23 ديسمبر، 2024 8:02 م

” طائر البرهان ” للشاعر حيدر الحمداني – قراءة عاشقة

” طائر البرهان ” للشاعر حيدر الحمداني – قراءة عاشقة

حين رأيت الغلاف اول مرة على جدار الفيسبوك  لا ادري لم فكرت في الكهف الذي دخله الانسان قديما و رسم على جداره  شهادة مروره.
تساءلت إنْ كان كهف حيدر الحمداني هو ذاته في مواجهة العالم  المغلق، متشظيةٌ سماؤُه،  تملأُ أدخنةُ الحروب فضاءَه و ارضَه القاحلة  المتشققة من هول ما رأى و ما كابد في رحلة الحياة مِمّا زَجّ به في هُوة الصدى.. و الاغتراب مما يحيلنا الى النقطة التالية:
 دلالة العنوان:
طائر البرهان قصيدة ارتقت لتصبح العنوان المخاتل الذي لا يعني فقط طائر العراق الرامز للغياب بل قد يعني طائر السعادة الازرق سعادة الميت الذي ارتاح من اهوال الحرب  . ربما  يعني حلما بلا مرفأ في الواقع /حلم العودة المؤجل /حلم السلام المؤمَّل . و قد يكون لون الحقيقة التي تؤمن بالموت و اله الموت..
طائر حيدر ازرق و الزرقة  لون شفاف لون الفراغ و الماء ماء الفرات، لون نقيّ بارد تماما كالموت الذي غيّب محمد الاخ ، لذا لا نستغرب ان يكون الديوان صرخة مهداة لروح الغائب ، صرخة تعود الى الشاعر من كل الجهات و تصُمّه حتى  تتعرى دواخلُه بين الصفحات..
دلالة الشكل:
قصائد الديوان 33  تتراوح ما ين الموغل في الموجز ك قصيدة بدون عنوان ص 61 في بضعة سطور  ينفتح إختزالها غابات من مسامِّ الشاعر الذي ينضح مرارا.يقول:
“”ترى ماذا وراء الغابة/اضطراب مفاجئ ام هوية مشوشة؟””
و  قصيدة  موجزة  أخرى بعنوان “احلام”ص 51  تتسلل عبرها حروف الشاعر ارواحا (بتعبير ابن عربي) متعطشة للسّمُوّ و انغام الحياة و لو ان الشاعر ينكص اعلامه  في  قصيدة   بعنوان ” الشاعر” ص 56 تقول (( كل ليلة  يغلق نافذة  العالم/ و يطبع قبلة الموت/في هشيم/ القصيدة)) و كلمة قصيدة في آخر النصّ تتشظى حروفا تقطر كما لو كانت روحها  تنفذ منها.
بعض نصوص الديوان لوحات بمنطق تشكيلي . إذ يلعب الشاعر في فضاء الصفحة لينشر معنى التصدي و السقوط مثلا في قصيدة (مقاطع ) ، يضمّ  التعبير بالكلمة الدالة على المعنى الى التعبير بالتشكيل في الفضاء النصّي بما يوحي  بالمعنى. يقول في المقطع الثالث ص65 : “انطبقتْ السماء ذات يوم/تراجعتُ قليلا /واثقا من سقوط قلبي قُرْب المخيم.”
الشاعر رسَمَ الاسطر متدرجة اشبه ب منحدر تنزل منه العين في تتبعها للسطور. الجلي في هذا الشكل  دلالته على النزول و الانحدار و سقوط الشاعر من درجة مواطن الى رقم لاجئ في المخيمات.
الى جانب كتابة السطور بشكل مائل هناك دلالة التنقيط في نفس قصيدة مقاطع ص 68 / هناك سطر “شعري” هو فقط عبارة عن نقط مسترسلة . سطر يشبه لحظةَ صمت في سياق صرخة. صمت كاشف يعتمل في باطن الشاعر فيطفو مستوى التعبير نقطا متواترة كصرخة مضمرة تنضح معنى يقطع مع شكل خاو في الظاهر لكنه يثبت ان “اللالغة”  منتجة للمعنى شأن اللغة ذاتها فيما يمكن تسميته بلاغة الصمت.
بما أنّ الشكل البصري يلقى في القصيدة الحديثة مقاما حيويا يجعل الكتابة اداة بصرية لإنتاج المعنى و الايحاء به ، افتح  هنا قوسين للتساؤل عن  مدى تداول مصطلح الكتابة البصرية كمصلح نقدي  …للتعامل مع الصفحات كعتبة للقراءة التشكيلية و معرفة كيف يلعب المبدع في الخواء الشكلي و طريقة توزيعه للأبيات  و النصوص و ما يرسمه بكتابته من اشكال مشفرة…تعطي البعد البصري المشَاهَد لفتح النص الحداثي على فضاء متعدد الوسائط ،   فيصير النص مكتوبا بصريا مسموعا يضج حركية …
 نعود للشاعر الذي يستسلم على ضفاف اطول قصيدة محترقا بنار وحدته عنوانها: ( وحيدا…اسمع الليل يثقف رماحه)ص13.النص يبدأ بالغابة الدامية و ينتهي بشوارع تشحذ اقنعة الريح. بين المطلع و المَتَمّ تتطاير بعض الكلمات كالحرب في ص 16 يسار الصفحة كصورة لواقع متطرف بينما ياتي المطر في وسط الصفحة و كذلك الملح في ص 18 لتواجهنا الكلمات المشتتة في ص 19 مما يؤكد ان الرسم الشعري صورة حقيقية ناطقة عن  ذاكرة الشاعر التي تجلد صاحبها ..و هويته التي تحمل “الموت كوعكة غامضة”  كما يقول الشاعر البرتغالي بيسوا.
بعيدا عن الدلالات
قارئ طائر البرهان يجد صدى البحث عن المعنى  و تعبيرا عن رؤية للعالم شاعرية في سوداويتها  تؤكد ان حيدر حمداوي مبدع ب “أنا”   شديدة الحساسية  تُعَري العالم من الداخل و تسبر خفاياه للخروج من الالم و المعاناة . ادواته : لغة سليمة  يُطَوّعُها بحِسّ مرهف ليحصل على تعابير قاسية بدءا من الاهداء الخاص إلى الاخ المغيب غصبا  بينما روحه تظل مرفرفة في قلب مُحَمَّل بعذابات  لا تنتهي ..
طائر البرهان قصائد لمْ يغزلها الشاعر بنعومة تحلو للقارئ العادي… الحرب ليست  أليفة كي يكتبها  الشاعر المغترب  الذي ذاق طعم البارود و نام على ملمس الدّم و صحا على شرُفات المنافي …كيف يكتب ذاته بغير نغمة الحزن و الحنين ؟ أ لا يقول الفرنسيون ان
“الشاعر بطبيعته حزين و لغة الشعر دائما تطبعها نغمة الناي “؟
إذا كنا نؤمن انّ الكتابة تماس الذات مع نفسها و أن  الشعر شذرات تشرق في عتمة جوانية…لا يسعنا إلا توقع  ان ينضح حيدر الحمداني وجعا في ما رسمه على حائط روحه عن حقيقة العالم المُخْتَلّ حوْله .
إذا كان  الشاعر العربي الجاهلي يَعُدّ الحرب جزءا بنيويا من التركيبة الاجتماعية و جزءا من حياته العامة و كان طبيعيا ان تسكن الحرب شعره  كالمعلقات و الاصمعيات ، حتى عبقت انفاس القصائد بالحماسة  و دفق الملاحم  ، فإن الشاعر العربي المعاصر لا يَسَعُه إلا الصراخ “الحرب لعنة الحضارة” لأنه شاعر غاضب  من الدمار ،محموم  من طغيان قوة الشرّ، لم يعُدْ يقبل اختناق صوت السلام، فيُطْلِقُ في محيطِه صوتَه الحانق الثائر المشدودَ الى نفحاتٍ إنسانية حتى لو كان يدري انه لن يتصدّى للتيار العام في عصره، و لا يمكنه الوقوف في وجهه.
فهل  نشأة الشاعر العراقي حيدر الحمداني وحياته ومكابدته للمنافي ، بذور تعلّل نبرة قصائده المأساوية ؟
كنموذج نأخذ قصيدة (وحيدا…اسمع الليل يثقف رماحه) ص 13  هي قصيدة دامية دامعة مسرجة بالمخاوف مفجوعة في اطفال و ارامل (امام نوافذ الاله يندبون/شتاؤهم ينطفئ بالربيع و مراوحه) ص 17.
هل نعتبر قصائد حيدر الحمداني مانيفستو يرفع بياناته للتعبير عن حالة استعجالية، للخلاص من ضغط  اجواء الحرب و رائحة الموت و عذاب المنافي ؟؟
هل نعتبرها تظاهر من اجل الحياة و رغبة في الخروج من وثنية الصمت ؟؟
هل نعتبرها وسيلةُ الشاعر للاستغناء عن الكلام  ليكون صدى يجدد معنى الصرخة التي تكتب شكلا من اشكال التأريخية الفردية ؟؟
في نص”جميع الجهات وجهك “ص 35يتحقق القاء الذاكرة القصوى  داخل الكلام حيث الصدى  يعاد و يعاد دون انقطاع لصنع صوت الذاكرة/ صنع الصدى لتصبح الكتابة مهمة روحية تحدد موقف الشاعر من الحرب/الموت/المنفى/الحياة ، تصبح القصيدة معركة ضد الموت و ضد النفي، تصبح لحظةَ انصاتٍ منفتحة على صوت الشاعر للعبور من صداه الى صداه، لعبور جسر ينبني من موت الاخ في القصيدة الاولى الى امل العودة الى ارض سومر في القصيدة الاخيرة.

هولدرلين يقول ان (الانسان يقيم و يحيا شعريا على هذه الارض). و الارض يملؤها الدمار فما نفع الشعر في زمن الموت  ؟
يقول حيدر الحمداني (كلَّ ليلة يغلق نافذة العالم و يطبع قبلة الموت في هشيم القصيدة)
هل هذا منتهى اليأس؟ أمْ مراوغة لليأس ؟
الشاعر حيدر الحمداني : يكتب تيمة الموت مفككة بين الصرخة و الصدى/ هذا الصدى  يبدأ من الغلاف  و يتردد على مدى الديوان الى آخره ..اتساءل:
هل يمكن تصنيف ديوان طائر البرهان في خانة شعر الحرب بما ان الديوان صدى لحرب معينة  من تاريخ العراق  ؟
ام ان الديوان رغم ذلك يعد خلف الزمان خارج المكان وراء الشروط فوق الحدود خارج القيود…
يُعَدّ صوتا حُرّا يؤمن بأنّ الشّعر حرية في حد ذاته ،سفر من و الى الذات..
على كل حال
 أفق الديوان مصاب بزوبعة،  مصبوغ  بالرماد ومشقوق القلب..ينسُج قصائد كاملةَ الحدّة تنصهر الروح  فيها مع الوعي الشقي ، يُدَوّن المصير أسئلة تتوارد من منابع عدة تتعالق فيها الجذور و الضغوطات …يتسلق الشاعر زمنه ليجدل  من عتمته املا يسير به في اتجاه استعادة مناخاته لوصل الماضي بالحاضر بحثا عن عودة أبدية ممكنة الى سومر…يقول في القصيدة الاخيرة ص 72
“سيدتي ادخلي قفص الاضلاع ضميه اليك- هذا الجسد المنهك- تحاصره الطلقات- تهاجمه الصرخات- تقيم عليه الايامُ خساراتها -ادخليه سيدتي- بحرير يديك الناعمتين علك تفتحين القلب و تهجعين فيه -لنكمل المسيرة سيدتي نحو جرح العراق آه سيدتي نحو ارض العراق.”
قبل أن اختم اود الاشارة الى الصوت السردي في ديوان طائر البرهان:
يحضر الصوت السردي في كل القصائد المتشرنقة في الأنا المتألمة الآملة المتأملة الناسجة للموت في الصدى صانعة لحرية واهمة داخل قيد المنفى …في قصيدة “مقاطع”ص 65 تطالعنا الحقائب التي لا تحمل غير القلب الكسير المشقق على حدود المخيم.
 الدرامية المسرودة  تبلغ مداها في سرد التفاصيل (الاسلاك الشائكة تطوق اليدين/ تطوق الكلام /لكني قطرة قطرة عبرتها متجها نحو البحر) ص 66
النص مدخله الوصف تمهيدا لغربة  الجماعة ،مدار تستعيد فيه الذات حضورها في نبرة حزينة متولدة عن غربة الوجود و الموجود بحثا عن وطن لا يبعد كثيرا /ص69  تقول( تستقبل الصحراء العراقيين/جاؤوا يرفعون الشمس و الخطى الهشة)  و في ص 71 (كثيرا ما نثرثر في الخيام عن  الهزائم التي خلفتها المعارك كثيرا ما نكره بعضنا لكننا لم نفكر يوما ان لنا بلادا لا تبعد عنا إلا بضع كلمترات).
//على سبيل الخلاصة: يقول نيتشه: “الشاعر يلف حول الانا في القصيدة ككل”
حيدر حمداني يلف حول نفسه يلتف على الموت كي لا يهلك ، يلف القصيدة بقماط أناه ليفرغ فيها موت بعضه من كله بلغة دائرية  تتموقع في كينونة الشاعر و تفتحه على الألم و تزرع المنافي في روحه  .
قصائد حيدر الحمداوي لا تريد للقارئ أن يطمئن إلى النص بل تريد أن تزرع فيه شحنة من الألم وحفنة من القلق تجعله ينصت إلى الحرب في نفَس الشاعر، ينصت الى الوطن في قلبه، الى الحياة في نبرة حرفه …
 طائر البرهان إشراقات ابداعية من عتمة تجربة خاصة  اشتغل عليها شاعر اجاد تشكيل عوالم كتابته بما اننا لمسنا ترجمته لذاتيته في نصوصه و لمسنا نكهة السرد في لغة لها توهجها و حضورها رفعتْ من قيمة شاهد على الأحداث  في تجربة موسومة بالخصوبة  و العمق تعكس بحث الانسان  عن معنى السلام الضائع و مسائلة الذات في تطوافها الاليم عبر تجاويف المنافي  و تصادم الكينونة مع حتمية الموت…….فشكرا للشاعر و طائره الازرق الذي ضمن لنا متعة الابحار في عالم  شعري بحس وجودي شفيف.