منذ تشكيل الدولة العراقية المعاصرة والانظمة الحاكمة لها تسير في مسارات متعرجة، تتغير بتغير إيديولوجياتها ولكن السمة المصاحبة والملاصقة لتلك الانظمة هي الطائفية السياسية التي لا يمكن التخلص منها باي شكل من الاشكال، وان ما تعمل عليه تلك الانظمة هو التمظهر امام الشعب بعدم قبولها ورفضها، لتنأى بنفسها عما تسببه من تغيرات اجتماعية وجغرافية وسياسية في مجتمعات عاشت بسلام وامان. وهذا ليس بمعزل عن الدوائر الاستعمارية والرأسمالية التي تحاول توطين الطائفية وتمكينها لمصالحها، وهناك امثلة كثيرة عبر تأريخ العراق المعاصر في هذا الاتجاه ففي عهد الاحتلال البريطاني، فرضوا على العمال الشيعة ارتداء كوفية زرقاء وعلى العمال السنة ارتداء كوفية حمراء، وكذلك الاختلاف في الاجور. اما بعد عام 2003 قامت السلطة المدنية للاحتلال الامريكي ببناء نظام سياسي اعتمد المحاصصة الطائفية لحكم العراق، وبين فترة الاحتلال البريطاني والاحتلال الامريكي سارت كل الحكومات على هذا النهج باستثناء حكم الزعيم عبد الكريم قاسم. من هنا يتولد اليقين بان الطائفية ماهي الا اداة لتغيير وجهة الصراع الطبقي.
ان اكثر من يكرس الطائفية هم ساسة احزاب الاسلام السياسي (الطائفية السياسية) واغلبهم ليس لديهم التزام ديني أو مذهبي بل هم يحاولون الحصول على شعبية ليكونوا قادرين للوصول إلى السلطة. وهذا ما لاحظناه بعد تغيير النظام بعد عام (2003) اذ بغياب الحكومة والانظمة والقوانين لم تكن هناك طائفية، وان الجماهير كانت تبحث في تلك الفترة عن سلطة قادرة على تلبية حقوقها التي حرمت منها نتيجة لسيطرة النظام الدكتاتوري واعوانه على الثروات وخيرات البلد، هذا ما دفع الجماهير الكادحة التي عانت ويلات الحروب والحصار والفقر والعوز وكذلك الانفتاح على العوالم الخارجية بكل تجلياتها وتطوراتها والتحول الى الديمقراطية زاد من وعيها وكان ذلك بداية لصراعات طبقية، فما كان من احزاب الاسلام السياسي وبدفع من قبل المؤسسات الرأسمالية العالمية الى تغيير وجهة الصراع من طبقي الى طائفي للحفاظ على مصالحم الذاتية والوصول الى السلطة، تحت مظلة الديمقراطية.
هذا المفهوم لمصطلح الديمقراطية يقودنا الى طرح التساؤل المهم في ظل التغيير الذي شهده العراق بعد عام (2003) وتحوله من نظام دكتاتوري شمولي مستبد الى نظام ديمقراطي، ومدى قبول احزاب الاسلام السياسي بمفهوم الديمقراطية والتي تعني اختيار السلطة عن طريق الشعوب من خلال الانتخابات الحرة النزيهة ومدى
تطبيق اٌلياتها وهي العلمانية المقترنة بها والتي لا يمكن فصلهما عن بعض، في حين تخلو برامج تلك الاحزاب من اية اشارة لهذا المصطلح ومن آلياته، وتعتبر العلمانية الخصم والعدو اللدود لاحزاب الاسلام السياسي. مما جعل تلك الاحزاب تتمظهر بقبولها بل تتقمص دور العلمانية وقبولها بالديمقراطية، في حين انها تؤمن ايمانا مطلقا بمفهوم الحكم الشرعي وهو حاكمية الله من خلال من يمثله في الارض من رجال الدين.
وهذا ما سعت اليه احزاب الاسلام السياسي بعد الاحتلال عام (2003) وانتهاء حقبة الدكتاتورية والدعوة الى احلال نظام ديمقراطي بديل، حيث سارعت هذه الاحزاب الى تبني مفهوم الديمقراطية ليكون سلما للوصول الى السلطة، ولكن بشرط ان لايكون بمفهومها العام وبالياتها المرتبطة بالعلمانية، والتي تدعو الى الانتخابات الحرة وحرية الرأي والتعددية الحزبية والحريات الفكرية والسياسية ورعاية حقوق الاقليات والتداول السلمي للسلطة (عن طريق انتخابات حرة نزيهة) وضمان عدم الجمع بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية وترسيخ مبدأ الدستورية، انما ارادت ان تكون ديمقراطية سياسية بعيدة ومجردة عن العلمانية التي تعمل على فصل الدين عن الدولة والتي تجرد احزاب الاسلام السياسي عن ادواتها واسلحتها التي بواسطتها تستجدي وتسيطر على وعي الجماهير عن طريق المقدس وهو الدين.
كما ان اغلب احزاب الاسلام السياسي تؤمن بولاية الفقيه (احزاب الاسلام السياسي الشيعي) او تكون لها مرشد ومرجعية للافتاء (احزاب الاسلام السياسي السني)، وبهذا فأن مفهوم الديمقراطية يتقاطع مع تلك الاحزاب. وكل شعاراتها التي طرحت خلال سنوات ما بعد ألتغيير بسعيهم الى تشكيل دولة ديمقراطية مدنية ما هو الا وهم وسراب توهم به جماهيرها للوصول الى السلطة ومن ثم التجرد عن كل ما دعوا اليه.