، حتى أن السطح يمتلئ أحياناً بمتناظرين ، مختلفين ومتّفقين، والمهم أن يكون الحوار جاداً ومسؤولاً، حتى وإن اتّسم بالحدّة العراقية المألوفة.
II
شلّة طارق الدليمي التي كانت مستمرّة ومكانها محفوظاً، حتى وإن غابت لأسابيع أو أشهر تتكوّن من : مظفر النواب وقيس السامرائي وهادي العلوي وكاظم السماوي وجمعة الحلفي وسعدي يوسف وعدنان المفتي ومحمد عبد الطائي وعبد الحسين شعبان وآخرين.
ويتردّد عليها كثيرون منهم: جواد الأسدي ومنذر حلمي وماجد عبد الرضا وعبد اللّطيف الراوي وفوزي الراوي وعلي كريم وعادل مراد ومحمود عثمان ومحمود شمسه وهاشم شفيق ومحمد الحبوبي ومخلص خليل وشاكر السماوي وعزيز السماوي ورياض النعماني وعوني القلمجي وعامر بدر حسون ووائل الهلالي (حكمت) وشفيق الياسري (هاشم) وناهدة الرماح وزينب ولطيف صالح وشوقية وحميد البصري ووليد جمعة وجليل حيدر وعبد الكريم كاصد وأحمد المهنا وعبد المنعم الأعسم وسامي كمال وكمال السيد وكوكب حمزة وعلي عبد العال وأبو أيوب وساهرة القرغولي وقيس الزبيدي وفاضل الربيعي ورشاد الشيخ راضي وصاحب الحكيم ومحمد جواد فارس ورحيمة السلطاني وعبد الرزاق العاني وعلي الصرّاف ونبيل حيدري، وقسم كبير من هؤلاء أعضاء في ” رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين” التي تأسست بعد هجرة اليساريين والشيوعيين أواخر العام 1979 وغيرهم، ومن كان قادماً من كردستان أو ذاهباً إليها يجد في شقّة طارق الدليمي الصغيرة الدافئة الأنيسة الأليفة ملاذاً في إحدى الأماسي.
وكان طارق الدليمي يستمع إلى القادمين ويحاورهم لمعرفة المزيد عن الأوضاع والساحات، لتبدأ جلسة حوار مفتوحة في موضوعات شتّى ونستمع أحياناً إلى قراءات شعرية أو عرض لمشهد مسرحي أو اقتراح لمشروع ثقافي، أو رؤية سياسية جديدة أو فكرة عن تحالف أو اتحاد أو انشقاق أو تكتّل… كل ذلك كان يجري بحميمية وإخلاص، حتى وإن كان الطريق الذي يتم اختياره والتوقيت والزمان خاطئاً، لكن منزل طارق الدليمي يجعل الكثيرين يبوحون بما يحتفظون به من أسرار، أو هكذا يتصوّرون حين يحاولون إخفاءها،وبعد حوارات ونقاشات بعضها أقرب إلى الاستنطاقات يبدأون بالحديث والبوح حتى وإن ترددّوا في بداية الأمر ، بفعل الأجواء الثقافية والفكرية الجادة والحميمية، فالأسرار للتنظيم فقط، لاسيّما ما هو ضروري، أما في الفكر والسياسة فكل شيء ينبغي أن يكون علانية وواضحاً ومفهوماً، بل وينبغي أن يكون منطقياً ومقنعاً وليس ثمة أسرار في ذلك .
كان بعض متشدّدي الأحزاب المعارِضة الموجودة في دمشق يعتبرون تلك الجلسات خطراً عليهم ويحذّرون “أتباعهم” من الاقتراب منها، خصوصاً إذا ما تعرّضت لبيروقراطيتهم وكشفت بعض المخبوء أو المستور الذي لم يُسلّط عليه الضوء الكافي، ولاسيّما إذا كان جوهرياً وخارج دائرة الاصطفافات المُسبقة، ووصلت أخبار هذا المنتدى الثقافي – الفكري إلى أوساط غير قليلة، حتى ممن تم تحذيره فيزداد فضوله، فيغامر ويخادع ليجد فرصة لدعوته أو يلصق نفسه بأحد المدعويين في خميس أحد الأسابيع، فعلى الأقل يحظى بسهرة أو أمسية واحدة ليكتشف ذلك السر الدفين في محبّة أصدقاء كثر لطارق الدليمي، حتى وإن اختلفوا أو تخاصموا معه، لكن الرغبة في التواصل تبقى قائمة لديهم وتلمّست ذلك مع العديد منهم.
وعلى المستوى الشخصي لم يحصل أن حدث بيننا خصام طيلة نحو ستة عقود من الزمان عرفته فيها، حتى حين كانت تتأزم المواقف سياسياً وتتباعد التوجّهات، فأتجنب زيارته لأسبوعين أو أكثر، لكنه كان يتصل ويتواصل لنتناسى ما يحصل أحياناً من حدّة الخلاف، وفي أكثر الأحيان كنت أنا المبادر فيفتح طارق الدليمي صدره وقلبه وعقله وضميره وبيته ليستقبلني بالأحضان.
III
حين تعرّفنا على بعضنا كان الاختلاف هو الجامع، وتلك فرادة في الصداقة بحد ذاتها، وكان اللقاء على منصّة الجدل ساخناً والسجال شديداً، حيث كان طارق الدليمي قد بدأ حياته في حزب البعث أواخر الخمسينات، وهو من الشخصيات العروبية الشديدة الاعتزاز بآرومته، إضافة إلى ثقافته الموسوعية وعقله الناقد، وأستطيع القول إنه مثقف رؤيوي بامتياز وصاحب مواقف متميّزة حتى وإن كانت خاطئة، وكان شجاعاً وغير هيّاب، جريئاً لا يخشى في الحق لومة لائم.
وبقدر ما كان مؤمناً بالأمة العربية ورسالتها الحضارية وبالهويّة الثقافية للقومية العربية في كل تحولاته وتقلّباته الفكرية، فقد كان في الوقت نفسه شديد الإيمان بالبعد الاجتماعي لقضية التغيير، لاسيّما وإن قضية الحرّية والعدالة جوهرا النهضة هما مسألتان كونيتان وأمميّتان، ولذلك ظلّ مع كوكبة لامعة من البعثيين يبحثون عن طريق آخر، ربما طريق ثالث، فالتغيير بالنسبة لهم وعلى حد تعبير المفكر ياسين الحافظ: “حفرٌ في العمق وليس نقراً في السطح”، لكن ذلك لم يشفِ غليله، فقد كان قلقه المعرفي وثقافته المتنوّعة وقراءاته الفلسفية مائزة ورائزة على أقرانه، بما فيها لغته الإنكليزية التي كان يقرأ بها، وكان يعتقد إن الجانب الاجتماعي لا بدّ أن يُضاف ويُستكمل ويتعمّق إلى الفكر العروبي.
وهكذا تململت تلك الثلّة المتميّزة من الشباب البعثي، فاختارت الطريق الوسط بين الحركة الشيوعية والحركة القومية بتأسيس “حركة الكادحين العرب” ومن أبرز رموزها عبد الاله البياتي وحبيب الدوري ومحمد الزيدي وطارق الدليمي ومحمد حسين رؤوف ووثاب السعدي ودرع ظاهر السعد ومزهر المرسومي وصادق الكبيسي وسعيد جواد الرهيمي وقيس السامرائي وهناء الشيباني (التي استشهدت بعد التحاقها في المقاومة الفلسطينية / أواخر العام 1969)، ثم اتخذ هؤلاء خطوة أخرى بالاتجاه نحو اليسار فأطلقوا على حركتهم اسم “المنظمة العمالية” التي دخلت انتخابات الطلبة ضمن قائمة اتحاد الطلبة في ربيع العام 1967 وفاز بعضهم ضمن تشكيلات الاتحاد، وقد انضموا إلى “حزب القيادة المركزية” بعد انشقاقه عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في 17 أيلول (سبتمبر) 1967، خصوصاً وإن الاتجاه “اليساري” الذي اختطته القيادة المركزية، إضافة إلى التوجّه الجيفاري الذي عبّرت عنه باختيارها الكفاح المسلح، داعب مخيلتهم حتى قبل تأسيسها، الأمر الذي وجدوا مكانهم الطبيعي فيها مع بعض الاختلافات بشأن العروبة وجوهرها التقدمي، والتمييز بينها وبين الاتجاهات القومية المتعصّبة .
وكان طارق الدليمي قد سبقهم إلى ذلك، حين كان بصلة خاصة داخل التنظيم الحزبي منذ العام 1964، ومع حسين جواد الكمر تحديداً ، على الرغم من اعتراضاته على خط آب (أغسطس) العام 1964، الذي عُرف بالخط اليميني- الذيلي- التصفوي، كما اصطلح عليه ورفضته غالبية القواعد الحزبية، ويوم حدث الانشقاق كان طارق الدليمي في المواقع الأولى الذي دعمته، وكان قد أحيط علماً بتوجّهات لجنة منطقة بغداد التي كان على صلة بها وبالعديد من أعضائها، وقد عمل مع القيادة المركزية بخط خاص، وكانت له آراؤه الخاصة، ويومها كان طارق الدليمي طالباً في الصف الخامس في الكلية الطبية، وقبل أن ينتقل إلى الصف السادس، تم اعتقاله وبعد خروجه من المعتقل التحق بحركة الكفاح المسلح، ثم بدأت رحلته في الغربة التي منعته من إكمال السنة المتبقية له، سواء في دمشق أم عدن أم القاهرة، وشخصياً كنت وما أزال أعتبره أمهر طبيب، على الرغم من أنه لم يحصل على الشهادة النهائية، وكنتُ أثق بتشخيصاته وألتزم بنصائحه الطبية. وعلى الرغم من مضي أكثر من 5 عقود على تركه مقعد الدراسة ، لكنه ما يزال يقرأ وبنهم الكثير من المصادر والمجلات الطبية ، مثلما يقرأ القضايا الفكرية والأعمال الأدبية بطريقة منهجية تثير الإعجاب.
IV
حين كان طارق الدليمي بعثياً كنت شيوعياً، ويوم التحق بالقيادة المركزية، كنت على ملاك اللجنة المركزية، وكانت السجالات مستمرة بيننا بصورة مباشرة وغير مباشرة، إضافة إلى كوكبة من الوجوه والشخصيات الطلابية والثقافية والمنشغلة بقضايا الأدب في مقاهي بغداد وحاناتها وكلّياتها وأروقتها الجامعية، ونتنقل أحيانا وفي اليوم الواحد لعدّة مقاهٍ: من البلدية إلى عارف آغا، ثم إلى البرلمان والشابندر والبرازيلية والمربعة ، وفي المساء نمرّ على مقهى ليالي السمر ومقهى المعقّدين، ثم نفترق لنتوزّع على الحانات التي نختارها: آسيا، بلقيس، كاردينيا، الجندي المجهول، الشاطئ الجميل، رومانس، فندق سميراميس، وأحياناً سرجون وحسب شلّة الأصدقاء، وكان ذلك يحدث مرّة على الأقل كل عشرة أيام أو أسبوعين، ولكن النقاش يستمر هو ذاته ،وأتذكّر في إحدى المرّات والقصة بطلها سلام مسافر، احتدم النقاش حول أحقية القيادة المركزية أم اللجنة المركزية وأيهما أفضل عزيز الحاج أم عزيز محمد؟
ولا أدري كيف انتبه سلام مسافر إلى أن المتحاورين حملوا اسم عزيز، وهم كل من: عزيز حسون عذاب وعزيز السماوي وعزيز خيّون وعزيز السيد جاسم، فما كان منه إلّا أن يقول: قفوا عن أي عزيز تتحدّثون : فكل عزيز (كذا)، وضحكنا جميعاً وكأن قالباً من الثلج وزّع على المتحاورين أو المتلقّين في يوم قائظ وشديد الحرارة، وهي النكتة التي بقينا نردّدها ونقولها تورية أحياناً ” كل عزيز – كذا” واستعدتها مؤخراً مع سلام مسافر خلال زيارتي لموسكو، وكانت دعابة مثل تلك كافية لتحسم النقاش ودّياً، بدلاً من الاختصام .
V
في الذكرى الأولى لعدوان 5 حزيران (يونيو) 1967 قرّرت الأحزاب والقوى السياسية والنقابات الخروج بتظاهرات بالمناسبة ، ولم يتم الاتفاق بيننا وبين القيادة المركزية، فذهبت أنا إلى تظاهرة اللجنة المركزية بالاتفاق مع البعث اليساري (الجناح السوري) وذهب طارق الدليمي إلى تظاهرة القيادة المركزية ، وقد انطلقت بعد تظاهرتنا بساعة أو أكثر، وسارت متساوقة مع تظاهرة للحركة الاشتراكية العربية واتحاد نقابات العمال (هاشم علي محسن)، وحين انتهت تظاهرتنا في الباب الشرقي (ساحة التحرير) وكانت قد انطلقت من ساحة الأمين بدأت تظاهرة القيادة المركزية من ساحة الميدان، وعدت لأشاهد تظاهرة القيادة المركزية وشعاراتها لكي أرى حجم المتظاهرين وهتافاتهم التي كانت تردّد: “باسم القيادة ننادي يسقط الحكم العسكري” و”يا فاشي شيل إيدك كل الشعب ميرديك”.
وكنت قد ركبت الباص المتوجّه من الباب الشرقي عبر شارع الرشيد لأصل بالقرب من الشورجة، حيث كانت التظاهرة قد تجاوزت سوق الصفافير، وحين نزلت من الباص وجدت طارق الدليمي يسير بالقرب من نرجس الصفار في التظاهرة وسلّمت عليهما وكان معي ثلاثة أصدقاء قدموا من النجف والتقيت بهم بالصدفة في الباص، وجاءوا في زيارة خاصة إلى بغداد، وحين عرفوا وجهتي انضموا إليّ، خصوصاً وكان اثنان منهما يعتبران على ملاك الحركة الشيوعية وهما السيد علي الخرسان والسيد باسم كمونة، وهما ينتسبان إلى عائلتين دينيتين مثل عائلتي، والعوائل الثلاثة لها حق الخدمة في حضرة الإمام علي منذ قرون بفرامين سلطانية من الدولة العثمانية.
وحين دوهمت تظاهرة القيادة المركزية وتفرّقنا ذات اليمين وذات الشمال، ولحظتها كنتُ أسير برفقة طارق الدليمي، لكننا قطعنا حديثنا إثر ظهور بوادر هجوم على التظاهرة، فقفز الدليمي إلى جهة اليمين وقفزت أنا نحو الشمال، وحسبما ما يبدو كان مرصوداً وربّما هناك من شاهده يودع مسدسه عند نرجس الصفار، فتجمّع حوله نحو خمسة رجال أمن وحاولوا سحبه إلى السيارة المتوقفة قرب مقهى البرازيلية، لكنه حاول مقاومتهم رافضاً ذلك، فانهالوا عليه ضرباً وأدموه، حتى سقط أرضاً فحملوه بقوة وهو يرفس مقاوماً الصعود إلى السيارة.
وقد أطلقتُ العنان لساقيّ كي تسابق الريح بالاتجاه الآخر، بعد أن خاطبني الصديق عبدالرزاق سلمان (السعدي) بقوله: اركض لكي لا يلقى القبض علينا، وبدوري نبّهت الخرسان وكمونة، بذات العبارة التي كلّمني بها السعدي، ودخلنا في الأزقة المتفرّعة حتى وصلت إلى شارع الجمهورية، وانتقلت إلى الرصيف الآخر، وبقيت أراقب خروج الصديقين الخرسان وكمونة، ولكنهما لم يخرجا وقلت مع نفسي لعلّهما استمرّا في نقاشهما أو تعبا من الركض ففضّلا المسير ببطء ، وسيتصلان بي في مساء اليوم ذاته أو في اليوم التالي، لكنهما لم يتّصلا وقلت مع نفسي ربما لم يسمح لهما الوقت للاتصال فعادا إلى النجف .
وحين زرت النجف بعد أكثر من شهرين لانجاز معاملة نقل النفوس التي ظلّت معلّقة، علمت من الصديق الثالث (محسن الشرع) أنهم دوهموا من شخص يحمل رشاشة وضعها في صدورهم، وكان اثنان آخران يحملان مسدساً حيث تم تفتيشهم، وقد أخلي سبيله بعد أن أعطاهم هويته وكان حينها معلّماً، أما هما فقد اقتيدا إلى جهة مجهولة، وفي المساء جيء بهما إلى فندق قصر النيل حيث كانا قد استأجراً غرفتين وتم تفتيش حقائبهما، ثم نقلا إلى سجن الفضيلية، وهناك إلتقيا بطارق الدليمي وتعرّفا عليه وعرفا منه أنه صديقي وعرّفاه بنفسيهما باعتبارهما من أصدقائي، ومن المفارقة أنهما حين اعتقلا احتسب أحدهما على ملاك القيادة المركزية والآخر على ملاك اللجنة المركزية، حتى أنهما افترقا في المعتقل، وتلك واحدة من أجواء الصراعات غير العقلانية التي عشناها.
وحين عرفت بمعلومة اعتقالهما وبأن النجف عرفت القصة التي شاعت فيها وكيف التقيتهما في الباص واصطحبتهما معي إلى التظّاهرة، قرّرت العودة أدراجي وتركت المعاملة التي ظلّت معلّقة حتى عودتي من الدراسة في نهاية العام 1977 والتي لم تنجز إلّا في مطلع العام 1978، حيث كان والدي قد أضاع أولوياتها، ولم يطلق سراح طارق الدليمي بعد 17 تموز (يوليو) 1968 مباشرة حتى حين تم إطلاق سراح المعتقلين والسجناء ، وقد تأخّر بضعة أسابيع قياساً لأقرانه، وحين صدر الأمر بإطلاق سراحه وجاء شقيقه خالد لكفالته، وتم ترتيب الإجراءات القانونية، نقل إلى مديرية الأمن العام ، وبعد أن تكفّله شقيقه، أسرعا الخطى لمغادرة المبنى وفي الممر العريض فوجئا بأحد مسؤولي الأمن ينادي من خلفهما بصوت عال: طارق.. طارق ، وحاول أن يتجاهله بحجة أنه لم يسمع صوته، لكن هذا الأخير صرخ بأعلى صوته : أبو زياد.. أبو زياد ، فاضطرّ الدليمي التوقّف ملتفتاً إلى الخلف، حتى فاجأه ضابط الأمن بالقول: لدينا 6 طوابق تحت الأرض أتعلم ذلك؟ فلا تعد إلينا وإلّا سيكون مصيرك أسوداً، وردّد على مسامعه: أقولها لك محذّراً أتفهم ذلك “ستة طوابق” وهو ما كنّا نتندّر به وغالباً ما كان يغمز طارق بعينيه وبإشارة من يده ” ستة طوابق” .
حاول طارق الدليمي العودة إلى الكلية، وكنتُ قد تخرجت حينها، لكن أسر “الجملة الثورية” من جهة والخشية من الاعتقال مجدّداً من جهة أخرى، لاسيّما وأنه كان معروفاً وناشطاً ، هما وراء تغيير مسار حياته، علماً بأن القيادة المركزية استمرت في رفع شعار إسقاط السلطة مندّدة بالانقلاب المشبوه، وهو ما دفعه للتفتيش على مكان آمن لممارسة عمله فاختار منطقة الأهوار، وحاول التوجه إلى الريف تحضيراً لبدء عملية كفاح مسلح من تلك البؤر الثورية، وبقي هناك لبضعة أسابيع حتى وصلته التعليمات بضرورة السفر إلى الخارج، فتوجّه إلى دمشق، التي ظلّت قاعدته الأساسية مهما تغيّرت الاختيارات من القاهرة إلى عدن ثم إلى صوفيا، لكن الشام هي التي حظيت بعشق طارق الدليمي فاختارها إقامة “عشاً” له ، مثلما اختار “قدس” اسماً لابنته.
وأتذكّر أن الدكتورة سعاد شعبان التي كانت زميلة له وإن التحقت بالكلية الطبية في بغداد بعده، سألتني عنه حين التقيتها وزوجها الدكتور محمد موسى خلال زيارتي إلى بريطانيا في أواسط السبعينات، حيث كانت تدرس في ليدز، وكذلك الدكتور ناهض شعبان الذي استفسر عنه وكان يعرفه أيضاً ويتابع نشاطه وإن سبقه في التخرّج.
في العام 1973 زرت دمشق للقاء العائلة (الوالد والوالدة وأختي سميرة وأخي حيدر)، وكنت حينها قد بدأت دراسة الدكتوراه في براغ، والتقيت به وكان قد تغيّر وقد أخذت منه الغربة الكثير ، فبدا أكبر سناً وأكثر معاناة وأشدّ مزاجاً، وبدأ الشيب يتسلّل إلى مفرقيه، وفي دمشق نسج علاقات واسعة مع ابراهيم علاوي ومظفر النواب والحركة الكردية والبعث السوري والحركة الاشتراكية في إطار ما سمّي بالتجمّع الوطني العراقي الذي تأسس لاحقاً، لكنه ظلّ ناقداً ومبادراً وغير متلقٍ، لأن عقله مؤسس على النقد : نقد الفكر ونقد السياسات ونقد السائد واليومي من الظواهر والممارسات. كما توسّعت علاقاته مع المقاومة الفلسطينية ، وخصوصاً “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” بحكم صلاته مع قيس السامرائي صديقه الحميم والذي ظلّ على علاقة وطيدة به واستمرّت حتى الآن.
VI
وبعد هجرة الكثير من اليساريين العراقيين في أواخر العام 1978 وبداية العام 1979 أسّس طارق الدليمي مع مجموعة من الشيوعيين السابقين تنظيماً باسم ” حركة الطليعة الديمقراطية”، وأصدروا جريدة شهرية كانت مقروءة في حينها واحتوت على أخبار مهمة، وكان من بين الذين تعاونوا معه سليم مطر وأبو علي درعا وإياد السعيدي، وآخرين التقاهم في دمشق منهم وهاب شعبان الذي نطلق عليه ” الشيخ” وصادق الحسني البغدادي الذي كنّا نسميه ” الحجّة” والإثنان كانا شيوعيين سابقين وظلّا متعاطفين مع الحركة الشيوعية وناقدين لسياساتها، وعرفت منهما أنهما كانا يزوّدان جريدة “الطليعة ” التي يصدرها بأخبار ومعلومات عن الأوضاع في العراق ، وزارا دمشق أكثر من مرّة، حيث التقيت بهما حين وصلت دمشق في العام 1980، قادماً من بغداد، كما كان الرافد الفلسطيني مصدراً آخر لبعض الأخبار الطازجة، وسافر أكثر من سفرة إلى ليبيا في زيراة “معلنة” وغير معلنة في إطار العلاقات مع المعارضة العراقية، لكنه بعد حين لم يواصل العمل في هذا الإطار الذي بدى عبئاً عليه فقرّر تركه.
وحين بدأت الحرب العراقية – الإيرانية تفاوتت المواقف بيننا أيضاً باختلاف مراحل الحرب ومواقع القوات العسكرية وأهدافها، وإذا كانت الحرب عدوانية وهجومية من النظام العراقي 1980-1982، فإنها بعد معركة المحمّرة ” خرمشهر ” وانسحاب الجيش العراقي إلى الأراضي العراقية ، واختراق القوات الإيرانية للأراضي العراقية والتبشير بالمشروع الحربي والسياسي الإيراني الذي يقوم على تصدير الثورة، أصبحت عدوانية توسعية من جانب إيران ووطنية دفاعية من جانب العراق (1982-1988) حتى تم وقفها بعد عام على صدور قرار مجلس الأمن 598 في العام 1987، علماً بأنها في جميع المراحل لم تخدم سوى الإمبريالية والصهيونية، حيث تم تدمير طاقات البلدين الجارين وتحطيم قدراتهما الدفاعية وهدر أموالهما ، فضلاً عن خسارة نحو مليون إنسان في حرب عبثية لم يكن لها مبرّر على الإطلاق، وكان يمكن حلّ الخلافات بصورة سلمية وبالمفاوضات وطبقاً للقانون الدولي وليس عبر الحرب والنزاع المسلح.
وإذا كانت اتفاقية 6 آذار (مارس)1975 المعروفة باسم ” اتفاقية الجزائر” مجحفة ومذلّة بشأن العراق، وهي التي وقعها صدام حسين نائب الرئيس العراقي حينها مع شاه إيران محمد رضا بهلوي لكن الحرب ليست الوسيلة المناسبة لاستعادة الحقوق التي تنازل عنها ذات النظام في شط العرب بموجب ما سمّي بخط الثالويك، وهو خط وهمي يقع في أعمق نقطة في وسط مجرى النهر وحتى البحر، ناهيك عن التنازل عن أراضي عراقية في اليابسة.
وفي الوقت الذي كنّا ندين غزو القوات العراقية لإيران، إلّا أن تورّط صدام حسين في مثل تلك الحرب قاد إلى الاعتقاد أن بالإمكان الإطاحة به ، الأمر الذي كانت تراهن عليه قوى كثيرة، بل أن بعضها اعتبره ” آيلاً إلى السقوط” وما على المشروع البديل إلّا أن يحضّر نفسه في محاولة لتضخيم الذات واستصغار شأن الخصم، وحاول طارق الدليمي في المرحلة الأخيرة من الحرب التنسيق مع اللواء حسن النقيب ومصطفى جمال الدين وشخصيات أخرى، لم تكن بعيدة عن التوجّه السوري، حيث تمت دعوتنا ماجد عبد الرضا وكاتب السطور للتوقيع على بيان مشترك، لكننا لم نتّفق على الصيغة والتوجّه وبعض الأسماء، وهو الأمر الذي اختلفنا حوله بشأن غزو القوات العراقية للكويت، وربما كانت مواقفنا متطابقة إلى حدود كبيرة خلال فترة الحصار الدولي الجائر المفروض على العراق.

VII
وحين انتقلت إلى لندن زارني طارق الدليمي وحلّ ضيفاً عليّ بعد أن وجّهت له دعوة خاصة، وناقشنا مواقف المعارضة العراقية، وكان موقفه متحفظاً على عدد من الشخصيات التي بدأت تظهر على السطح وبعضها في إطار ” لجنة العمل المشترك” في لندن، بل إنه وضع علامات استفهام على بعضها تلك التي انخرطت بالمعارضة بعد غزو الكويت أو عشية ذلك، بما فيها بيان الشخصيات العراقية الـ28 الذي صدر العام 1989 ووقّعه من طرف الحزب الشيوعي عزيز محمد ورحيم عجينة وعبدالرزاق الصافي، وشخصيات أخرى مثل هاني الفكيكي وأحمد الجلبي ومحمد بحر العلوم وليث كبّة وجلال الطالباني وعدنان المفتي ومحمود عثمان ورشاد الشيخ راضي وآخرين.
وأتذكّر أن طارق الدليمي حاصرني بالأسئلة وأمطرني بالتساؤلات حول البيان الذي صدر لنا في العام 1981 مع “جهة عراقية” لم ترغب بالإعلان عن نفسها، وكنت حينها مسؤولاً عن علاقات الحزب العامة خلال وجودي في دمشق، لكنني حلفت له بأغلظ الأيمان بأنني لم أكن حينها أعرف تلك الجهة، وبالمناسبة فقد امتنعت من إيصال البيان إلى القوى السياسية العراقية والعربية والأجنبية، ولأنني لم أحصل على إجابة كافية عن “الجهة المجهولة” التي لا تريد أن تفصح عن نفسها وعن هويّتها، ففي ذلك إحراج لم أرتضه لنفسي، فضلاً عن ذلك عدم تقدير لمسؤوليتي، وعدم احترام للحزب الذي كنت أمثّله.
وحاول الدليمي أن يقلّب الأمور معي كثيراً، لكنه تأكّد من عدم معرفتي للجهة الموقّعة على البيان، وأنني لا أخفي اسمها، علماً بأن حدسنا الأوّلي كان ثمة مجموعة من داخل النظام كانت تحاول مدّ الجسور مع الحزب، ولهذا السبب لم ترغب أن تعلن عن نفسها وتلك واحدة من الإحراجات غير القليلة التي فتحت علينا التباسات وتقوّلات كنّا في غنى عنها ، الأمر الذي زاد في موقفنا ارتباكاً، خصوصاً بعد تجميد عضوية الحزب في “جوقد” (الجبهة الوطنية والقومية الديمقراطية) التي مثلنا الحزب فيها عبد الرزاق الصافي وكاتب السطور وحضرنا اجتماعين بعد انعقادها كانت عاصفة، حيث تم تجميدنا وتلك قصة أخرى. واتّضح لي بعد حين أن تلك الجهة التي حاولت لبس “طاقية الإخفاء” تعمل مع أجهزة دولية جاء دورها بعد غزو القوات العراقية للكويت العام 1990.
وقد سألني بخصوص تشكيل ” الجبهة الوطنية الديمقراطية” (جود) التي تأسست في كردستان بعد أسبوعين من تشكيل جوقد، بسبب استبعاد الحزب الديمقراطي الكردستاني من جوقد لموقف ضاغط من الاتحاد الوطني الكردستاني وجلال الطالباني تحديداً، علماً بأن الجبهتين لا تختلفان عن بعضهما كثيراً، باستثناء الحساسيات السياسية والارتياحات الشخصية وبعض المواقف المسبقة، وكان رأينا الذي أبلغناه في لقائنا مع عبدالله الأحمر (الأمين العام المساعد لحزب البعث) ، زكي خيري وعبد الحسين شعبان، قد اشتمل على ثلاث مقترحات يكون الأخذ بأي منها تسوية للخلاف ونزعاً للفتيل ودرءًا للأزمة التي عصفت بالمعارضة في حينها: الأول- توحيد الجبهتين وإنهاء المشكلة، الثاني- ضم الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) إلى جوقد وحلّ جود لأن الحزبين الأساسيين المتبقين هما الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي الكردستاني أعضاء في جوقد أساساً وكانت وجهات نظرهما منذ البداية ضم ” البارتي” وإضافة حزب الباسوك إلى جوقد لتكوين أوسع إطار للمعارضة ، والثالث – تشكيل لجنة تنسيق بين الجبهتين ، والهدف هو إنهاء الخلاف المحتدم في صفوف المعارضة، وتطبيع العلاقات بين أطرافها ، خصوصاً الخصومة التاريخية بين ” حدك” و”أوك”.
وكان رأي طارق الدليمي ما دام هناك ” صقور” في الفريقين فلن يتحقق ذلك، وهو ما حصل فعلاً حيث انفجر الخلاف وتحوّل إلى صراع حاد وجرت مناقلات من جانب بعض الأطراف وساد جو من الكراهية والبغضاء والإساءات ، لم يكن له مبرّر على الإطلاق.
VIII
لم يكن مفاجئاً لطارق الدليمي حين اتخذت قراراً مع ثلّة من الرفاق بالعمل على تأسيس منبر شيوعي من داخل الحزب لفتح حوار ونقاش حول سياسة الحزب بشكل عام والحرب العراقية- الإيرانية بشكل خاص، وذلك بالتعاون مع عدد من الرفاق والأصدقاء وبعض الوجوه الثقافية التي كانت تدعم توجهنا، ووقّع عدد كبير منها ( 75 مثقفاً بينهم طارق الدليمي) على مذكرة احتجاجية بشأن السياسة الثقافية، وفي مقدمة الشخصيات التي شاركت في تأسيس حركة المنبر: نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وخالد السلام وماجد عبد الرضا وآخرين. وكانت ثمة اختلافات بعضها نظري يتعلق بالماركسية وطريقة التعاطي معها بهدف تجديدها انطلاقا من الواقع وبما ينسجم مع ظروف العراق وأوضاع العالم العربي ، وبعضها عملي يتعلق بشكل خاص بالموقف من الحرب العراقية- الإيرانية حيث اعتبرنا موقف ” إدارة الحزب” ممالئاً للحركة الكردية ولإيران. وكذلك في الموقف من التحالفات التي رأينا فيها خفّة وتسرعاً، إضافة إلى اعتراضاتنا على عملية ” عسكرة الحزب” و”الحرب بالطليعة” تحت عنوان “الكفاح المسلح”، ناهيك عن تحفظاتنا إزاء عمل الداخل والخسائر التي منينا بها، والاندساسات التي أصبحت شائعة، فضلاً عن الصراعات الداخلية والتغوّل على الرفاق بأساليب “غير رفاقية” وهو ما كان طارق الدليمي لديه معلومات واسعة عنه. وحين أصدرنا صحيفة “المنبر” وكنت مشرفاً على تحريرها وطبعها كان الدليمي متعاطفاً معنا على الرغم من بعض تحفظاته إزاء بعض مواقفنا، لكنه كان يقدّر إعلاننا عن توجهاتنا .
وكان طارق الدليمي يعرف الكثير من آرائي ووجهات نظري بخصوص العديد من القضايا الفكرية والسياسية، وكان موقفي من الحرب العراقية- الإيرانية أخذ يزداد تباعداً عن القيادة الرسمية على الرغم من أنني ممثلها في الشام، وكان ذلك واضحاً منذ إصدار كتابي “النزاع العراقي- الإيراني : ملاحظات وآراء في ضوء القانون الدولي” والذي كتب مقدمته الرفيق باقر ابراهيم (1981) الذي تعرّف عليه الدليمي في وقت لاحق (أواخر الثمانينات).
وكم كان منفعلاً حين عرف بقصة ثابت حبيب العاني ” أبو حسان” الذي كان ينزّهه عن مثل تلك الاتهامات الرخيصة ويردّها إلى الأجواء غير الصحية والتسلطيّة التي كانت تبحث عن كبش فداء لسياسة التحالف السابقة والخاطئة، وكان يقول ذلك أمام زائريه من الشيوعيين وأحياناً يستأذن منّي كي لا أنزعج أو يتعامل معي من باب ” الميانة”، لأنني لم أكن أحبّذ أو أرتضي مثل تلك المداخلات أو التراشقات، لكنه بلا شك كان ينطلق من حرص واجتهاد، مثلما كانت لديه معلومات مثيرة ونادرة ودقيقة في الكثير من الأحيان، وكانت مواقفه حادة ، خصوصاً فيما يتعلّق بكرامته الشخصية و”شرفه الثوري”، ففي إحدى المرات، وفي أوائل التسعينات وأمام عدد من الموجودين في مقهى فندق الشام استشاط غضباً من “أحدهم” فقال له لقد نقلتم رحيلكم من الـ KGB إلى CIA والآن تحاولون النيل من مواقفي، وقد حدث ذلك بعد تصريحات بشأن تبرير العلاقة مع القوى الخارجية تحت عنوان “العامل الدولي”. وكم أبدى ارتياحه حين نشرنا في “المنبر” مقالة كتبها مهدي الحافظ دفاعاً عن “أبو حسّان” وكشفنا فيها تلك التهم الكيدية التي استخدمت في الصراع الحزبي الداخلي، وكنتُ قد رويت ذلك في مكان آخر لأكثر من مرّة.
وحين علم أنني قبلت حضور مؤتمر فيينا 1992 للمعارضة العراقية دخلنا في نقاش طويل، بشأن توجهات المعارضة والاختراقات التي تتعرّض لها، وكان رأيه صائباً وقد لمست ذلك بنفسي، فمناهضة الدكتاتورية لا تفترض الارتماء في أحضان الضفة الأخرى، فذلك دليل عجز وقصور نظر، وقد كان هادي العلوي الذي زرناه يردّد ” لعلّ صوتاً واحداً شجاعاً أغلبية”، وهو ما ذكره مرّة أخرى خلال زيارتي الثانية له مع الصديق رياض النعماني.
وحينها كنّا قد توقفنا عن إصدار المنبر واعتبرنا تحركنا استنفذ أغراضه وكان العلوي قد سألني: هل يعني هذا العودة إلى ” الجماعة” أو باتفاق معهم؟ وهل ثمة ترتيب ما؟ فقلت له : لقد استنفذ الصراع أغراضه وثمة ظرف جديد علينا التحرّك لتجميع القوى بمختلف اتجاهاتها، فبلادنا أمام خطر داهم ، وبالنسبة لي فإنني كنت منذ زمن أفكّر في اتخاذ موقف مستقل خارج إطار الكليشيهات والقيود التي ليس لي القدرة على تحمّلها، فقد ضقت ذرعاً بسياسات لم أنسجم معها وبممارسات كنت أرفضها، ولهذا سأبقى خارج إطار أي تنظيم وخارج أي إطار، وقد وجهنا رفاقنا لاختيار كل منهم الموقف الذي يريده، بما فيه العودة إلى الحزب، فالطريق مفتوح أمامهم وعليهم أن يختاروا ما يريدونه ويرتضونه، وذلك في رسالة كتبتها لهم بالاتفاق مع نوري عبد الرزاق في 27 كانون الأول (ديسمبر) 1990 وبعد الاتصال بمهدي الحافظ، وكان آخر عدد للمنبر قد صدر في وقتها ( قبل شهرين من ذلك، واحتوى نتائج الاجتماع الموسع لحركة المنبر الذي عقدناه بعد غزو الكويت).
وللعلم لم يكن العلوي ميّالاً لموقفنا وتوجهاتنا وكان أقرب إلى إدارة الحزب، بل اجتهد في نقدنا، لكنه كان يحترم أشخاصنا وخياراتنا، منذ إعلان تحركنا في البيان الذي أصدرناه حول الحرب العراقية- الإيرانية في العام 1986 ووقعه ستة رفاق هم: نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وأحمد كريم وخالد السلام وماجد عبد الرضا وعبد الحسين شعبان، وقبله التقييم الذي أصدرناه في العام 1984 “من وحي اليوبيل الذهبي للحزب الشيوعي – حديث صريح في الهموم والآمال لمجموعة من قادة وكوادر الحزب” وظلّت العلاقة مع العلوي قائمة بزيارات متكررة من جانبنا ماجد عبد الرضا ومحمد جواد فارس وكاتب السطور .
ومن القضايا التي أذكرها لأول مرّة أن عمود “نقطة ضوء” في صحيفة المنبر كان في الغالب حوارات بيني وبين طارق الدليمي ، أذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض العناوين منها: الثورة الاجتماعية والجغرافية السياسية (العدد 4) و” التحالفات وضياع الرؤيا” (العدد5) و”الرهانات الخاسرة والموقف المسؤول” (العدد 6) و”المشروع والصراع” (العدد 9).

IX
من الشخصيات التي أحبتها والدتي نجاة شعبان هو طارق الدليمي وذلك خلال الأشهر التي أقامت فيها مع أختي سميرة وعائلتها في دمشق انتظاراً لكي أُكمل أمر إقامتها معي في لندن بعد أن تركت العراق بليل بهيم، حيث تعرضت للاعتقال والاستجواب عدة مرّات، وعلى مدى عقدين من الزمان، وكان طارق الدليمي يزورها باستمرار ويهتم بها ، وكانت بكل اتصال معي تشيد به ومن تعليقاتها الطريفة: إنه صاحب معشر حلو وابن خير ويعرف كل شيء عنّا وكأنه عاش معنا طوال حياته، وبالطبع كانت علاقته بالعائلة قوية جداً بأختي سلمى وأخي حيدر وكل ما يتعلق بالأقارب والأصدقاء القريبين، فإنه يعتبرهم عائلته أيضاً، مثلما هي علاقتي بوالدته وخصوصاً خلال زيارتها إلى دمشق وشقيقه خالد.
لم أر الجواهري الكبير يوماً بمزاج وردي مثلما رأيته عند جلوس طارق الدليمي إلى جانبه، فثمة شيء من الكيمياء حصلت بين الرجلين، خصوصاً والجلسة كانت في منزل شقيقتي سلمى، حيث دعوت الجواهري وعائلته وبحضور شقيقته نبيهة (أم كاظم ولواء وصفاء ورواء الجصاني) وصادق الجواهري وعائلته وجمال الجواهري ، إضافة إلى الفنان سامي كمال والشاعر الشعبي جمعة الحلفي وزوجته (أم زينا)، إضافة إلى المثقف الفلسطيني اليساري داوود التلحمي رئيس تحرير مجلة الحرية وطارق الدليمي .
وحين دارت ” الأكؤس من صغرى ومن كبرى “، كان الجواهري يضحك من القلب ما أن يهمس طارق الدليمي في إذنه، وكلّما كان الفنان سامي كمال يتحفنا بألحانه ويشنّف أسماعنا بطربه، كانت الابتسامة تكبر على فم الجواهري، وبين وصلة وأخرى كان جمعة الحلفي يسمعنا “المحمّداوي” في حين كانت أم زينا تبهجنا بصوتها العذب والأغاني الشعبية، وشيء ما بالفارسية التي كانت تعرفها. وظلّ الجواهري يسأل عن الدليمي باستمرار، علماً بأن الأخير كان من محبّي الجواهري في الشعر والمتابعين له، وإنه يحتفظ بجميع دواوينه في مكتبته العامرة.
وبالعودة إلى العنوان، أختتم هذه السردية بما كتبه طارق الدليمي إلى لجنة التكريم في الحفل الذي أقيم لي في العام 2003 في القاهرة عن صديق الخلاف المعتّق “… ولكن الذي لم يكن مفاجئاً هو أننا سرعان ما نلتقي في فواصل أخرى، أكثر حميمية وأعمق إنسانياً وأهم حياتياً ، وبذلك يصحّ القول أن شعبان الذي يجمع بين برودة العقل وحساباته المنطقية المزعجة، كان يحمل بين جنبيه قلباً دافئاً ينبض بهموم الناس (وأهل) القضية كيفما كانت أو ستكون. ومن هذه الشرفة كانت عزيمته لا تلين وإصراره على الحوار للوصول إلى النتائج الحاسمة …”
ويضيف الدليمي :” فالسياسي لدى شعبان لم يكُن يتناقض مع القانوني وأكاد أصرّ أن هذه الحالة الجدلية الخاصة كانت تستفزه شخصياً قبل أن تثير حفيظة الآخرين ولم نتحمّل نحن أصدقاؤه هفواته الصغيرة، وذلك ليس بسبب المحبّة الاجتماعية والاحترام الشخصي، ولكن أيضا لمعرفتنا الجادة إن الطاقة الذاتية للمراجعة والمحاكمة الداخلية لا بدّ أن تصاحبها احتواءات إنسانية ذات هدف إنساني… لا يمكن قطعاً الحديث بالتفاصيل عن المحطّات العديدة التي كنّا سوية فيها ونحن ننتظر قاطرات متغيّرة ومغايرة “.
لعلّ خاتمته متناظرة مع خاتمتي في حديثي عن صديقي اللدود المثقف الرؤيوي الذي كان يتحسّس بروحه وقلبه وعقله في آن، فقد كنّا لا نتوقف عند الأشياء الصغيرة والاختلافات العابرة والملاحظات الظرفية، لأننا كنّا مدفوعين بثراء التفاصيل وعمق الصداقة وأفق المعرفة المفتوح، وهناك قول أثير ” فالصديق إنسان هو أنت إلّا أنه بالشخص غيرك”
كان طارق الدليمي أنيساً ، ظريفاً، خفيف الظلّ، لمّاحاً، صاحب قلم جميل وجملة رشيقة وفكر أنيق، ويحمل من المواصفات الشخصية خصالاً تكاد تكون نادرة، لاسيّما إذا اجتمعت بشخص واحد ، فهو شجاع بلا حدود ولكن دون ادعاء، وكريم على نحو تلقائي دون تكلّف، وصاحب رأي في كل الأوقات أخطأ أم أصاب، وكان طيب القلب وإنساني النزعة ومحبٌ للخير ومتفان ومخلص للصديق رغم حدة مزاجه أحياناً، كما كان صاحب مروءة “وعلى شرف قدر الناس تكون المروءة” حسب الإمام علي ، فهو لا يقبل بظلم أحد أو إهانته أو استضعافه وقد يكون مستعداً للدخول في معركة دفاعاً عن شخص لا يعرفه، لمجرد أنه يشعر بأن إجحافاً ما أصابه أو غبناً ما لحقه أو تعرّض لإساءة.
طارق الدليمي وهو على مشارف الثمانين، كل متاعه من هذه الدنيا ، بضعة كتب وحفنة أصدقاء وضمير حي ومروءة لا تنقطع.

نشرت في صحيفة الزمان (العراقية) على حلقتين ، العددان 6588 و 6589 بتاريخ 18و19/2/2020