قبلَ نحو شهرٍ من الآن , فاجأ السيناتور الأمريكي الشهير ” جون ماكين ” الرأي العام برمّته حين صرّحَ بأنّ : < المقاتلات الأمريكية التي تقوم بطلعاتها او غاراتها الجوية على داعش في العراق , فأنّما تعود الى قواعدها دون أن تُطلِق او تقصف اية قنبلةٍ او صاروخٍ على مواقع داعش > اي انها تعود محمّلة بذات حمولتها .!
التصريح هذا بلا شكّ قد سببّ حرجاً للولايات المتحدة عن دورها الذي رسمته في محاربة داعش , وعلى اثرها سارع المتحدث بأسم الخارجية الأمريكية لتلافي هذا الإحراج ” وترقيع الموقف ” بقوله أنّ عودة تلك المقاتلات مؤدّاه عدم التسبّب بتعرّض المدنيين للقصف .! أمّا كيف وصلت هذه المعلومة البالغة السرّية الى السيناتور الأمريكي .؟ فلم تتعرّض لذلك ايّة وسيلة اعلام امريكية او غيرها .. وقد اعقبت تصريح ” ماكين ” تصريحات مماثلة لعددٍ قليلٍ جداً من بعض السياسيين الأمريكان تؤكد ما كشفه .
مؤخراً او قبل يومين تحديداً , ومن دون أن يسأله أحد , بادر السيد ” جون كيربي ” الناطق الرسمي بأسم وزارة الخارجية الأمريكية للإدلاءِ بتصريحٍ جديدٍ بهذا الشأن قال فيه : < إنّ الطائرات الأمريكية التي تتوجّه لقصف مواقع داعش , فأنها تعود ادراجها دونما القاء قذائفها ! ولسببين اولهما : صعوبة تحديد الأهداف لداعش ! , وثانيهما : عدم التسبب بأضرارٍ للمدنيين > !!
وقبلَ أن نقول لو أنّ السيد ” كيربي ” لمْ يُدلِ بتصريحه هذا لكان افضل له وللإدارة الأمريكية ايضاً .! وأنه زاد الطين بلّه بكمياتٍ مفرطه أدت الى مفعولٍ عكسيّ .! , وقبلَ ” ايضا ” أن نعيد الكلم ونشير الى أنّ من الخطأ الفادح أن يتحدّث أيّ ناطقٍ رسميٍّ مدني في شؤونٍ عسكرية وحربيّة لا يفقه منها شيئاً , فأننا هنا سنُفنّد بالبراهين والأدلّة المقنعه , ثمّ سنقوم بتعرية – STRIPTEASE ” اي التعرية على مسرح الإعلام وليس على مسرح الفن ! لكلّ ما جاء على لسان الناطق بأسم الخارجية الأمريكية حول التسويغ الخاوي لعودة المقاتلات الأمريكية بقذائفها من حيث اقلعت , وسنفاجئ السيد الناطق ” جون كيربي ” بحقائقٍ يجهلها كي لا يُورّط نفسه ” ونعلم مسبقا أنّ السفارة الأمريكية في بغداد تترجم كلّ ما يُكتب ويمسّ الشأن الأمريكي الستراتيجي : –
1 إنّ ايّة عملية قصفٍ جويٍّ لأهدافٍ معادية , فتسبقها ” كما معروفٌ ” عملياتُ تصويرٍ جويٍّ سواءً بطائرات الأستطلاع او عبر طائرات التجسس , والأكثر من ذلك هو الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية لمسرح العمليات , وَ وِفقَ ذلك يجري تحديد الأهداف وتسجيلها على الخرائط التي يحملوها الطيارون لتنفيذ مهماتهم , ومن هنا يتضح اذا ما كان الهدف الداعشي داخل مدينة او رتلٌ يسير في الطرق الخارجية او مستودعات عتادٍ في المواقع الخلفية , وما الى ذلك من الكثيرِ والكثير .
2 وعدا أنّ تنظيم داعش يفتقد لوسائل الدفاع الجوي , فمن المعروف والمسلّم به عسكرياً أنّه متاحٌ للطيارين ولأقصى الحدود ! ضرب وقصف ايةَ اهدافٍ متحرّكة للعدو اثناء تعذّر قصف الأهداف الأرضية الثابته , ومن خلال ذلك , فهل لم يجد الطيارون الأمريكان اية عجلةٍ او مركبةٍ داعشيةٍ تتحرّك , او شاحنةٍ تنقل ذخيرتهم ومؤونتهم ومستلزماتهم الأخرى طوال هذه المدّة .!
3 في هذه النقطة الحسّاسة او البالغة الحسّاسية سأعرضُ مثالين عمليين وواقعييّن يختزلان و يفنّدان كلّ ما وردَ على لسان وشفاه الناطق بأسم الخارجية الأمريكية حول المقاتلات التي تعود بحمولتها .!!
– Aفي سبعينيات القرن الماضي , واثناء الحرب الأهلية اللبنانية وافرازاتها في تمركز منظمات المقاومة الفلسطينية و قياداتها في العاصمة بيروت , تكرّر ولأكثر من مرة أن قامت المقاتلات الأسرائيلية من نوع ” فانتوم ” الأمريكية الصنع ” وتعتبر اليوم من الجيل القديم وتمّ اخراجها من الخدمة ” بأطلاق صاروحٍ موجّه من مسافة 35 كيلومتر ليتّجه الى نافذه في احد الطوابق من العمارات العالية التي يسكنها احد مسؤولي منظمات المقاومة ” بعد ورود معلومات استخبارية عن المكان او الموقع السرّي ” , وما مقصودٌ بضربِ هذا المثال ” ضرباً مبرحاً او التشديد للأشارة اليه ” هو تبيان دقّة ضربة الصاروخ الجوية تلك ودون أنْ تؤثّر على سكّان العمارة ولا حتى الشقق الأخرى في نفس الطابق , وكان ذلك قبل نحو نصف قرن , والأساس في ذلك هو مقارنته بما يزعم به الناطق بأسم الخارجية الأمريكية من زعمٍ وإدّعاءات .!
B – في سنة 2003 وفي الأيام الأوائل للقصف الجوي الأمريكي على بغداد , وفي مفاجأةٍ لمْ تكن متوقّعة – حيث لم تكن لها من ضرورة , كانت احدى طوابق بناية وزارة الإعلام الشامخة والتي تُشغلها ” الدائرة الهندسية ” قد تعرّضتْ لصاروخٍ اطلقته طائرة مقاتلة امريكية وحطّمتْ ما فيه من آثاث واجهزة التصوير مما لم يراد اخلاؤها , ودون أنْ تتأثّر الطوابق الأخرى من ضربة الصاروخ على الإطلاق .
C- بعدَ أيّامٍ قلائلٍ جداً من استهدافِ طابقِ الدائرة الهندسية بذلك الصاروخ الدقيق , كان السطحُ المكشوفُ لوزارة الإعلام قد تعرّض ايضا لصاورخٍ آخرٍ من طائرةٍ امريكيةٍ اخرى لتتهشّم من جرّائه ” صحون ” البث لقناة الفضائية العراقية ” آنذاك ” والتي إقتصرَ معظم بثّها آنذاك على الأناشيد الوطنية , والذي ايضاً لم تتأثّرجرّاؤه ايٍّ من الطوابق الأخرى لبناية الوزارة من هذه الضربة الصاروخية , وهذه الحادثة او الحادث او الحدث له علاقة مباشرة و حميميّة بتصريح المدعو ” جون كيربي ” المتحدّث بأسم الخارجية الأمريكية حول عودة قاذفاتهم ومقاتلاتهم بقنابلها وصواريخها كي لا تخدش مشاعر المدنيين العراقيين أثناء قصف اهدافٍ داعشيّةٍ .!!
ربما ليست هنالك من ضرورة مُلِحّة للتحدث مفصّلاً عن الأمكنة والقواعد والأهداف التي تتوزع وتنتشر فيها قوات داعش وفق المنطق العسكري الصرف , لكننا نشير فقط الى أنّ تعدد الجبهات التي تجري فيها مواجهة الدواعش وامتداداتها الى الحدود العراقية – السورية تفرض فرضاً أن تكون هنالك اهدافاً داعشيّةً متحرّكة ومتنقّلة ” بعيدا عن المدن والمدنيين ” سواءً على صعيد نقل الذخائر والأسلحة وكذلك المقاتلين وارسال التعزيزات المختلفة , وهذه كلّها اهدافٌ سهلة ” وبأمتياز ” لطائرات التحالف بدلاً من عودتها مُحمّلة بحمولتها .!
وفي الواقع , فلا يمكن التشكيك بقصف المقاتلات الأمريكية والغارات التي تشنّها على هؤلاء الأرهابيين , لكنّ نسبة هذا القصف وتأثيراته وإطالته وعدد المقاتلات المتواضع والخجول هو الذي يقع ضمن دائرة الإبهام المحاطة بجدران الأحجية الشامخة , والتي هي من الأسرار العسكرية الأمريكية , كما أنّ ما يعزّز ذلك هو أنّ الأدارة الأمريكية ” ومنذ بدايات انطلاقة الدواعش ” فأنها سارعت مسبقاً الى القول او الإعلان عبر الإعلام بأنّ الحرب مع هذا التنظيم سيستمرّ لسنينٍ عدّة .!
ثُمَّ , ولكي نبتعد ” هنا ” عن توجيه الإتهامات للإدارة الأمريكية دون أدلّةٍ ملموسة , ولكي ايضاً لا يجري إتّهامنا بذلك , فنقول إنّ الإنطباعات الشخصية للغالبية العظمى من العراقيين على الأقل ” ولا نتحدّث هنا عن الأكراد ” تحملُ تصوّراً وقناعةٍ متكاملين أنّ الولايات المتحدة تتعامل بأزدواجيةٍ واضحة المعالم في قضية داعش , ولا يقتصر هذا الإنطباع على الجانب السياسي فحسب , وانّما يتركّز اكثر على التعامل العسكري او القصف الجوي لطيران التحالف , ومن المؤكد أن الرأي العام العربي يشارك العراقيين في هذا الإنطباع .
نتمنّى على ” جون كيربي ” متحدّث الخارجية الأمريكية أن يتوخّى الدقّة في تصريحاته , ويبدو أنّه بحاجة لأخذ ” كورسات ” في الإعلام الحربي …